المفهوم المعتاد للاستشراق الذي قام به من دعوا بالمستشرقين أنهم
أناس جاؤا إلى بلدان الشرق ليكسبوا منها مالاً أو مجداً أو كليهما معاً.
وطبيعي فالبداية التي دخل بها المستشرقون البلاد الشرقية كان يلف غايته
شيء من الغموض ولكن الصورة العكسية التي لم تكن متوقعة أن عدد من
المستشرقين قد أحبوا الشرق وفضلوا العيش في كنفه وهجران بلدانهم
الأصلية.
الشرق العربي – الإسلامي كان القبلة الفضيلة والمفضلة لـ(المستشرقين
الغربيين بالذات) وبهذا المفهوم وبعد أن وجد بعضهم أن الحياة الشرقية
على سجية الروح تعيش رغم ما يلف بعض جوانبها من رتابة المشاعر لكن
للتحرك لعمل شيء ما يبقي هؤلاء المستشرقون لاستمرار بقية حياتهم في
بقاع الشرق هي المشاعر الفاعلة والمتفاعلة. فقد وجدوا أن الحياة
المشرقية هي أفضل من حيث بساطة الحياة وصدق معاملات الناس بصورة عامة
في ربوعها وحال الاسترخاء الروحي والتأمل للأشياء المغرر بالاستقرار
كلها أمور قوية ليهجر بواسطتها أولئك المستشرقون الدموع التي كانوا
يذرفونها على حالهم وهم في أول صعود المجتمع المدني الغربي إلى حياة
المادة حيث أخذ ينشط الرأسمال الشخصي على حساب الرأسمال العام.
والمستشرقون الذين ألفوا الكتب عن خلاصات ما وجدوه في البلدان
الزاهية وما كانوا عليه من أمور لحري أن يتبعوا الوسائل التي تحفظ حق
المجتمعات في مورثاتها، أما عن كون هناك ثنائي أو ثلاثي أو رباعي دولي
لم يراع أي سبب يعترف بأن لأي مجتمع الحق فيما يملكه واللاحق بما هو
مجير لغيرهم ففي هذا دعوة لوسيلة أخلاقية عالية، أن سر الاستشراق لم
يكن على وتيرة واحدة رغم أن غالبية المستشرقين قد باعوا ضمائرهم
ومواقفهم وقدراتهم العلمية من أجل كسب المال.
واليوم فقد تغيرت الأحوال والاتصالات المتكاثرة بين بني البشر قد
وصلت إلى درجة لا يمكن إلا الاعتراف بجدواها والمستشرقون الذين يكاد أن
لا يتم التعرّف عليهم بسهولة نظراً لتقدم المواصلات التي بالمستطاع
بواسطتها الوصول إلى أبعد نقطة في الأرض لذا يلاحظ أن المستشرقين الذين
كانوا يأتون إلى البلاد المشرقية خلسة أو بموافقة فإن المستشرقين اليوم
أصبحوا يدخلون أي بلد عربي أو إسلامي ضمن اتفاق ثقافي رسمي معترف به
ليأخذوا حريتهم الكاملة في التفتيش عن أسرار وخفايا أي بلد سواء على
المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو الغنى الآثاري وغير ذلك كثير.
لكن ما يشجع أن الصورة المعكوسة للاستشراق هي اليوم محط انتباه
فالاستعانة التي كانت تتم بالسابق لاستجلاب علماء ممكن أن يفعلوا شيئاً
لصالح بلاد معينة أصبحت مثل تلك التخصصات متوفرة محلياً فخريجوا قسم
الجيولوجيا العلم الباحث من طبقات الأرض وكذلك فروع دراسة علم الآثار
هم اليوم يشاركون أولئك العلماء الغربيين المتواجدين في بعض بلدان
المشرق وبروح الفريق العلمي وفي كل ذاك إشارة إلى أن عمر الاستشراق قد
أمسى قصيراً إذ سيحل مكانهم مواطنون محليون فتلك أولى بدايات الصور
المانعة لأي مستشرق أن يدخل بلدان المشرق مستقبلاً. |