الإرتياح بواسطة التشريد
للكاتبة: برجيت سرها
Birgit Cerha
ترجمة : د. عدنان جواد الطعمة
*
جلس إبراهيم على الأرض، ويداه ترتجفان، وتجاعيد عميقة حفرت على
جبينه. لا بسمة ترتسم على الوجه العظمي الشاحب للكردي، والعينان فقدتا
لمعانهما. نشأ إبراهيم في قرية أوفالجيك Ovalcik
من منطقة درسيم الكردية Dersim، وهو رجل عجوزرليس له مستقبلا.
ذات يوم، هكذا يتحدث، ترك الجنود مواقعهم في وسط قريتنا، زمجروا
وصاحوا علينا واتهموننا بأننا ساعدنا حزب العمال الكردستاني ب. ك. ك.
ثم أشعلوا النيران في جميع البيوت واقتادوا كل سكان قرية أوفالجيك إلى
الساحة الرئيسية وأجبروا الرجال على خلع ملابسهم. وبعد ذلك هاموا علينا
بالضرب الشديد أمام أعين النساء. ولحد هذا اليوم لن تزول هذه الإهانة
العميقة عن روح وذاكرة إبراهيم. هم فصلوا الرجال عن نسائهم، واعتقدنا
بأنهم سيقتلوننا جميعا، إلا أنهم إختاروا بعض الرجال من بيننا وأخذوهم
معهم إلى الجبال. وقد وجدنا جثث أصدقائنا فيما بعد.
قال الجنود بأنهم رموا بالرصاص إرهابيي حزب العمال الكردستاني،
وهكذا يقولون دائما في مثل هذه الحالات.
إضطر إبراهيم أن يبيع أغنامه بأقل قيمة وبأسعار رخيصة، ثم رحل مع
عائلته المكونة من عشرة أشخاص إلى أقربائه في إستانبول.
وقصته هي قصة مئات الآلاف من الأكراد الذين أزاحتهم دولة أتاتورك
منذ سنوات بصورة منظمة عن مواطنهم التي نشأوا وترعرعوا فيها في منطقة
جنوب شرقي الأناضول.
وهكذا استمرت أنقرا في أغلب الأحايين من تاريخها بهذه الطريقة
التقليدية القديمة للإمبراطورية العثمانية التي أجبرت ترحيل جماعات
ضخمة من أراضيها وأخضعتهم تحت سيطرتها.
إن أرض الأناضول شبعت وارتوت بدموع هذه الجماعات المشردة المطرودة.
صرح أحد ممثلي قوات الأمن التركية بأن تركيا الحديثة قررت من خلال
إخلاء البلاد من السكان القضاء على مشكلة الأكراد وتنظيمها وذلك بتحويل
المياه عن الميليشيات الكردية.
وقد أعلن الحاكم العام المسؤول عن المناطق الكردية أرنال أوركان
Ernal Urkan بفخر واعتزاز : لقد طهرنا مناطق شاسعة كبيرة من جنوب شرقي
الأناضول.
إعترفت وزارة الداخلية التركية في شهر تموز عام 1991 بتدمير 59
قرية و304 كفرا. وفي سبتمبر عام 1992 طلب في حينه الرئيس تورغوت أوزل
Turgut Ozal أثناء رحلته إلى منطقة الجنوب الشرقي من السكان المدنيين
أن يغادروا كل المناطق الحساسة التي تحارب فيها ميليشيات حزب العمال
الكردستاني ب. ك. ك.
ومنذ نوفمبر 1994 إتبعت قوات الأمن إستراتيجية الأرض المحروقة بصورة
منظمة. وبذلك أصبحت أجزاء شاسعة من كردستان أراضي ميتة. تشير معلومات
المنظمة التركية لحقوق الإنسان IHD أن قوات الأمن التركية أحرقت في
الفترة الواقعة ما بين 1990 و1993 المجموع الكلي 2378 قرية كردية.
وقد هرب ربما مليوني مواطن أو ربما أكثر. لم يكن هروب المواطنين
الأكراد بسبب تدمير القرى فحسب، بل لأسباب عدة مختلفة :
الفقر والشعور المتزايد بعدم الأمن والأمان وكذلك إبادة قطعان
المواشي والأغنام والتقييد الراديكالي لحرية التنقل أو تحطيم الغابات
والبساتين والحقول والمزارع لا سيما قبيل موسم الحصاد أو بسب تسميم
آبار مياه الشرب.
إزدحمت المدن وارتفع عدد سكانها كهياكل ضخمة ولم يكن بالإمكان
السيطرة عليها أي أنها فلتت من السيطرة.
توجه حاكم مدينة هكاري Hakkari يائسا برجاء إلى هيئة الصليب
الأحمر الدولية طالبا منها إرسال مئات الخيم، لأن المدينة لا تستطيع أن
تستوعب حوالي 55 ألف لأجئ من القرى المحيطة والواقعة على الجبال
الرومانتيكية الوعرة من كردستان.
على كل حال، فإن عدد السكان سيرتفع إلى ثلاثة أضعاف في غضون سنوات
معدودة فمثلا كان عدد سكان ديار بكر عام 1990 لا يزيد عن 300 ألف
مواطن، أما الأن فإن عدد سكانها زاد عن المليون نسمة. فقط الفقراء تم
تشريدهم إلى هناك.
فمن يستطع أن يضع كل ما يملك في سيارته، فإنه سيرحل إلى ساحل البحر
الأبيض المتوسط.
تشير الإحصائيات إلى أن حوالي 700 ألف كردي وكردية لجئوا إلى
أدنةAdana، ومعظمهم يسكن في الكراجات وبيوت إحتياطية وفي الخرائب
والمباني التي لم ينتهي بناؤها، بدون نوافذ وأبواب، وأغلبها بدون
جدران. سمحت قوات الأمن التركية لغيرهم أن يسكنوا في مخيمات أعدت لهم
خارج المدينة وعلى أطرافها، بحيث لا يمكن لميليشيات حزب العمال
الكردستاني التوغل إلى داخل هذه المخيمات.
أما إبراهيم، فعلى العكس، فإنه إتجه إلى إستانبول. وهناك لم يجد له
عملا ولو لبضع ساعات.
يقول إبراهيم : إني راعي أغنام وأستطيع التعامل مع الحيوانات وسكني
لم يكن في المدينة.
تمتم إبراهيم بحسرة قائلا : لقد سلبوا مهنتي وأموالي وأملاكي وبيتي.
وهو الأن مكسور الخاطر.
وهذا بالضبط هدف السياسيين في أنقرا، كما قال أحد المحللين
الإجتماعيين الأتراك.
هم يريدون حل مشكلة الأكراد وتحطيم إرادة الناس وخلط السكان.
وقد رحل أكثر من نصف 12 مليون كردي وكردية إلى غرب البلاد، ربما رحل
مليوني نسمة منهم إلى إستانبول. ومن الطبيعي فإن حياتهم في المدينة
ستسلب هويتهم.
إن هذه الإستراتيجية تشبه اللعبة الخطيرة بأن يرمي أحد الخشبة فتعود
إلى قاذفها، كما صرح بذلك التركي المدافع عن حقوق الإنسان هيسنو
أونديل Hüsnü ndül لأن الحكام في أنقرا يحملون بذلك النزاع مع الأكراد
من جنوب شرقي الأناضول إلى المدن الكبيرة في البلاد. وان الدولة أخذت
كل ما يملكون، وهي لا تريد أن تعوضهم وتعطيهم شيئا.
وبهذه السياسة بإنهم ( الحكام ) يزرعون ويغذون في قلوب اللاجئين
حقدا وكرها عميقين لهذه الدولة. والحكومة بتصرفها هذا توسع الهوة
والخلاف بين السكان.
تحدثت سيدة كردية عجوز قائلة : لقد عشنا دائما بسلام مع الأتراك،
إلا أن الدعاية الرسمية سممت الأجواء بحيث أن الأتراك في المدينة
المجاورة لا يتحدثون معنا ويرفض عدد كبير من الأتراك تأجير شققهم
وبيوتهم على الأكراد.
وغالبا لا يتم تعيين المختصين والمتخرجين الأكراد بسبب أصولهم
العرقية القومية.
وهكذا ينمو اليأس والخوف والإستعداد للعنف وكذلك الحقد لدى الجانبين.
والدولة لا تترك لنا أي خيار، ولذلك نقوم بتنظيم أنفسنا في المدن، صاح
أحد الشبان الأكراد، يجب علينا أن نرد على الإرهاب بنفس السلاح.
ماربورغ في 17 / 10 / 2004
adnan_al_toma@hotmail.com |