للمرّة الثانية قامت قناة المستقلة التي يترأسها الدكتور حامد
الهاشمي ، بإطلاق حلقات حوراية مثيرة للجدل ، فإن كانت الحوارات
المذهبية الأولى لها وجه تبرير في انفعاليتها وشذوذها عن المطلوب ،
لكونها تناقش أسساً مذهبية يحرص الجميع على إثبات أحقيتها والتزامه
بمنهج الرسول الأعظم (ص) ، إلا أن إنشاء حوارات مطوّلة حول شخصية
الإمام الصادق عليه السلام لا يبرر بأدنى تبرير المنحى الذي انتحته هذه
الحوارات. فقد اتجهت نحو الجدل الأول ، أي المذهبي ، وتركت أساس البحث
وهو قراءة مشروع الإمام الصادق (ع) جانباً ، ولعل ذلك نابع من ثأر
المتحاورين على خلفية الحوارات التي بثّت قبل ذلك ، وهذا الخطأ الذي
وقع فيه المتحاورون ، وكان يمكن للقناة أن تتخطّى هذا الأمر بتجنّب
تكرار الوجوه ، واختيار شخصيات باحثة تعبّر عن موضوع البحث بكل تجرّد.
لست هنا مدافعاً عن طرف من أطراف الحوار ، ولكني آسف على الحال
العامّة التي تنتج مثل هذه الفعاليات ، التي تقوم بدور سلبي في الأمة ،
ولا تقدّم الإرث الإسلامي بشكله الحقيقي والمطلوب ، بل ولا تنتهج نهجاً
علمياً يظهّر ويكتشف الإنجازات العلمية والفكرية التي تمثّل نقاط إشعاع
في التاريخ الإسلامي ، ويمكن من خلالها أن يتعرّف غير المسلمين على
التاريخ العلمي والعطاء المتنوّع في المجالات العلمية المختلفة. فضلاً
عن ذلك فإن مثل هذه الحوارات والندوات ينبغي أن تكون مصدر وفاق وتقارب
لا مثيرة للشقاق والإحتراب ، فيكون التاريخ الناصع والذي يمكن أن يكون
محل وفاق هو الذي يثير في الطرفين كوامن الحقد ، والنتيجة هي الفشل على
المستويين ، فلم نستطع أن نستفيد من تراثنا العلمي الناصع ، ولم نفلح
في رأب الصدع وتقريب المسافات في واقعنا الاجتماعي ، وهذه هي القاعدة
الثابتة التي يتحدّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى : (ولا تنازعوا
فتفشلوا وتذهب ريحكم) ، فالنزاع يصيب المجتمع الإسلامي بالفشل ، فلا
يتقدّم ولا يستفيد من مكامن الوفاق لديه ، وذهاب الريح هي ذهاب للقوة
والخصوصية التي يراها الآخر في المسلمين ، فالآية تقرر هذه الحقيقة وهي
ضياع المستويين ، الداخل والخارج ، وهذا ما ينتجه التعامل الخطأ ،
والتعامل غير المدروس مع الإنجازات التاريخية ومواطن القوة في التاريخ.
فهل يصل بنا الأمر أن نحجّم دور الإمام الصادق (عليه السلام) في
حقبة من حقب التاريخ المهمة ، بما أنتج من فكر وعلم ، وبما تبنى من
مشروع في تلك المرحلة التي قدّم فيها أكبر مشروع علمي إسلامي بلا خلاف
؟ إنني بلا أدنى شك لا أظن أن هناك من العلماء الراشدين من كلا
الفريقين السني والشيعي من يذهب لتحجيم دور الإمام الصادق عليه السلام
، أو يلغي المشروع الذي قام به من أثر على النهضة العلمية للمسلين كافة
بمختلف مذاهبهم ، وقد تابعت الكثير من الفعاليات العلمية الراقية التي
عبّر فيها كلا الفريقين بما يؤمن به ، عبر دراسات وتصريحات تنمّ عن وعي
لضرورة المرحلة التي عاشها الإمام (ع) وأثره في تنميتها ، إلا أنه قد
يشذ الشاذ من كل قوم ، على خلفية الإلغاء والتكفير.
وأتذكر في العام 1990م قامت المستشارية الإيرانية في دمشق بإقامة
مؤتمر الإمام الصادق (عليه السلام) ، وقد دعت إليه الكثير من العلماء
من مذاهب مختلفة ،كان منهم الشيخ أحمد كفتاروا المفتي السوري ، وقد صدر
عن المؤتمر كتاب لمّ بحوث المؤتمر ، وقد كانت بحق بحوثاً تبرز الدور
العلمي للإمام الصادق (ع) للمسلين كافة من دون استثناء.
وتحت عنوان (الإمام الصادق مشروع حضاري شامل) أقامت الحوزة الزينبية
بالتعاون مع مركز الفردوس للثقافة والإعلام (اللبناني) ، ندوة مطوّلة
في منطقة السيدة زينب بسورية ، وقد دعت لها الكثير من علماء الدين
والأكاديميين من كلا المذهبين السني والشيعي ، وقد شارك في الندوة
بالبحوث كلا من العلامة الشيخ جعفر الهادي (أستاذ في الحوزة العلمية -
إيران)، والأستاذ الدكتور أحمد راسم النفيس (أستاذ في كلية الطب - مصر)
و الأستاذ علي حيدر(أستاذ في كلية الطب - العراق) و الشيخ الدكتور
محمود عكام (أستاذ في كلية الشريعة - سوريا) و الأستاذ الدكتور علي
عقلة عرسان (رئيس اتحاد الكتاب العرب - سوريا) و الأستاذ جوزيف الهاشم
(شاعر وكاتب مسيحي ووزير سابق - لبنان) ، وقد ناقش المؤتمر موضوعات
عدّة هي : الإمام الصادق والحركة الفكرية، الإمام الصادق والعلوم
الطبيعية، الإمام الصادق أسوة في الفقه والاستنباط ، الإمام الصادق
ورسالة أهل البيت ، الإمام الصادق محيي السنة المحمدية ، الإمام الصادق
ملهم الكيمياء.
و كان الحضور لافتاً ، حيث حضر الكثير من العلماء من غير المشاركين
، وقد أبدوا سعادتهم بالندوة وموضوعاتها ، وعبّروا عن أهمية أن تقام
مثل هذه الندوات حول الإمام الصادق (عليه السلام) بالخصوص ، لأنه و كما
يقول الشيخ محمود العائري ـ إمام وخطيب جامع منطقة السومرية : (إمام
المذاهب وشيخ أبي حنيفة والمذاهب كلها) ، ويردف قائلاً : (كما أعجبتني
كلمة قالها الشاعر جوزيف الهاشم في الندوة ، هي(أن لا نعرف سيرة الإمام
الصادق فمعنى ذلك نقص بحقنا). وهذا هو العمل الذي يجب ان يقوم به
المسلمون من أجل التكافؤ والتعاصم، إذن علينا أن نقتدي بالنبي وآل
البيت. ونكثر من إقامة هذه المؤتمرات وهذه المحاضرات. فوالله إن لم
نجتمع لم نكن أمة مسلمة إلا إذا اعتصمنا بحبل الله جميعا).
ومن أجل وضع ملامح لقراءة مشروع الإمام الصادق (ع) ، لابد من دراسة
العصر الذي عاشه ومراجعة الظروف السياسية التي أحاطت به ، كما أننا
ينبغي أن نطرح مجموعة من التساؤلات في النتائج التي أفضت إليها تلك
الممارسة ، ببحث مقارن بين فترة ما قبل الإمام والفترة التي تلته ،
ولابد من دراسة طبيعة المشروع ومدى ملائمته مع تلك الظروف.
إن الظروف التي ابتدأ خلالها الإمام الصادق (ع) مشروعه كانت تحكمها
الصراعات على السلطة التي تمثلت في صراع بني أمية مع بني العباس ،
فكانت نتيجتها انتهاء الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ، وبطبيعة
الحال فإن المجتمع سيكون مشغولاً بتلك التجاذبات والولاءات ، في حين أن
الفترة التي عاشها الإمام زين العابدين (ع) جد الإمام الصادق ، وكذلك
أبيه الإمام الباقر (ع) كانت فترة فتوحات للجيوش الإسلامية ، فبسطت
أيدي المسلمين على دول كثيرة من الحجاز إلى الشرق وأقصى الغرب ، فقد
شخّص الإمام الصادق (ع) هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها المسلمون عامة
، ولجأ لإطلاق مشروعه بشكل واضح ، وبقوة ووثاقة ، وهو المشروع العلمي
الذي يراد منه النهوض بالمستوى العلمي للأمة الإسلامية من خلال بناء
قوافل من العلماء في مختلف المجالات ، كما أن الإنفتاح على الثقافات
الأخرى شكّل بعداً هاماً في الإصرار على المضي قدماً في المشروع ، لكي
تكون لدى المسلمين الحصيلة العلمية الكافية والقادرة على المواجهة
والتعاطي مع الثقافات الأخرى.
وبالفعل قد تم ذلك ، واختار الإمام (ع) مسجد جده رسول الله (ص)
ليكون منطلقاً لدروسه التي كان يحضرها أكثر من أربعة آلآف من العلماء ،
والذين بدورهم انتشروا في البلاد الإسلامية ، فتكوّنت حركة فكرية
منقطعة النظير ، ونشطت الإجتهادات فبرزت المذاهب المختلفة ، ويقرر هذه
الحقيقة ابن حجر العسقلاني في كتابه (الصواعق المحرقة) بقوله : (ونقل
الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان).
وقد كان الإمام الصادق (ع) أنسب رجل لهذه المهمة الصعبة ، لأنه كان
أعلم أهل زمانه باتفاق جميع من أرّخ له ، فقد قال عنه النووي (اتفقوا
على امامته وجلالته وسيادته) ، وقال عنه مالك بن أنس : (وما رأت عين
ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً
وعبادة وورعاً) ،وقال عنه أبو حنيفة : (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد).
فكان التناسب بين المشروع وقائد المشروع من عوامل نجاحه ، أما العوامل
الأخرى فهي كثيرة أبرزها أن الإمام (ع) جعل مدرسته أو قل جامعته قلباً
يستوعب جميع الناس وإن اختلفت آراؤهم أو بلدانهم أو انتماءاتهم ،
سياسية أو عقيدية ، يقول المؤرخون: (أرسلت الكوفة والبصرة وواسط
والحجاز إلى جعفر بن محمد أفلاذ أكبادها ، ومن كل قبيلة من بني أسد
ومخارق ،وطي ، وسليم وغطفان ،وغفار ، والأزد ، وخزاعة ، وخثعم ، ومخزوم
، وبني ضبّة ، ومن قريش) ، واستفاد منه الكثير من ألأئمة منهم مالك بن
أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبي حنيفة وغيرهم ، ثم أن اختيار الإمام
الصادق (ع) لمسجد الرسول الأعظم (ص) أعطى رسالة واضحة ، بأن المنطلقات
العلمية وكوامن نجاح الأمة الإسلامية هي التي أسسّها النبي الأكرم (ص).
فإننا لو قرأنا مشروع الإمام الصادق من النواحي الصحيحة فإنها ستضيف
للرصيد الإسلامي إسهاماته في التطور الحضاري الذي ترفل فيه البشرية من
خلال النظريات العلمية التي أبداها الإمام الصادق (ع) أو التي شجّع
عليها من خلال تلاميذه والتي استوعبت علوم شتى ، قد جُمعت في محاولة من
أحد الكتّاب في كتاب بإسم (الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب) وقد
نقله للعربية الدكتور نورالدين آل علي. |