تدرجت الأعمال التلفزيونية عالميا في مضامينها وطرق معالجتها
لقضايا المجتمع حتى وصلت إلى ماهي عليه اليوم من مسؤولية وواقعية
وشعور بالحرص والانتماء للمجتمع الذي تتناول قضاياه وترصد همومه
وتعرج على مواطن القصور والنكوص فيه..
لم يعد هم الكثير من القائمين على إنتاج الأعمال التلفزيونية
إضحاك الناس على طريقة المهرجين أيام زمان، ولم يعد همهم تزويق
المأساة وقلب الواقع المر واجتزاء الأسباب وفقا لرؤى شخصية أو توجهات
آيديولوجية على طريقة عياري أيام زمان.. الفنان والكاتب اليوم ينهضان
بمسؤولية جسيمة لا تقل أهمية عن مسؤلية المعلم في المدرسة، إن لم نقل
أخطر حين نأخذ بنظر الإعتبار مساحة التحرك والانفتاح المتاحة للفنان
الذي يطل من خلال عمل الكاتب على مئآت الآلاف من الناس، بل ملايين من
المشاهدين الذين يتابعونه عبر المحطات الفضائية..
ولكن مما يؤسف له أن بعض فنانينا لا يريد مغادرة (الأزقة الفنية)
إلى عالم أرحب وأكثر اتساعا، ما زال بعض فنانينا يطلون علينا عبر
الفضائيات وكأنهم يطلون على بضع عشرات من المعجبين تجمعوا على كراسي
أحد المسارح التجارية.. وحتى أكون أكثر دقة فلنأخذ مثلا ما يعرض من
دراما على شاشة الشرقية، الفضائية العراقية التي توقعنا منها بل
توسمنا فيها أن تكون عراقية بصدق فتحمل هموم العراقيين وتعكس أمانيهم
وتطلعاتهم، وتشارك في تضميد جراحاتهم الغائرة، ولكن للأسف وأقولها
بمرارة المخلص الحريص أننا صرنا نرى من الشرقية ما نرى من الجزيرة
والعربية، من قلب للحقائق واجتزاء لها يشوه الوقائع بشكل يثير الريبة..
أحيانا أعزو ذلك لقلة التجربة الحرة، وأرجو أن لايزعل علي الأخوان
في الشرقية، فكلنا كنا رهن نظام يعد علينا أنفاسنا، ولكن ألا نتفق
على أن الحرية لاتعني الفوضى وتوزيع الشتائم والتهم لبعضنا البعض..
ألا تعني الحرية أن نحرص جميعا على بعضنا ونقوم بعضنا ونسهم بمسؤولية
في بناء العراق الجديد، حتى وإن كان لنا رأي في الطريقة التي أسقط
بها صدام حسين؟..
نعم إننا حديثوا عهد بمانشيتات نقد السلطة، ولكن ربما علينا أن
لانحول هذه المانشيتات إلى أداة للتعريض والتضعيف وبما لا يخدم
العراق ووحدته.. منذ الأيام الأولى لانطلاقها بدأت الشرقية بتوزيع
الاتهامات للسلطة العراقية سواء في مجلس الحكم أو في الحكومة المؤقتة،
ومن حق الجميع طبعا أن يقولوا آراءهم، ولكن هناك ثوابت منطقية يجب أن
لانتغافل عنها تحت أي مسوغ إذا كنا حريصين على بلدنا وشعبنا.. كلنا
يريد من الحكومة أن تبني البيوت وتوزع المرتبات وتعمر مدننا وشوارعنا
و.. و..و ولكن هل يعقل أننا نطلب من الفلاح أن يرينا المحصول وهو لم
يحرث الأرض بعد؟!.
ألا يجب علينا أن نسهم كلنا في تقوية السلطة حتى يشيع الأمن بدل
أن نثير الغبار حول كل خطوة تخطيها..
ولنعد لدراما الشرقية... ومسلسل( حب وحرب) و( الحواسم) ورغم ان
الأخير لم يعرض إلا بعض حلقاته، ولكن يبدو أن الكتاب واضح من عنوانه..
ما الذي أراد كاتب هذين العملين أن يقول؟... فقرات وإشارات مجدت
السلطة الساقطة ودافعت عنها، فقاسم الملاك تقمص دور الموظف الذي خاطب
أحد القرويين باع طبقه اللاقط( الدش) لأن ابنه يتابع الراقصات
والمغنين، مترحما على أيام زمان حين أشاد بمنع الحكومة السابقة
للـ(دش).. عجيب، هل أن صدام منع الـ( دش) حرصا على الأخلاق
الاجتماعية؟!.
ألم يكن تلفزيون صدام يبث لنا كل جمعة الفيلم العربي بمافيه من
قُبل ساخنة ولقطات مثيرة؟.. لم يقل أحد سابقا من أخواننا الممثلين
والكتاب والقائمين على الشرقية، وكلهم من كوادر وزارة الثقافة
المنحلة، لم يقل أي منهم أن هذا ينافي الأخلاق العامة ويفسد المجتمع،
واليوم قد تناسوا مافعله عدي في تلفزيون الشباب، وكأن الأمر اصطياد
في الماء العكر ليس أكثر، والغريب أن الشرقية ذاتها تبث الغناء
والرقص أكثر من أي برامج أخرى، حتى بدا لهاث الشرقية والشرقيين
وراء الانتقاص من سلطات ما بعد صدام، مسألة ثأر وضغينة لا أكثر..
وإلا فبماذا نفسر إصرار كتاب المسلسلات ومخرجيها الذين يمنعون
الممثلين ــ بحسب اعتراف إحدى الممثلات المعروفات ـــ يمنعونهم من
الاطلاع على نص المسلسل بالكامل خشية أن يسجل اعتراضه على فقرة فيه،
مستغلين حاجة الممثلين متعاملين معهم بفوقية مهينة..
حين انتهى حب وحرب توسم كثيرون أن يكون الأخوة في الشرقية قد
استوعبوا التغيير الذي حصل في العراق، وفهموا جيدا معنى أن تكون حرا،
ولكن للأسف جاء مسلسل الحواسم مخيبا للآمال، حيث لم يجرؤ كاتبه
ومخرجه وممثلوه على قول الحقيقة وظلوا رهناء الماضي، فلم يقل المسلسل
أن ( الحواسم) نتاج ظلم وتجويع وفاقة ونتاج سياسة خاطئة اتبعها صدام
بحق العراقيين، لم يتطرقوا للحروب التي خاضها صدام، والاعدامات التي
يتمت كثيرين أصبحوا فيما بعد لصوصا وقطاع طرق حين ضاعوا وسط لهاث
الجميع وراء لقمة الخبز، لم يحملوا السلطة السابقة مسؤولية التدهور
رغم أنها حكمت ثلاثة عقود ونصف، وتفانوا في تحميل مجلس الحكم وحكومة
الدكتور علاوي كل النواقص والسلبيات رغم أنهما لم يحكما سوى عام
وقليل، فأي مفارقة هذه، ولمصلحة من تريد الشرقية إسقاط الدولة
العراقية والتشكيك بكل شئ إيجابي حققته، رغم أنها حققت الكثير، ولو
توفرت الظروف الموضوعية لحققت المزيد.. لقد حملوا الأسرة العراقية
مسؤولية ماجرى من أعمال سرقة ونهب مدعين أنها لم تتمكن من تحصين
نفسها، ولا أدري كيف يمكن لجائع أن يصون نفسه، وقد أسقط الإسلام حد
السرقة عن الجائع، لقد ضربوا قيم الأسرة بالصميم واعتدوا على
نبلها وشيمها، في حين الكل يعرف لو أن شعبا آخر قد عُرض لما عُرض له
العراقيون لانهار تماما..
أخير نصيحتنا للسادة في الشرقية، أن يكونوا على قدر عال من
المسؤولية، وأن يجربوا البناء ولايكونوا هدامين، فالحرية لاتعني
الشتيمة، بل تعني الموضوعية، وإذا كنا في السابق، غير قادرين على أن
ننظر بوجه المسؤولين خوفا وهلعا، فهذا لا يبرر شتم السلطة والمسؤولين
والناس الآن تعويضا لما قد فاتنا أو تعويضا عن عقدة الشعور بالحرمان،
فالنقد له أخلاقيات وضوابط وقيم.. تمنياتنا لكم بالتوفيق.
|