لعل ما طرح من آراء حول بعض المناهج التي تدرس في بعض الدول
الإسلامية لم يأت من فراغ، وإن كنا أخذنا الأمر بحساسية كونه انطلق من
أفواه غربية، فهذا لا يعني أننا نقف على أرض صلبة تماما، مثلما الأمر
لايعني في ذات الوقت أن مناهجنا مقدسة، وأنها فوق النقد، لأنها ببساطة
وضعت من البشر وهؤلاء يخطئون ويصيبون، ولا أدري لماذا فهمنا أن من
قالوا بضرورة إصلاح مناهج التعليم عندنا يقصدون القرآن تحديدا، طالما
أن القرآن الكريم لم يكن المادة الوحيدة التي تدرس في مدارسنا، وطالما
أن القرآن المجيد يدرس بعد تفسيره، وما يعد تفسيرا له هو الذي يشكل
أفكار ووعي الدارسين، وليس نصوص القرآن بالدرجة الأولى، وما ينطبق على
بقية المناهج، من أنها قابلة للأخذ والرد ينطبق أيضا على تفسير القرآن
أيضا لذات السبب البسيط السابق، وهو أن الذين يفسرونه بشر يخطئون
ويصيبون، ويغالون في بعض الأحيان، فلماذا لا يكون التفسير القرآني محل
بحث ونقاش؟..
هذا بالإضافة إلى أن اختيار النصوص القرآنية التي تدرس في المدارس
خضع دوما لمزاج الحكومات والأنظمة الرسمية، فهي تختار من الآيات والسور
ما يعزز أيديولوجيتها ويدعم مواقفها وإن كان في ذلك اجتزاء لبعض النصوص
الشريفة بطريقة هي أقرب للي عنقها، من التفكيك والطرح الموضوعي لها،
فعلى سبيل المثال اعتمدت مناهج تعليم القرآن في إطار الحملة الإيمانية
التي أطلقها صدام حسين قبل سنوات من سقوطه، تقوية سلطته هدفا، ففصّل
تفسير النص القرآني القائل بإطاعة أولي الأمر على مقاس صدام، وهكذا مع
بقية النصوص التي تدعو للجهاد والحرب ضد ( المشركين) فهي تندرج ضمن
أهداف الحملة الإيمانية تلك لتعزز بقية مفردات ماكنة صدام الإعلامية
الحريصة دوما على إظهار الأخير بطلا ورمزا إسلاميا يأتمر بأوامر النص
الشريف، وحقيقة الأمر هي عكس ذلك تماما ولا حاجة لتفصيل ما بات مفصلا
ومعروفا..
لم تأخذ مناهجنا الخاصة بالقرآن الكريم وتفسيره نصوص الرحمة
والمساواة والعدالة واحترام الإنسان بغض النظر عن دينه وقوميته من
قبيل( يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم).. أو ( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم
بالتي هي أحسن) و ( لكم دينكم ولي دين) و( لا إكراه في الدين) و..
و....
ولكنها أكدت على نص( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدوكم)، وفسرت مناهجنا نص الحرب هذا على هواها
ووجهت وعي الدارسين وحشت عقولهم بالعداء والحقد والكراهية لعدو هي قد
اختارته مسبقا وفقا لأيديولوجية السلطة، فعدو الله بحسب تفسير الماكنة
الدعائية لنظام البعث في العراق كان على التوالي( أكراد العراق أيام
الحرب في شمال العراق، وإيران أيام الحرب العراقية الإيرانية، والكويت
إبان غزوها مطلع التسعينات من القرن الماضي، وشيعة العراق إبان
انتفاضتهم، ثم كان عدو الله، وفقا للحملة الإيمانية لصدام، أمريكا
والغرب عموما)، فهل يصح أن نقول أن مناهج التعليم لدينا سليمة تماما
ونحتج على من يقولون أنكم غير موضوعيين وشعاراتيين وتجيرون الدين لصالح
السلطة؟..
وما ينطبق على مادة تفسير القرآن الكريم ينطبق على مناهج أخرى لدينا
تكرس الحقد والنظرة الأحادية للأحداث، فلو أخذنا على سبيل المثال مادة
التاريخ العربي الإسلامي، أو التاريخ الحديث، فهل فيها شيء سوى الحروب
والغزوات، فهنا الحروب الصليبية، وهناك حروب الدولة العثمانية، وغزوات
الاستعمار البرتغالي والفرنسي والإنكليزي، وأدخلت وزارة التربية
العراقية في زمن صدام، مثلا حروب العراق ضد إيران والكويت والولايات
المتحدة، وإذا احتج البعض بأن هذه الوقائع جزء من التاريخ لايمكن
تجاوزها، فأنا لست ضد هذا القول، ولكن ضد الطريقة التي تعرض بها
الأحداث، فعلى سبيل المثال قد مر على الحروب الصليبية عدة مئات من
السنين، لكن طرحها اليوم في مناهجنا يستعير أجواء المعارك تلك وما
صاحبها من حقد وكراهية ويغذيه أذهان الدارسين وكأن المعركة لم تنته
بعد، ثم لماذا لا نستعرض التاريخ الإنساني عموما.. نظريات تطور حياة
الإنسان.. تاريخ الأديان.. تاريخ العمارة.. تاريخ العلاقات بين الشعوب
والدول.. تاريخ التبادل التجاري .. تاريخ الأنبياء والشخصيات الإنسانية
الكبيرة التي خدمت البشرية..
وإذا قلنا بضرورة تعريف أجيالنا بمآثر ووقائع أجدادهم، وهذا ما لا
توجد ضرورة له حسب اعتقاد الكثيرين، فلماذا لا نسلط الضوء على الوقائع
بموضوعية دون أن نعرّض الأحداث للخندقة؟..
كي ندرس التاريخ دون عقد يجب أن نتناوله بحيادية وموضوعية، ويجب أن
يتبنى ذلك أساتذة كبار مختصون ومقتدرون، لا سيما في المراحل الأولى من
الدراسة.. هؤلاء الأساتذة تقع على عاتقهم مسؤولية الفصل بين ما هو
تاريخي وبين ما هو حاصل، لا أن يربطوا أحداث اليوم على هواهم مع وقائع
مضى عليها سنين، كما حصل حين شبه مدرسو التاريخ في العراق أو أجبروا
على أن يشبهوا( قادسية صدام) بـ( قادسية العرب ) الأولى، فلا صدام مثل
قادة القادسية تلك، ولا الأهداف ذات الأهداف، ولا القيادة الإيرانية
والإيرانيين كانوا مثل أجدادهم الذين خاضوا تلك الحرب، وها هو الواقع
يشير إلى أن إيران تقف إلى جانب القضايا العربية ويحتفظ العرب معها
بعلاقات صداقة متينة.
وإذا كان هناك ما يبرر لصدام ما فعله في هذا المجال لاعتبارات تتعلق
بسيكولوجية العنف لديه، فلا أظن أن الحكومات العربية الأخرى تشترك معه
في هذا الجانب، ولكن كثير منها غير ملتفتة حقا لخطورة المادة أو العرض
للمادة التاريخية في مناهجها وحبذا لو التفتت لهذا الخطأ الفاحش الذي
خرّج إلى الآن مئات الناقمين الخطرين جدا على شعوب أخرى أو على طوائف
عربية لأنهم قرأوها من خلال مادة التاريخ.. |