يُحكى أنه في إحدى البلاد البعيدة ،كان يحكمها حاكم يستعذب
الاستخفاف برعيته وتعذيبهم، وكان بين الفينة والأخرى يجمع حاشيته
ووزرائه للتفرج على مسرحية ينظم فصولها هو ويؤديها الرعية وبعض آمال
وكثير من الوهم والسراب.
جرياً على عادته، أمر جلاوزته ليحضروا كل شحاذي وجياع البلد بعد أن
يمنوهم بمائدة الحاكم التي فيها مالا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، فدبّ
أولئك في أوصال البلاد كالدم يسري في العروق ونشروا خبر الوليمة
المنتظرة وفيها تحقيق أحلام الآلاف ممن لاعهد لهم بالشبع ولايعرفون من
هذه الحياة أكثر من كسرات خبز يابسة .
رائحة الشواء وجميل منظره يتربع على مائدة كأنه عروس في ليلة زفتها
وقد أحدق بها وصيفاتٌ لم يكنّ إلا كؤوس عصير الرمان تختال بين غابة
خضراء من الخضروات الطازجة، صورة داعبت مخيلة كل أولئك المنتظِرين، لكن
يقينهم المبني على سابق عهدٍ بهكذا وليمة أفسد خيالاتهم الجميلة لتعود
صورة كسرة الخبز اليابسة لتستقر في عقولهم يطلبونها ولايجدونها.
لم يعد في وسع هيثم أن يرى فعل الحاكم وتلذذه بآلام الجياع كمن
يتلذذ بقطعة حلوى فأزمع على تلقين الحاكم درساً لاينساه ولو كلفه ذلك
حياته، خاطبهم ليخبرهم بما يبيّت للحاكم وطلب منهم أن يتواروا عن أنظار
الحراس وجلاوزة الحاكم ففعلوا ذلك بطيب خاطر، فهو يوفر عليهم وقتاً لن
يأكلوا فيه إلا إذلال الحاكم وعصبته وقهقهاته على جوعهم المفرط .
أخذ هيثم طريقه للقصر حيث المأدبة المزعومة فاستقبله الحرس بضحكات
خبيثة ثم راحوا يرحبون به أهلاً أهلاً بضيوف الحاكم وشركائه في مائدته
اليوم .. لم يكن قد فكر بعد كيف يلقن هؤلاء درساً يفيهم حق ضحكهم وجمع
كل فكره في الموقف الذي سيجمعه بالحاكم بعد قليل.
أقبل الحاكم يمشي الهوينى، يتهادى ويكتم في أعماقه ضحكة يفكر في
المدى الذي سيصل صوته وهو يطلقها بعد أن يرى نفس المشهد الذي رآه من
قبل كثيراً في مثل هذه المآدب، ارتسمت على وجهه ملامح الاستغراب إذ لم
يرى من المدعوين إلا واحداً، لم يكن سوى الصياد هيثم، أين البقية ؟ صاح
مخاطباً رئيس شرطته، فأجاب: لم نجد لهم أثراً ياسيدي، لا أحد سوى هذا
الصياد يامولاي.
حسنٌ حسن .. لا بأس، لهم جزاء لن يعدوهم ولايعدوه، لكن هيا الآن
قدموا بين يدي ضيفنا مائدة تليق بضيف الحاكم.
أقبلت الجواري تحمل الأطباق الفضية والصواني وأقداح الشراب ووُضعت
كلها بين يدي هيثم، خاطبه الحاكم: هيت لك يا هيثم، كُل حتى تشبع.
مد هيثم يده في الصواني الفارغة كهيئة من يتناول الطعام منها ليضعه
في فمه يمضعه ويستلذ بطعمه في مشهد أكتشف الحاكم أنه أجمل من مشهد خيبة
الأمل على ملامح الجياع حين تقع أعينهم على الموائد الخالية.
أطلق الحاكم ضحكةً أحس هيثم أنها سكين عملت في صدور أولئك الجياع
كثيراً وآن لها أن تتوقف، صاح مخاطباً الحاكم: أدام الله عز مولاي مئة
سنة .. فقال له الحاكم : فقط ياصياد؟
فرد هيثم : لو أمرت لنا ببعض الخمرة ياسيدي لدعوت لك بدوام العز ألف
سنة.
فضحك الحاكم وأمر للصياد بالخمرة المكذوبة، راح هيثم يعاقر خمراً من
الهواء وراح يهربذ كهيئة من أخذت الخمرة بتلابيب عقله والحاكم ومن حوله
في نوبة من الضحك الهستيري، هم هيثم بالقيام وهو يمثّل السقوط والتعثر
وراح يترنح قاصداً جهة الحاكم هذا الذي لم يفق بعد من ضحكه، فرفع هيثم
يده فتح باعه وأهوى بها على وجه الحاكم فأسقطه من على السرير الذي تربع
عليه، فاحتوشه الجنود قبل أن يتبع الأولى بالأخرى والحاكم يصرخ اقتلوا
هذا الصعلوك، اقتلوه.
فاستل رئيس الشرطة سيفه من غمده ليقتل هيثم، فصاح الحاكم:
لا لا انتظروا حتى نرى علة فعله هذا ؟
أهذا جزاء إحساننا أيها الناكر للجميل؟
لا ينكر الجميل إلا قليل مروءة ياسيدي، لا أنكر جميلك أبداً!
فلم فعلت مافعلت وقد أكرمناك بمائدتنا التي لم ترى أمك في ليلة
زواجها حواشيها؟
مافعلته عمداً ياسيدي، لكن غلبني ضعف العقل ياسيدي حتى سكِرت لفرط
ما شربت من خمركم ياسيدي، ومثلك أعلم، ليس على السكران حرج!!
أُسقِط في يد الحاكم وعلم أنها مكيدة دبرها هيثم لينتقم منه فماكان
منه إلا أن أمر حراسه أن يرموا بالصياد خارج القصر، فالخمرة المكذوبة
لها فعلها أيضاً وتذهب بالعقل وليس على شاربها حرج. |