ما جرى ويجري في العالم هذه الأيام
يخلط المفاهيم والمسميات إلى حد كبير، فلم يعد الانتماء ضيقا كما كان
إلا بحدود الانغلاق الفكري والعقائدي عند هذا النفر أو ذاك، ويبدو أن
هذا الانفتاح من إرهاصات المرحلة العالمية المقبلة التي لن تتحمل
حدود الانتماء لقومية بذاتها، أو وطن بعينه، على حساب الانتماء لما
هو إنساني..
في حدود ما وصلنا من التاريخ كان المرء يتعصب لبني قومه وقبيلته
حتى قيل" أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" على الرغم مما في هذا المعنى من
تجاوز على روح الإنسان وتسفيه لقيم الحق والعدل العليا، وربما اتسعت
دائرة الولاء المتعصب آنذاك لتشمل المصر أو الولاية والبلد، ولكن
أحداثا وقعت زلزلت منظومة الولاءات المعقدة هذه..
ربما وقع قديما مثلما وقع حديثا، ففي غزو الكويت كان الفاتك عربيا
ومسلما والمفتوك به عربي ومسلم أيضا..لم يكن البلد الذي غزي واستبيح
من أمصار الروم أو الفرس، بل كان امتدادا لرمال الجزيرة، موطن العرب
الأول.. لم يكن الكويتيون من قبائل لورستان ولاهم من سلالات بني
الأشقر، بل شاركوا الــ( غزاة) سحنتهم وطبائعهم وربما حتى جيناتهم
الوراثية طالما الدم العربي واحد، حسبما جاء في كتب القومية العربية
التي درستها السلطة السابقة في العراق من الصف الخامس الابتدائي وحتى
التعليم الجامعي وفهرستها باجتياح شامل لبلد عربي ينتمي أهله لقحطان
العرب وعدنانها.. أقوى الأسباب والحجج لم تقو على تبرير ذلك المهرجان
الكبير للذبح.. ولكن على أنغامه المؤلمة تجذرت مفاهيم أخرى اتسعت
دائرتها لتشمل ما هو صحيح وحقيقي وغير زائف.. لم يكن الانتماء
العائلي والقومي والوطني كافيا ليلم شمل فئة يسيرة من بني آدم الذين
ملأوا الأرض حتى ضاقت بهم، دون قيم إنسانية .. أول قتل حدث في
التاريخ كان بين شقيقين من عائلة نبي.. لم يمنع أحدهما الدم والنسب
من سفك دم أخيه.. ولكن قيما إنسانية منعت هاني بن عروة أن يقتل عدوه
غدرا..
الانتماء يتجلى تدريجيا ويتجذر لماهو إنساني، فالنجاشي انتصر قبل
أكثر من 14 قرنا لقيم إنسانية ولم تربطه بالقوم الذين استنجدوه قومية،
وكانوا على غير دينه، والغريب أنهم جاءوه خائفين على رقابهم من بني
قومهم وابناء عمومتهم.. ذات الأمر شعر به الكويتيون ومن بعدهم
العراقيون، فالغازي والقاتل كان عربيا مسلما، بينما الملاذ كان
أجنبيا مسيحيا.. ذات الموقف التاريخي يتكرر من وقت لآخر في مكان ما
من العالم... هي رسالة كبرى تبعثها قوى الغيب للبشرية علها تخرج من
أتون حاراتها وكهوفها الضيقة إلى آفاق الإنسانية وسمائها الرحبة..
حين يستجير الأجنبي بالعربي فينتصر له، فإنما انتصر لقيم كونية
تكفل حق الجميع بفرص العيش والحياة، بغض النظر عن دينهم وقوميتهم
ومذهبهم.. لم تعد الحياة حقا للذكور فقط، بينما من نصيب الإناث أن
يئدن خوفا من العار كما الحال قبل مئات السنين !!.. ولا من حق أي
إنسان أن يعيش وغيره لا، لأنه عربي، أو فارسي، أو رومي.. هذه قيم
بالية عفا عليها الزمن وتفهتها تجارب مريرة مرت بها البشرية.. لم يعد
التاريخ سببا معقولا لتحديد العلاقات الانسانية وسط هذا التطور
المذهل في أفكار الناس وقيمهم.. فليس من الانصاف أن نجعل أفعال
كسرى ورستم نافذتنا على إيران ونتجاهل كل تاريخها وحضارتها
وإسهاماتها في التراث البشري .. وليس من المعقول أن نستصحب معنا عقدة
الحروب الصليبية لتسيطر على علاقتنا بالغرب اليوم..
هذا الاجتزاء التاريخي لكل ما هو سيئ وسلبي وتطبيقه على مقطع من
مقاطع حياتنا لا ينتج من رؤية سليمة، إنما مرده لعقدة وسوء في
التربية والتثقيف على الكراهية يسود الكثير من مناهجنا المدرسية التي
تحض على العداء للآخر انطلاقا من كره قبلي وعصبية عشائرية.. وربما
يكمن هنا سر تخلفنا وتراجعنا، لأننا نعيش للتاريخ أكثر مما نعيش
للمستقبل.. نحن نتخاصم ويقتل بعضنا بعضا على وقائع عاشها آخرون
قبلنا..لست أدعي أن علينا أن نهجر تاريخنا، ولكن لست مع الاستسلام
للتاريخ وجعله نافذتنا على الوقائع والأشياء والناس من حولنا، فمن
يعيش للتاريخ وحده هو ميت دون شك!!..
|