إن حصار المثقفين الأحرار وهم مطلقوا السراح أكبر تأثيراً من إيداع
المناضلين في زنزانات السجون.
هل يمكن وصف المثقفون الحقيقيون الذين يمتلكون ناصية مواقف السوية
بهذا الزمن السياسي المتراجع بكونهم – مساكين! – بعد أن أضحوا ومن أجل
تأمين الحد الأدنى من لقمة العيش أرقاماً مجهولين أمام المثقفين
الآخرين الذين لم يطلق عليهم بعد عنوان المثقفين الأميين. ولعل في قصص
ووقائع الوسط الثقافي ما هو خافٍ أمام من هم بعيدون عنه. إذ يصادف أن
يعجب قارئ بما يكتبه أديب (ولنسميه هكذا) من توالي مداد صحفية ولم يعرف
ذلك المعجب أن الذي يحتسبه أديباً (وربما أديباً مرموقاً) هو إنسان شبه
أمي مازال يكتب حرف (التاء الطويلة ذات الشكل (ت) بصورة حرف التاء
المدورة وشكلها (ة) ولهذا فهو يصر أن كلمة (نبات) فيها خطأ إملائي وأن
تدوينه لها بصيغة (نباة) هي الصحيحة وأن من يحاول أن يفلسف الحقائق
الكتابية للإملاء في العربية أن يعود إلى مرحلة الدراسة الابتدائية
والى هنا فالقصة تبدو طبيعية لمثقف أمي أن ينظر لمثل هذا الطرح ولكن
القصة لا تبدو عادية إذا كان المتكلم الذي يجب حرف التاء القصيرة
ويوثقها في كتابه مفرداته بصورة التاء القصيرة يشغل منصب مسؤولية رئيس
تحرير صحيفة أسبوعية يعمل فيها من أولئك الصحفيون المساكين الذين لا
يحق لهم الاعتراض على رئيس التحرير الذي جاء به (زمن اللامعجزات) ووضعه
واستناداً لمحسوبية مبدأ (الجاهل الذي تعرفه أفضل من العالم الذي تعرفه
أيضاً).
وقمع المثقف الحقيقي الذي أمسى بهذه الأيام نهجاً لإثبات وجود قيادة
الجهال لأهل المعرفة هو نوع من الترهيب الذي هو من نوع خاص وأن عليه من
يريد أن يبقى سالماً من الأذى الذي أوله قطع الرزق عبر الاستغناء عن
خدماته وآخر التشهير بأن سلوكه لا يتناسب مع تقاليد المؤسسات الثقافية
التي يتطلب العمل بها كثير من الصبر والمداراة وتحت أي ثمن ويبدو أن
هذا النوع من (عربون الترهيب) سارٍ في معظم الإدارات الثقافية ففي سنين
مضت حين تقرر أن تصدر صحف معارضة لنظام جائر معروف بجرائمه التي فاقت
حدود التصور (تم تعيين) ولم (يتم اختيار) من هو مؤهل لوظيفة رئاسة
التحرير وكان من مساعدوه مسؤولاً سموه على سبيل إثبات الوجود
بـ(المسؤول الثقافي) وكان هذا الأخير في الأصل بعيداً عن الجو الصحفي
تماماً إلا أنه لا ينكر أنه قد قرأ طيلة فترة حياته بما لا يزيد على
(4) كتب وعدة مجلات لم يتجاوز عددها عدد أصابع يديه لكن القفزة التي
حدثت له ليكون المسؤول الثقافي ودون سابق إنذار قد أوقع الصحيفة في عدة
إشكالات.
فبسبب عدم معرفة (المسؤول الثقافي) أن للشعر أغراض مثل الوصف
والمديح والهجاء.. مثلاً فقد رفض نشر قصيدة يبدأ مطلعها باسم حاكم
بلاده الذي يفترض أنه كان معارضاً لحكمه ودوّن بخط يده على ورقة
القصيدة أنها غير صالحة لكون خطابها مباشر ضد الحاكم وأن هذا لا يجيزه
قانون الشعر والغريب أن رئيس التحرير أيد ذلك وحين سأل الشاعر بلطف
رئيس التحرير ومسؤوله الثقافي أن يعرفا أن للشعر أغراض منها غرض الهجاء
الذي انطلق من تنظيم قصيدته بموجبه وقعت المصيبة على رأس الشاعر وقدّر
أن يكتم شهادته في زمن الرعب الثقافي.
والصورة من داخل المؤسسة الثقافية ليس فيها ما يبشر أن الثقافة
العربية بخير إذ يتصدر في غالبياتها أشباه المثقفون على حساب المثقفين
الحقيقيين وكأن القدر الزمني قد سلط سيفه تدريجياً حتى وصل إلى رقابهم
فباتوا تحت رحمة تداع خاص لا يجيز له إلا أن يعترف بأن الحزن على
الثقافة ممنوع، فكل شيء أصيل من الحياة أصبح ممنوعاً وأن على المثقف
الحقيقي المسكين أينما تواجد أن لا يحكي تجربته ولو بهمسها مع نفسه.
لقد أصبح هواء الوسط الثقافي ثقيلاً حقاً على الصدور وأن من يريد
مداراة قوته اليومي من المثقفين المساكين أن يتنازل أمام وجاهة
المثقفين اللاثقافيين الذين تلمع أسماؤهم على صفحات دورياتهم الأسبوعية
على كونهم كتاباً ممتازون. |