يضطلع موضوع كتابة المذكرات بأهمية بالغة على المستويين الشخصي
والاجتماعي وربما بدأت فكرة تدوين ما يراد قوله حين شعر الفرد ان
انطباعاته عن الحياة ومحيط بيئة ناسه فيها من التحفظ بحالتي الثناء أو
القدح للعديد من الظواهر التي تستحق وقفات صريحة لكن الظرف الزماني
وربما المكاني أيضاً يمنع من التصريح أن يقول المرء كل ما يعرفه أمام
الآخرين.
وفي مرحلة من العمر المبكر يلاحظ أن بعض صغار السن ممن أتيحت لهم
فرصة تعلم القراءة والكتابة يشرعوا بكتابة خواطرهم وذكرياتهم إذا كان
ابويهم أو أحد الأبوين يشجع أن يكتبوا أطفالهم أو مراهقيهم من الأبناء
والبنات شيئاً أن لم يكن يستحق الاهتمام – كما قد يتصور البعض – لكن ما
سيكتبوه ستكون له قيمة حتماً على مدى المستقبل إذ تمتاز كتابة الذكريات
للصغار بالانطباعات والآراء البريئة الممزوجة بالتعابير الساذجة التي
هي عند الأطفال دليل براءة نفوسهم.
إن لكتابة المذكرات دور يحظى برعاية المهتمين بالثقافة والأب
والتاريخ أيضاً إذ من المعروف بأنه لولا التدوين الجاري على الأشياء
وللأشياء لما كان هناك تراكم التجارب الإنسانية والمنجزات البشرية التي
تنتقل من جيل إلى جيل، من هنا فقد وصفت المذكرات على أكثر تسمياتها
تداولاً بـ(كتابة السيرة) والمقصود بالسيرة هي السيرة الذاتية لكاتب
المذكرات التي يسجل فيها آرائه التي قد تكون خطيرة ببعض جوانبها وربما
أدت في مرحلة تاريخية سلبية إلى نهايته وبالذات في الكتابات السياسية.
وبهذا الصدد نقل لنا شخصية مقربة من عائلة (آل ياسين) العراقية عن
الدكتور علي الوردي (رحمه الله) أنه قد وجهّ له سؤالاً حول سبب توقف
كتابته حول تاريخ العراق لحدود مرحلة تاريخ انتهاء العهد الملكي سنة
1958م فأجابه لأنه يخشى على رقبته من كيد بعض السياسيين، وكان ذلك
الحوار قد جرى بين الاثنين بزهاء سنة 1970م بإحدى المقاهي بمنطقة
الكاظمية المقدسة ببغداد حيث كان الدكتور الوردي أحد أهم الوجهاء فيها،
وحول سؤال استكمالي آخر مهد له على أن هناك إمكانية عن الكتابة لأحداث
ما بعد تغيير النظام في العراق من ملكي إلى جمهوري مع الاحتفاظ بمخطوطة
ما يكتب وإظهار الكتاب مطبوعاً في فترة تاريخية قادمة قد تسنح لفائدة
المجتمع العراقي مما سيكتبه وبالذات عن الفترة من 14 تموز 1958 إلى 8
شباط 1963م فأجاب الدكتور الوردي أنه قد فكر بذلك لكنه غض النظر عن ذلك
بسبب كون السياسة في العراق هي بين مد وجزر وربما عرّض كتابه المقترح
أفراد عائلته إلى الاضطهاد إذا ما كان قد فارق الحياة.
وتدل المحادثة الآنفة مع الدكتور علي الوردي أن القمع الثقافي هو
أكبر حاجز يستهدف إبعاد الرأي العام عن حقائق التاريخ ولهذا فلا مفر
لدى كاتب المذكرات إلا ويجازف بنقل الحقيقة بأمانة مجردة حتى لو كان
ذلك على حساب حياته وذلك كنوع من الاستمساك بالمواقف المطلوبة والقيم
الوطنية الرفيعة.
إن المثقفين لطالما التجأو إلى معرفة العديد من الأحداث المعاصرة
التي عصفت بالبشرية وعرضت حياة الملايين إلى الإبادة سواء عن طريق
الحروب العالمية أو الإقليمية أو المحلية وبهذا الصدد فإن السعي إلى
معرفة المزيد من الأحداث مسألة تزيح السحابة عن كثير مما قد يحاول بعض
مدوني التاريخ تحريفه وقوة الإنسان المثقف السوي ما زالت في عقله
ورجاحة تفكيره إذ يبقى نموذج هذا النوع من المثقفين الأكثر اعتماداً
لتثبيت بواكير المقاصد في أي طرح ولهذا فإن اهتمامهم بمؤلفات الآخرين
مسألة ستبقى أحد الأسباب المساهمة في البحث عن الحقيقة.
وإعلاء شأن الانطباعات الشخصية العفوية أو الحيادية المدونة في
المذكرات هي في أهم جانب منها تمثل نهجاً ثابتاً يعبر عن تخليد الشخص
لاسمه ولشخصيته أيضاً ولكن بطريقة غير مباشرة إذ يعرف قراؤه عما كان
يختزنه من معلومات وجدانه لا بد وأن يكتبها في أوراق مذكراته، وحيث أن
ظاهرة كتابه (المذكرات والسير) هي حضارية في مغزاها وأبعادها فيفضل أن
لا ينسى أن الكاتب السلبي للمذكرات والأحداث هو إنسان مجازف باسمه ولا
يدري أن التفسير المعاكس لما يكتبه ضد الحقيقة لا ينطلي على المنصفين.
ولذا فإن لكتابة المذكرات شروط معنوية إذا ما فلتت من عقال الحياة
ووقائعها فلن يكون أمامها سوى الارتداد إلى الخلف في عالم يتقدم بخطوات
مسيرته، ولعل في كتابة المذكرات الإيجابية شيء من التعبير الحالم
بالرومانسية التي نجعل كاتبها يتخيل أنه قد ساهم في إضافة جهده الشخصي
ليتمتع الآخرين بقدر من المعرفة الموزونة والسديدة. |