منذ سني الصغر والمرء مرتبط ببيئته لذا يقال: (إن الإنسان ابن
بيئته) ويقصد هنا بكلمة بيئته من حيث المعنى الاستدلالي (البيئة
الاجتماعية) التي يميل إليها بجميع جوارح فطرته وصلة الوصل هذه تولد
لديه إحساساً أن يكون له صوت مسموع بين الأشخاص المحيطين به و المحيط
بهم. وهكذا هي الحياة في ديمومة بين الفرد والمجتمع والمجتمع والفرد
هذا يتعلم من ذاك وبالعكس.
الطفل بطبيعته يحاول انتهاج طريق تقليد الآخرين الأكبر منه سناً
ولكنه لا يتهيب أن يثبت ذاته من خلال تجربته الشخصية منذ أن يتجه إلى
اللعب وهو بعد مازال في عمر نعومة الأظفار ولعل مبدأ (إنكار الذات)
يبدأ لديه حين يتنازل من أحدى لعبه ويعطيها لطفل آخر كي يلعب بها وإذا
ما أحسن الأبوان (الأب والأم) تشجيع الطفل على أن يأخذ حسبانه من حاجة
أصدقائه الأطفال لبعض ألعابه الشخصية الفردية فيكون ذلك بمثابة تيقيظ
صفة (الكرم والإكرام) منذ وقت مبكر لا يمكن اعتباره أمراً سابق لأوانه
بل العكس هو الصحيح.
ومماحكات المرء على المستوى الاجتماعي انطلاقاً من الشعور الإيجابي
بأن لا تبعية لهذا الشخص إلا بجانب الحق يجعله في غمرة وارتياح نفسي
على كونه يسير بخطوات صائبة إذ أن من الأمور التي تبحاثاه المرء هو
توجيه الأسئلة عليه إذا ما أخطأ عمداً أو عن عدم دراية بحق غيره. ولذا
فالإنسان في حالة بحث دائم عن صديق وفي إذا ما وجده فأنه يطمح إلى
تركيز الصلة الأخوية – الاجتماعية معه حتى يتوج علاقته به إلى مرتبة
المصير المشترك حيث تقاسم المشاركة بالاتراح والأفراح معاً.
فإذا كان الترابط العائلي يلمسه المرء منذ بدايات فتح عيناه على
الدنيا فهو يشعر أن هذا الرباط المقدس بين أفراد العائلة يحتاج إلى
رباط أكثر تأثيراً لديمومة هذا الرباط العائلي على أفضل ما يكون ولعل
في اندماج الإنسان مع مجتمعه الأفسح الالتحاق بعمل للرزق أو الالتحاق
بنادي لممارسة هواية محببة أو المشاركة في جمعية كل أبواب لمعرفة
انعكاسات ذاته على الآخرين وانعكاسات ذوات الآخرين عليه.
وصفة تعليم الكبار للصغار (الأب والأم لأبناؤهما وبناتهما) والمعلم
لتلاميذه، ثم سطوح الأعراف والتقاليد في العلاقات الصداقية الناجعة هي
الظاهرة الاجتماعية المثلى التي تضع الإنسلان على بدايات الوعي لينتهل
من قناعاته الأولية منهجاً له في الحياة التي تحتاج مسيرتها إلى
المراعاة، ولعل من خلاصة ما يقوم به الآخرون من إطلاق أحكام وإبداء
مواقف بمختلف أمور الحياة ونشاطها اليومية ما يجعل الآخرين ومن حيث لا
يشعر المرء أن هؤلاء يشكلون مدرسة قائمة بحد ذاتها يمكن تقصي حقائقهم
وتوجهاتهم من خلال الأشخاص المقابلين يتعلم من آرائهم وانطباعاتهم
وتحليلاتهم للأمور الكثير الكثير رغم أنه لا يسجل ذلك في أوراق مذكراته
لكن تجربة الآخر هي دائماً موضع تاثر في النفوس يأخذ منها موجباتها
ويهمل مسالبها.
فمن بين معارف المرء أو من يصادفه شخصيات مثيرة للأعجاب الذي يصل
أحياناً لمرحلة الاحترام الفائق فإذا ما خان ظن المرء بأحد هؤلاء
الملتفين حوله ودأب على أداء واجب صداقي مجرد من غاية سلبية ممكن أن
تؤزم الموقف وفشل في ذلك فشلاً لم يجد له مبرراً عند الآخر الذي قبل أن
يبرز موقفاً متدنياً من أمر ما فإن ذلك يقود بالمرء السوي إلى الشعور
بـ(الصدمة) فيقال أن بعض الناس قد تغيروا ولم يعودوا كما كانوا عليه
قبلاً.
وحلم المرء الأخير مع كل الآمال التي تعتريه إذ يبقى نابضاً للظفر
بكل شيء أحسن لحياته يعز عليه أن يرى ظاهرة الارتداد عن المثل عند نفسه
وعند الآخرين أن تذهب سُداً ولهذا فالمرء بطبيعته الاجتماعية يريد
التدخل لمعرفة أي شيء عند الآخر فيما يتعلق بحدود الأصول فقد يكره
المرء أن يكون البقاء للمهيمن على الآخرين كلاماً أو موقفاً أو نفوذاً
قبل أن يكون لأي هيمنة سطوع مبدأ الحق والحقيقة المجردين فيها.
إن الإنسان السوي بقدر ما يرغب من فرض اعتداده بنفسه على الآخرين كي
يكونوا عدول مثله تماماً لأن في العدل وتطبيقاته راحة للجميع فهو
يعلمهم من حيث لا يشعر من أقواله وانطباعاته وتجاربه وذخيرة فكره ولهذا
يرى أن تأثير هذا المرء بين المحيطين به ظاهراً لكن المرء السوي لا
يتأثر به إلا من يكون من نفس الشاكلة الناقصة التي تفتقر للأحاسيس
الصادقة اتجاه الآخرين.
أما المرء ذاته وهما أوتي من حنكة استيعابية لمشاكل نفسه ومشاكل
الآخرين فهو يتعلم بدوره منهم وأن تجارب الحياة اليومية ليست مسألة
مرتبطة للاستفادة من المثقفين فقط كما يظن غالبية الناس فالتعلم من
الجهال أمر وارد أيضاً مثل تفادي ما يقدمون عليه من أفعال أن معرفة
الآخرين عالم واسع يعرفنا بذواتنا أيضاً. |