يُقال أن كلمة (الشعر) مأخوذة من غرار مفردة (الشعور) ذو الرفعة
المضمون بشيء من التحلق الروحي والنافر إلى تاريخ الشعر في العالم أجمع
يلاحظ أن رقي الشعر العربي فيه من ميزات التعبير والتوصيف ما يصعب بلوغ
درجته في العصر الحديث الذي يشهد تقهقراً كبيراً أمام التعبير النثري
المتصاعد إلى الذُرى الأرقى في عالم المخاطبة والتوصيل للآخرين.
وجدير بالذكر أن الشعر الحديث المعاصر الذي تمثله قصيدة التفعيلة
بشطريها (الشعر الحر) و(الشعر النثري – أي المسمى بالقصيدة النثرية)
يعاني من تشتيت التعبير بحيث أن الإفراغ من قراءة قصيدة لا يوصل ليس
إلى فهم المعاني التعبيرية فيها بل إلى إقرار إلى أن الشعر العربي
الحديث ستشيع جنازته قريباً فإذا كانت هناك فوائد في ضرب الأمثلة فيمكن
القول أن من ينشر نتاجاً شعرياً دوماً فهو شاعر ولكن من يقوّم نجاح هذه
الأبيات القصائدية لهذا الشاعر أو ذاك؟ إن الجواب على مثل الأسئلة توصل
حتماً قبل كل شيء إلى أن تمت قراءته لم يكن شعراً بل تصفيف كلمات مع
كلمات أخرى لا استساغة عند سماعها ولامعة عند قراءتها فهي ذات تعبير
خاص محاط بالإبهام والطلاسم والألغاز والضبابية وهذا ما أفسد كل
المعاني الجميلة ذات الإيقاع الجميل في النفوس السامعة للشعر أو
المستمتعة بقراءته.
والأغرب ما عند المقيمين لنجاح أو فشل القطعة الشعرية الحديثة أنهم
يعملون أو يتعاملون مع الصحف اليومية المحلية في معظم بلدان العالم
النامي ومنها البلدان العربية إذ تعج بهم المؤسسات الصحفية التي تصدر
دورياتها اليومية (الجرائد) ولا تكاد تصدر عدد من صحيفة منها دون أن
تحمل بين بعض صفحاتها قطعة ومسمى الشعر أو ما هو محسوب على الشعر كان
قد مرت على هؤلاء المقيمون الذين لن يستطيعوا أن يميزوا أساساً بين
التعبير الشعري والتعبير اللاشعري.
والمعضلة في الوسط الشعري أنه وسط قد ألتحق به جيش جرار من الفاشلين
في النتاج الثقافي وشطره التأليف الشعري بالذات لكن فرصة هؤلاء الذهبية
أن ما يسموه بقصائدهم الشعرية تمرر على أولئك الذين تصدروا الصفحات
الثقافية فيوعزوا النشر كلام لهذا ويحجبوا إصدار الإيعاز لغيره
والمسألة لم تعد مسألة مزاج كما قد يتخيل بعض النقاد لكن الموضوع بات
محصور أنه في زمن اللاشعر هناك من يجيز القطعة المكتوبة المقدمة له
فيقيمها على كونها قطعة شعرية ناجحة في حين أن مؤلف تلك القطعة ذاته
الذي يسمي نفسه شاعراً لا يدري تماماً أن كان ما ألفه هو شعر أم لا.
ولعل هذه الوجاهة الفارغة في الأقسام الثقافية التي منحت لأشباه
المثقفين قد جعلت الإقبال على الكتابة للصحف الدورية بشكل هائل شجعت
على بروز أسماء يقال عنهم (شعراء) وكيف لا وقد أستطاع الميسورون منهم
من جمع عدد من قصائدهم وتقديمها إلى الجهات الثقافية المختصة للنشر وهي
بدورها لا تعرف فيما إذا كان المقدم لها لإصداره كـ(ديوان شعر) هو شعر
إلا شيء آخر. ومن دلائل هزيمة أولئك الشعراء وشعرهم أن أحداً لا يحفظ
لمن أصدر أكثر من ديوان شعري ولو لـ(بيت شعري واحد) وعلى سبيل الخطأ.
إن الذاكرة الشعرية لعظماء الشعر العربي مازالت متقدة في الأذهان
والمجتمع العربي يرد العديد من الأبيات الشعرية القديمة لأكثر من شاعر
مضى لكنه لا يحفظ للشعراء المعاصرين الناجحين وهم قلة إلا ما ندر من
نتاجاتهم أما هؤلاء الذين يصدرون قصائدهم المسماة بالشعر اللاشعر فإن
ما يصلحوا له هو أن يكونوا في جمعية ممكن تسميتها بـ(جمعية معارضة
الشعر) بعد أن ثبتت أنهم يحملون أقلاماً تكتب كلاماً يسيء للتكوين
الشعري كما يسيء لمعنى التعبير الشعري أيضاً.
لقد فات أعداء الشعر العربي ممن يكتبون قصائد يدعون أنها شعراً
عربياً أنهم يتآمرون على الحياة الشعرية عبر نفوذ الجهلاء الذين
اخترقوا الوسط الثقافي في غفلة من هذا الزمن الانهزامي الذي أمات
الكثير من أساسيات الشعر وعمل على سحب الإصالة من الخطاب الشعري العربي
فغدت القصيدة الرومانسية مثلاً في الشعر العربي من التراث القديم وكأن
الأمة لم تعد تستطيع إنجاب شاعر عظيم كما كانت تفعل في تلك الأزمنة
الغابرة.
إن أغلب الناس من المهتمين بقراءة النتاجات الثقافية لا يقرأون
الشعر المنشور في الصحف وهذا الموضوع ما زال بعيداً عن اهتمامات
الوجهاء الثقافيون الذين يفترض أن ينصب بعض تطلعهم لحماية الحياة
الثقافية عبر الحرص على إجازة الصالح من الشعر ليأخذ طريقه إلى النشر
وتعيين مثقفين عن حق في وظائف تدقيق المخطوطات المرسلة من قبل الكتاب
والمستكتبين لبيان إقرارها أم لا وهذا ما يستوجب إعادة النظر في الكثير
من هيكليات المؤسسات الثقافية العربية. |