كان من ابرز اثار الثورة التكنولوجية المستمرة تراجع الكلمة وسيادة
الصورة في عملية الاتصال والتواصل بين ابناء الجنس البشري.
ولعل اختراع الكمبيوتر ومن بعده تكوين شبكة الانترنت العقبة الاهم
التي منحت الانسان قدرات متزايدة القوة والفاعلية لريادة الافاق
المجهولة واكتشاف ما كان عصيا مستغلقا وكانت الصورة هي الفرس المجلي
التي استطاعت ان تهز عرش الكلمة.
وقبل الانفجار التكنولوجي واندلاع ثورة المعلومات على نحو واسع في
الثلث الاخير من القرن الماضي لم تكن الكلمة مجرد اداة تواصل وناقلة
للحضارة البشرية مذ وعت تاريخها بل كانت خازنتها ايضا طيلة القرون
الطويلة التي يقاس بها عمر التاريخ البشري.
فاللغة كانت الاداة المجلية والاساسية للتواصل بين البشر
ولتلاحمهم الثقافي ولخزن حضاراتهم.
من هنا يمكن ان نتصور هول الانقلاب الذي حصل عندما استطاعت الصورة
ان تتقدم وتسقط الكلمة من مكانها وتخطف منها مكانتها وتحقق اعجوبة
التواصل بين البشر من غير كلام ولا نصوص.
وقد عمد العالم المذهول بمتابعة ما يحصل الى صياغة تفسير يطمئن
اليه مفاده ان "البشرية الداخلة في مرحلة جديدة من مراحل تطورها
الدائم اكتشفت في مسيرة تقدمها وتطورها الاداة الامثل المتناسبة مع
هذا التطور الذي وصلت اليه".
ولكن اذا عدنا ببعض التبسيط الى تفحص الالية التي يتم بها الاتصال
بين البشر عبر النص لوجدنا ان التفكير وتشغيل العقل هو شرط ضروري
ولازم لاتمام عملية الاتصال.
ان الكتابة بوصفها بحثا عن الكلمات المناسبة التي تستطيع ان تقدم
المعنى المراد كتابته ليست في نهاية المطاف سوى عملية ترميز للافكار
تشبه الى حد بعيد عملية استعمال الشيفرة (الكود).
وعندما تجتمع الكلمات والرموز لتشكل نصا متكاملا يعود الكاتب
ليتفحصها من حيث قدرتها على نقل فكرته باكثر ما يمكن من الدقة وهو
لذلك يلجا الى استبدال بعض الكلمات باخرى او قد يلجا الى تغيير موقع
بعضها في الجملة تقديما او تاخيرا الى ان يطمئن ان النص بات قادرا على
حمل ونقل ما يفكر فيه بدقة وامانة.
ولو عثرنا على هذا النص وحاولنا قراءته لو بعد الف سنة على كتابته
فعلينا كقراء القيام بعلمية معاكسة للكتابة تقوم على فك الرموز
والكلمات املا بالتوصل الى التقاط الفكرة التي حاول الكاتب ان يضمنها
في نصه.
من هنا... فاذا كانت الكتابة عبارة عن عملية تشفير (كودينغ) فان
القراءة عبارة عن عملية فك الشيفرة (ديكودينغ).
وفي الحالتين فان التواصل عبر الكتابة والقراءة لا يمكن ان يتم
الا باستعمال العقل والقيام بالتفكير اللازم الذي تتطلبه عملية
التشفير او عملية فك الشيفرة.
نستنتج ما كان معروفا بالبداهة وهو ان التفكير شرط التواصل عبر
الكلمات والنصوص فما هو شرط التواصل عبر الصورة وهل يتطلب التواصل
عبرها القيام بالتفكير واعمال العقل.
اذا كتبت نصا صغيرا من سطرين ذكرت في اوله "بينما كان طرزان ..."
ثم ملأت السطرين بكثير من النقاط وكتبت في اخر النص كلمة "...فمات"
وعرضته على القراء فمن المؤكد ان احدا لن يفهم الحكاية التي يقدمها
النص لان الكلمات الضرورية لشرحها غير موجودة.
ولكن اذا عرضت شريطا مصورا بثلاث ثوان يظهر فيه طرزان وهو يقفز من
حبل نباتي الى اخر فزلت يده فجاة لحظة مرور اسد من تحته فهوى طرزان
عليه وانتفض الاسد على الفور وانقض على طرزان وعضه في رقبته عضة قوية
فمات فان المشاهدين سيتمتعون بمنظر طرزان وهو يتقافز في الغابة
ويستثارون لحظة وقوعه وستنخلع قلوبهم لحظة ظهور الانياب في لقطة مكبرة
قبل ان تنغرس في عنق البطل الاسطوري وتتسبب بموته.
هنا حصلت عجيبة التواصل عبر التلقي المتكاسل المستمتع من دون حاجة
الى التفكير واعمال العقل لفهم ما يدور.
فالتواصل عبر الكلمة يتطلب التفكير في حين ان التواصل عبر الصورة
يتطلب التلقي وترك العقل يسرح ويتكاسل.
ولكن ولان الطبيعة الام افهمتنا عبر ملايين السنين من التطور ان
العضو الذي يتكرر استعماله ينمو ويكبر والعكس بالعكس امكننا قصور
انسان الغد كمخلوق غريب صغير العقل صغير الراس بعينين كبيرتين.
المصدر: كونا |