لا أحد يدري كيف ظهرت (ثقافة النخبة)؟ ومن أطلقها على من؟ حتى إذا
ما انتهت الحرب الكونية الثانية 1945م وبدأت صفحة جديدة من العلاقات
التبادلية بين بلدان العالم أخذ مصطلح ثقافة النخبة يأخذ مداه بين
أفراد المجتمعات.
وإفرازاً لما يعنيه مصطلح – الثقافة النخبوية – دخل السياسيون
المؤدلجون على خط النقاش فطرح ذوو الفكر الاشتراكي تسمية (الثقافة
للشعب) رداً على أطروحة الفكر الرأسمالي القائلة أن (الثقافة للفرد)
وفعلاً فبظهور هاتان التسميتان أخذ كل فريق يشرح مبرراته هل يكون الأدب
أو الفن (للشعب) أم (للفرد) أولاً وبقي الخلاف قائم بين الفريقين
وبطبيعة الحال فإن الطبقة الرأسمالية في البلدان الغربية ذات التوجهات
البرجوازية بقيت مصرة أن الثقافة مفتوحة للجميع ولا يفترض أن تكون
محصورة لفئة دون أخرى أي بما في ذلك الطبقات الفقيرة والوسطى والغنية
معاً لكن الناحية الإنانية جعلت طبقة التجار الرأسمالييين يعتقدون أن
الثقافة الواسعة ليست حاجة أساسية عند الطبقة العاملة (مثلاً) كونها
طبقة فقيرة وأن عليها أن تبقى مكتفية بما يجود على أفرادها الزمن من
صدف كي يطالع العامل كتاباً قيماً إلا أن وجود المكتبات العامة قد أتاح
فرصاً عظيمة أمام الطبقات المحدودة الدخل في الدول الرأسمالية كي
يطالعوا أمهات الكتب وينهلوا من المعلومات التي بنيت من ثقافتهم
الذاتية بما لا يمكن نكرانه حيث ظهر من بين الطبقة الوسطى كُتاب
وصحافيين وفنانون عظام وهم على درجة وعي كبيرة وبالذات في مجال إبداعهم
الأدبي أو الفني، وبذاك فإن (نظرية الفن للشعب) لم تكن وليدة النظام
الاشتراكي في العالم بل أن هذه النظرية كانت بطريقة وبأخرى سائدة حتى
في المجتمع الرأسمالي ذاته.
وبالوقت الذي أتاح عالم ما بعد الحرب الدولية الثانية الفرص الواسعة
التي انفجرت في القرن العشرين الماضي لبيان الاختلاف بين النظرية (الرأسمالية)
من جهة ومقابلها النظرية (الاشتراكية) فقد صعدت (الحرب الباردة) بين
أصحاب النظرتين ووصلت أوجها إذ كانت مهمة كل طرف أن يكسب الرأي العام
العالمي لصفه وتبني أطروحاته، وحيث أن مصطلح (الثقافة للشعب) بقي كشعار
دفعه العالم الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي المهزوم دون حرب وعلى
اعتبار أن ما يرفعه الغرب من كون مصطلح (الثقافة للفرد) فإن المقصود به
هو ليس (أي فرد) فقد غير المفكرون البرجوازيون في الغرب المصطلح في (الثقافة
للفرد) إلى مصطلح جديد سموّه (الثقافة لذاتها) وفي التفاصيل المعلنة
بين الأطروحتين المتناقضين في الرأي تم تجزيء المصطلح لدى كل من
الجانبين فقال الطرف الاشتراكي بما يعني النتاجات الفنية: (الفن للشعب)
أو (الأدب للشعب) أما الطرف الرأسمالي فطرح لأول مرة فلسفة (الفن للفن)
و(الأدب للأدب) وهكذا.
وفي خضم الصراع الفكري الذي أصبح موضة تلك الحقبة بدأت تظهر صحف
تقتصر نتاجاتها على مجال معين دون آخر وظهرت أول مرة لدى الجانبين
الرأسمالي والاشتراكي معاً وبتوسع وبذلك تم حصر مهام الثقافة على محاور
نخبة من الناس فمثلاً أن مصر كانت قد قلدت الغربيين في إصدار مجلة تعني
بأهل الفن (فقط) بصورة عامة فكانت مجلة (الكواكب) هي المجلة الفنية
الأولى في مصر وكانت ما تزال تصدر حتى الآن إلى بعض البلدان العربية
وجمهورها الرئيسي هم العاملون في المجال الفني أولاً كـ(فنانين وفنانات)
ومجلة الكواكب استطاعت أن تخاطب قراؤها بحيث جعلتهم من حيث يدرون أم لا
إلى (جمهور نخبة) لأنه جمهور لا يقرأ سوى ما يتعلق بحياة ونشاط أهل
الفن على اختلاف مجالاته هذا وقد ساهمت مجلة الكواكب للتعريف بالحياة
الشخصية للفنانيين والفنانات أكثر ما ساهمت بالتعريف في ماهية نتاجاتهم.
وبين هذا وذاك قلدت بعض البلدان العربية (قدر المستطاع) ما خطته مصر
في هذا المجال ففي لبنان مثلاً ظهرت مجلة (الموعد) وهي مجلة من ذات
الاتجاه الذي قدمت عروضه مجلة (الكواكب) المصرية واستطاعت هاتان
المجلتان أن تؤسس لثقافة فنية هشة تعني بأخبار النجوم من أهل الفن أكثر
مما تبحث في علمية نتاجاتهم وإذا ما عرفنا أن مجلة الكواكب قد صدرت في
القاهرة حتى قبل الحرب العالمية الثانية فهذا يوضح أن هناك محاولات
لتأسيس (المجتمع المخملي) الثقافي مصر أولاً قبل أن تصدر المجلة الآنفة
إلى البلدان العربية الأخرى ومثل هذا بالنسبة لمسلسلات الكتب والمجلات
التي تبحث في الشأن الأدبي كسلسلة (كتابي) في مصر الذي يحررها (حلمي
مراد) ومجلة (فكر وفن) التي تصدرها ألمانيا الاتحادية.
إن مصطلح (ثقافة النخبة) بقي شائكاً ومتشابكاً رغم كل ما يقال أنه
خاص بطبقة فقد أصبح الجميع يطلعون على كل النتاجات. |