أكد المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي مارك مالوك براون
أن التنمية البشرية مبنية في المقام الأول وقبل كل شيء على السماح
للناس بأن يعيشوا نوع الحياة الذي يختارونه، وعلى تزويدهم بالأدوات
المناسبة والفرص المواتية لتلك الخيارات وإذا كان تقرير التنمية
البشرية قد سعى خلال السنوات الأخيرة إلى تأكيد أن هذه المسألة سياسية
بقدر ما هي اقتصادية، من حماية حقوق الإنسان إلى تعميق الديمقراطية،
فإن تقرير هذا العام مبني على هذا التحليل، وعنوانه الكبير الحرية
الثقافية في عالمنا المتنوع، فالحرية الثقافية في التقرير الذي أطلقه
برنامج الأمم المتحدة هي جزء حيوي من التنمية البشرية لأن تمكن الإنسان
من اختيار هويته، أي من يكون، من خسارة احترام الآخرين أو التعرض
للاستعباد عن خيارات أخرى، شرط مهم للعيش حياة كاملة، فالناس يريدون
حرية ممارسة دينهم علانية والتكلم بلغتهم، والاحتفال بتراثهم العرقي أو
الديني من دون خوف أو تهكم أو عقاب أو انتقاص لفرصهم المواتية وهم
يريدون حرية المشاركة في المجتمع من دون الاضطرار إلى التخلي عن جذورهم
الثقافية المختارة ويرى التقرير أنه إذا تم التعامل مع هذه المطالب
بصورة جيدة فإن الاعتراف الأفضل بالهويات سيؤدي إلى تنوع أكبر في
المجتمع يغني حياة الناس، لكن في المقابل هناك خطر كبير أنه إذا ترك
هذه الصراعات على الهوية الثقافية من دون علاج أو عولجت على نحو سيء
فإنها قد تتحول بسرعة إلى مصدر من أكبر مصادر عدم الاستقرار ضمن الدول
وفيما بينها وتسبب في نزاعات تعود بالتنمية إلى الوراء، وينبه التقرير
إلى أن سياسات الهوية التي تستقطب الناس والمجموعات توجد خطوط تقسيم
فاصلة بين نحن وهم ويزداد الارتياب والكراهية مما يهدد السلام والتنمية
والحريات الإنسانية، ويشير إلى أن العنف العرقي قد دمر في السنة
الماضية مئات المنازل والمساجد في كوسوفو وصربيا، وأسفرت هجمات إرهابية
بالقنابل على قطارات في أسبانيا على قتل نحو 200 شخص، وأدى العنف
الطائفي بحياة آلاف المسلمين وهجر آلافاً آخرين في ولاية غوجارات
وأماكن أخرى في الهند ويحص التقدير نحو خمسة آلاف مجموعة عرقية في
بلدان العالم البالغ عددها قرابة 200 ويشتمل ثلثا هذه البلدان على
أقلية كبيرة واحدة على الأقل أي على مجموعة عرقية أو دينية تشكل ما لا
يقل عن 10% من السكان، ويرصد تسارع وتيرة الهجرة الدولية التي خلف
آثاراً مذهلة على بعض البلدان والمدن، وعلى سبيل المثال، فإن قرابة نصف
سكان تورونتو ولدوا خارج كندا، ويحتفظ عدد كبير من الأشخاص المولودين
من أصول أجنبية بعلاقات مع بلدانهم الأصلية أوثق مما كان يفعله
المهاجرون في القرون الماضية وفي محور الهوية العرقية والولاء للدولة
يدحض التقرير ما يسميه خرافات في شأن أسباب قمع الهويات الثقافية فيما
مضى، فليس صحيحاً فحسب التقرير أن هويات الناس العرقية نتنافس مع
ولائهم للدولة، إذ يستطيع الناس أن يمتلكوا وهم يمتلكون بالفعل هويات
متعددة وتكاملية، فالعرق واللغة والدين والعنصر، فضلاً عن الجنسية، كما
أن الهوية ليست مسألة مكسب يستتبع خسارة موازية، إذ ليست ثمة حاجة
حتمية إلى الاختيار بين وحدة الدولة والاعتراف بالتباينات الثقافية
ويوضح التقرير أن من المهم للأفراد أن يكون لديهم شعور بالهوية
والانتماء إلى مجموعة ذات قيم مشتركة وروابط ثقافية أخرى، لكن كل فرد
يستطيع أن يتماهى مع مجموعات كثيرة مختلفة.
فالفرد له هوية الجنسية مثل أن يكون فرنسياً، وهوية الجنس مثل كون
الإنسان امرأة وهوية العنصر مثل أن يكون متحدراً من غرب أفريقيا وهوية
اللغة وهوية السياسة وهوية الدين وتنطوي الهوية على عامل الاختيار إن
في وسع الفرد أن يعطي الأولوية لانتماء قبل انتماء آخر في سياقات
مختلفة، فقد يشجع الأمريكيون من أصل مكسيكي فريق كرة القدم المكسيكي
لكنهم يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي، ولفت التقرير إلى أن
تاريخ القرن العشرين إذا كان يدلنا على شيء فهو أن السعي إلى القضاء
على المجموعات الثقافية أو تمنى زوالها يولد صموداً عنيداً، وفي
المقابل أدى الاعتراف بالهويات الثقافية إلى حل توترات لم تكن لها
نهاية، ولا يتعين على البلدان أن تختار بين الوحدة الوطنية والتعددية
الثقافية إذ تظهر الدراسات أن الاثنين يستطيعان العيش معاً. |