لم يكن أحد ليتصور أن صدام حسين سيساق لمحكمة عادلة، فأبعد ما كان
يتصوره ضحاياه أنه سيقتل على يد أحد أتباعه، أو بانقلاب عسكري يقوده
بعض الثائرين أو بعض الطامعين بالسلطة.. ولكن أن يساق صدام
حسين بهذه الطريقة المهينة مربوط الأطراف بقيود وسلاسل طويلة فهذا
مالم يتصوره أحد، ويبدو أن يد الغيب قد تدخلت في هذه المسألة لتأكيد
عبرة إلهية لكل من ينهج الطريق الذي اختاره صدام لنفسه، وقد أشار
النص المقدس إلى هذه السنة في القرآن الكريم: (إِنَّمَا
جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ)(1).. ولا
يخفى أن صدام حارب الله ورسوله بأفعال وأقوال كثيرة فحارب
المؤمنين والمصلين وهدم بيوت الله وظلم الناس بشكل لايمكن تصوره، وشن
الحروب غير المبررة وهدم البيوت وأحرق الثروات وأزهق الأنفس التي
أوصى الله تعالى أن تصان ولا تزهق إلا بالحق: (مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ)(2).
ولم يقتصر طغيان صدام وجبروته على محاربة عباد الله في شعائرهم
وطقوسهم الدينية وآرائهم ومعتقداتهم السياسية والفكرية، بل تجاوز ذلك
إلى الذات الإلهية حين وضع لنفسه "99" اسما فرض على البعثيين حفظها
وترديدها في اجتماعاتهم الحزبية، وأجاز للسجانيين أن يفرجوا عن
المحكومين لأسباب غير سياسية إذا حفظوا أجزاء من القرآن إلى جانب
حفظهم لأسماء" صدام الحسنى" بالترتيب، فوضع نفسه موضع فرعون، وإن لم
يجرؤ على التصريح بهذا علنا..
صدام لم يحفظ لله ذمة إلا خانها ولاحرمة إلا انتهكها فقتل الصغير
والكبير وقتل المرأة والرجل على حد سواء، منتهكاً كل النصوص الشرعية
والقيم والقوانين الوضعية، فقد أوصى الباري تعالى ورسله
باحترام غير المحاربين وعدم التعرض للمرأة والطفل والشجر والحيوان في
وقت الحرب، فضلا عن وقت السلم، وأوصى الإسلام باحترام الأسير، فلم
يُنقل عن الرسول (ص) أنه قتل أسيرا بل جاء ذكره في القرآن الكريم مع
الذين يستحقون الرحمة والشفقة (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)(3)،
فأين صدام من كل ذلك، هل نبقى نكرر بشائعه والآخرون يصرون على تجاهل
ما ارتكبه من جرائم واضحة كالشمس في رابعة النهار؟.
وإذا كان الإسلام أوجب القصاص (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى
بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن
رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ)(4)، فتعالوا
نتحاشى الجرائم التي ارتكبت خلف الجدران، ولنصدق محامي صدام القائلين
أن المقابر الجماعية التي اكتشفت في العراق تعود للسومريين، وأن
مارآه العالم من ثكالى يندبن أحبتهن هو مشهد أخرجته مؤسسة السينما في
هوليوود.. دعونا من كل الذين يقولون أن صدام حسين مجرم حرب شن حربين
مدمرتين على إيران والكويت، ودعونا من الذين يقولون أنه استخدم
الأسلحة الكيمياوية ضد سكان حلبجة فقتل أكثر من 6000 عراقي كردي،
ودعونا من حرق آبار النفط الكويتية وتعريض البيئة للخطر. دعونا نسقط
جرائم تجفيف الأهوار وتبديد الثروة العراقية وإحراق مئات القرى
والقصبات في الجنوب والشمال، دعونا نسقط هذه التهم كلها ونقف فقط على
ثلاث منها: إعدام الشهيد محمد باقر الصدر، وأخته العلوية بنت الهدى،
وقتل الأسرى الكويتيين، وقطع آذان وألسن وأطراف معارضيه.
فهل يدعي أحد أن صدام لم يقتل الشهيد الصدر وقد اعترف في أكثر من
خطاب بجريمته هذا وطالما نعت الرجل بــ( المقبور )، وهل ينكر أحد
قتله لأخته آمنة الصدر وقد اعتقلت معه، وتبجح صدام في أكثر من مرة
بجريمة قتلها عائبا على يزيد أنه ترك زينب بنت علي بن أبي طالب أخت
الحسين حرة طليقة فسببت له المشاكل وكان الأجدر به أن يقتلها كما فعل
هو مع بنت الهدى على حد زعمه..
وجريمة قتل أكثر من 600 أسير كويتي وجدت رفات الكثيرين منهم في
مقابر جماعية هل تعد من الجرائم الخرافية؟! أم أن عوائل هؤلاء
المظلومين حية ترزق وهي شاهدة على جريمة اختطافهم ونقلهم إلى بغداد
ليصيروا في عهدة نظام صدام الذي يجب أن يكون مسؤولا مسؤولية مباشرة
عن حياتهم.
الجريمة الأخرى هي قرارات قطع الأكف لكل من يتعامل بالدولار بدل
اليورو أيام الحصار، ووشم الجباه لكل من يتخلف عن الخدمة العسكرية
وقطع الألسن لكل من يسب صدام حسين وينتقد نظامه، وهذه كلها مسجلة في
قرارات رئاسية وقع عليها صدام نفسه، ومن الغباء أن يدافع محامو صدام
عنه بينما هو أدان نفسه بأدلة مسجلة في أرشيف الحكومة وفي المنظمة
الدولية.. تعالوا لنناقش حق الضحايا في هذه الجرائم فقط، أفلا يحق
لذوي الشهيد الصدر المطالبة بدمه استنادا للشارع المقدس
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ
وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(5).
أفلا يحق لذوي الأسرى الكوتيين الذين قتلوا في سجون صدام بعد
أسرهم أن يطالبوه بدمهم، وهل يجرؤ أحد على إسقاط هذه التهمة عن صدام
وبأي حق، فهو قد كان الحاكم المطلق في العراق وليس سواه ...هو
المسؤول الأول عن كل ماحدث وسيرى الجميع كيف يعترف الباقون من أنصاره
على جرائم ارتكبها وحض على ارتكابها..
الجريمة الأخرى التي ارتكبت بقرار معلن من صدام هي قطع الأعضاء
ووشم الجباه وقطع الألسن، واستنادا للنص القرآني الشريف، فمن وقع
عليهم الجرم لهم الحق في القصاص منه، ولو قدر لكل منهم أن يأخذ من
جسد صدام قطعة بحجم تلك التي اقتطعها من جسده طالما أن "الجروح قصاص"
فلن يبقى منه شئ ، ولا ندري فربما يجد الخصاونة وأنصاره المفسدون في
الأرض والمدافعون عن المفسدين تخريجا لهذه الجرائم يتلاءم والمغالطات
والافتراءات التي ظلوا يطلقونها طوال الفترة الماضية.. ولكن هذا لا
يغير من الأمر شيء فصدام حسين يواجه مصيره المحتوم ولن تنفع كل
المحاولات لإنقاذه من المصير الذي سعى إليه بقدميه، وهناك في العراق
والكويت وإيران ملفات بحجم الجرائم التي ارتكبها وهي مطبقة عليه من
كل صوب ولن تنفع كل الطرق الملتوية لتخليصه من حبل المشنقة، فصدام لم
يدع مجالا للتشكيك بأي من جرائمه، وإذا كنا كـعرب ومسلمين نطالب
بمحاكمة شارون عن الجرائم التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني، وإذا كان
العالم قد وقف إجلالا لمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنة وعلى رأسهم
ميليسوفيج ، فلماذا يدافع بعضنا عن صدام وتحت أي ذريعة، وهو قد ارتكب
من الجرائم مالم يرتكبه أمثاله الذين حُوكموا؟!
يجدر بالذين يدافعون عن صدام أن يكونوا منصفين طالما هم رجال
قانون، وهذا الأخير لاقيمة له إن جانبَ العدل ودافع عن الجريمة
والمجرمين.. ليترافعوا عن صدام لا أحد ينكر عليهم ذلك، ولكن ما ينكر
هو تتفيههم لجرائمه وتكذيبهم لها في تعد صارخ على هموم ضحاياه
وآلامهم، بطريقة لا إنسانية، وكأن المحاماة هي تغيير الوقائع والكذب
والتحريف من إجل تضليل العدالة، ولا ندري هل سيكون موقف الخصاونة
وأمثاله من المحامين الأردنيين كما هو الآن لو أن صدام قتل أحد
أبنائه أو اغتصب إحدى قريباته، أو هدم بيته وترك أطفاله في العراء؟..
لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.. (وَمَكَرُواْ
وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(6)..
[1] الآية 33 من سورة المائدة.
[2] الآية 32 من سورة المائدة.
[3] الآية 8 من سورة الإنسان.
[4] الآية 178 من سورة البقرة.
[5] الآية 45 من سورة المائدة.
[6] الآية 54 من سورة آل عمران.
|