بما أن اللغة هي وعاء الفكر والنفس والعاطفة، وهي وسيلتنا لإدراك
العالم من حولنا، والأداة التي نجسد بها المجرد في هيئة المحسوس،
ونحوّل بها المحسوس إلى مجرد.
وما فيها من فوائد شخصية عامة للمجتمع وأنها انعكاس لرقي وحضارة
الأمة أو تراجعها وخيبتها وإفلاسها حضارياً فلا من وجود مستويات ومراتب
لها ووجود علاقة للغة بمستعملها، إذ هناك علاقة بين لغة الحديث العامة
واللغة الفصيحة، مما أصطلح عليه بالعامية والفصحى، وهذه الازدواجية
ظاهرة عامة في كل لغات العالم.
والفصحى أيضاً ذات مستويات يجسد كل مستوى منها وظيفة من وظائف اللغة
فهناك مستويات التفاهم الذي يستعمل فيه الناس اللغة للتواصل اليومي،
وتمتزج في هذا المستوى العامية والفصحى في معظم الأحوال، وفي معظم
اللغات، إن لم يكن جميعها.
وهناك مستوى اللغة الأدبية الفنية، التي يستعملها الأدباء والشعراء
والفلاسفة، ومن إليهم في إنتاج روائعهم، ومستوى ثالث: لغة العلم التي
تنقل المعارف الكونية والطبيعية وما إليها، وهي في معظم الأحوال لغة
دقيقة لا زخرف فيها ولا تزويق.
واللغة في كل هذه المستويات تعبير عن ثقافة الأمة في كل أبعادها
الأدبية والعلمية والاجتماعية ولكن اللغة على مستوى التفاهم والتواصل
هي القاسم المشترك بين الناس على اختلاف مستوياتهم الفكرية والاجتماعية،
وهي تشكل ما نسميه باللغة الإعلامية، ومن طريقها يمكن تبسيط ما تعبّر
عنه اللغة في مستواها الأدبي والفني، وفي مستواها العلمي ونقله وكلما
انفتحت اللغة الإعلامية على فروع المعرفة المختلفة، وبسطتها ونقلتها
إلى عامة الناس، ازداد وعيهم بثقافتهم في كل أبعادها، وتعمقت في عقولهم
ونفوسهم القيم والأفكار التي ترتكز عليها حضارة الأمة في حركتها
الدائبة إلى الأمام.
وبذلك يتكامل دور اللغة بوصفها أداة للتعبير عن شتى العلوم والفنون
ورسالة للتوعية والإعلام ولأهمية هذا اللغة الإعلامية في حركة الثقافة
العامة برز إلى الوجود علم جديد، هو علم اللغة الإعلامية.
وهو علم يهتم بدراسة اللغة من الناحية اللسانية والنفسية
والاجتماعية والإحصائية، ويستفيد في ذلك من كل الدراسات في حقول
المعرفة المختلفة، ليطور لغة الإعلام، بحيث تؤدي رسالة التثقيف العام
في عالم متغير، وهو في ذلك لصيق بعلوم الاتصال الجماهيري، يستفيد من
معطياتها كما تستفيد هي من معطياته.
والغاية من كل ذلك الوصول إلى لغة عصرية، تأخذ في إطارها ما صمد على
الزمن من ألفاظ الماضي، وتنفتح بوعي على مكتسبات الحاضر وقد ينجم عن
ذلك ما يمكن تسميته باللغة الوسيطة التي تتجافى عن الحوشي والغريب،
وتستثمر ما انتهى إليه التطور اللغوي من ذخائر في الألفاظ والتراكيب.
ولعلم اللغة الإعلامي دور كبير في ترقية هذه اللغة الوسيطة – لغة
الإعلام – وتطويرها لتحمل رسالة التوعية والتثقيف والإعلام على أفضل
الوجوه ومن ذلك الاستفادة من الدراسات الإحصائية حول أكثر الألفاظ
شيوعاً، للتركيز عليها في حمل الرسالة الإعلامية، ولا بد لهذه اللغة
الوسيطة – لغة الإعلام – أن تتجافى عن الغموض، وعن ألفاظ الدعاية الفجة
التي لا تحمل معلومات موجهة إلى عقل المتلقي، بقدر ما تحمل من شحنات
عاطفية تغذي الأوهام، وتحول بينه وبين الوصول إلى الحقائق المجردة.
وعلى العموم فإن اللغة السليمة في تركيبها وأدائها ووضوح معانيها
خير أداة لنقل الثقافة وهي في الوقت نفسه خير معين على تطوير الثقافة
لأنها بما تركزه في عقول الناس من ألفاظ محددة المعاني شاملة لألوان
المعرفة، تصبح أداة فاعلة لنشر الفكر وتزويده بالمعطيات التي تساعد
العقل على أداء وظيفته على أكمل الوجوه.
إذن علاقة اللغة بالثقافة جدلية: تنفعل اللغة بالثقافة، وتنفعل
الثقافة باللغة، وكلما تعمقت هذه العلاقة ازدهرت اللغة وازدهرت الثقافة.
فإذا كانت العلاقة بين اللغة والثقافة انفعالية جدلية تأثيرية فهل
تُحَبَّذْ العربية باعتبار أنها تمتلك المقومات الكافية والمعدلات
السلوكية للفرد والمجتمع واتزانهما على غيرها من اللغات الأخرى ومنها
الغربية باعتبارها ليست بذاك المستوى ثم تأثيرها على الفرد عبر الثقافة
الغربية وتبعاتها ومفاسدها، إذ اللغة ليست أقل تأثيراً من الملابس
وأنواع الموضة أم لا؟ الجواب متروك لكم. |