إنه
أخي وصديقي
لست بصدد الكتابة عن أخي.. إنه صديقي أيضاً وقلما يرتبط الأشقاء
بعلاقة صداقة، فكيف بها وقد كانت صداقة وأخوة؟
نشأنا في بيت ريفي، وكنا خمسة أخوة وبنت واحدة.. والدنا إنسان يجهد
صيفا وشتاءا ليوفر لنا مستوى معيشيا مقبولا ، وحرص كل الحرص على أن
نتم تعليمنا، بعكس ما كانت عليه أحوال عائلات مجاورة، فأنهيت
البكالوريوس، وكان مصطفى رحمه الله في طريقه لإتمام دراسته الجامعية
في كلية الآداب، لولا أن اختطفته يد الموت البعثي واختصرت سنواته،
وهو لم يزل في منتصف العقد الثالث بعد.. أشد ما يحزنني حين اتذكر
علاقتي به أنه تربى أيضاً بين يدي، فبسبب ظروف عائلية خاصة، كنت
أعتني به لساعات عدة وهو لم يزل صغيرا.. لم يكن بعيدا عن الألم
منذ صغره، إذ أصيب وهو في أشهره الأولى باحتباس في المجاري البولية،
كان يؤلمه بشدة، فيضج بالبكاء ليل نهار أحيانا، ولم تنفع معه مراجعات
المستشفيات التي كثرت في وقتها... ونشأت معه حالة مرضية كان يسقط
بسببها فيفقد وعيه إلى درجة أننا كنا نحسبه يموت، وذات مرة وجد ته
يسقط بين يدي، ولم يتجاوز عمري حينذاك ستة أعوام، فلم أجد أمامي سوى
أن أبكيه بحرقة وخوف كبير، حتى أن الجيران اجتمعوا على جزعي .
حين كبرنا.. لفت انتباهي فيه خصال كبيرة.. فذات مرة وفي
ظهيرة يوم شديد الحرارة في مطلع الثمانينات، وعمره وقتها سبعة
أعوام تقريباً، سقط على جبينه بينما كان يمشي على قطعة حديد(
شيلمان) فتدفق الدم غزيرا من جرح لازمه حتى الكبر.. ولكن رغم
تدفق الدم لم يبك أو يظهر تألماً، بل وقف وكأن الجرح لم يكن فيه...
ذات الموقف تكرر معه بعد أشهر حين ألقي على صدره خطأ ماء ساخن..
إشارات كانت منذ البدء تسجل صبرا وجلدا عند هذا الشاب الذي حمل مبكرا
هم أمة وجاهد من أجل قيم رسالية حفزه الإيمان بها للانضمام إلى
تشكيلات المجاهدين.. كان يبحث عنهم ويتوسم السبل في سبيل الوصول
إليهم، فرغم أنني سبقته إلى هذا الطريق، غير أنني ومن باب اللطف به
وبوالدي لم أرد له أن يسلكه إلا حين أتصل به محتجا بضرورة أن نكون
يقضين لمحاولات النظام السابق الذي كان يجد وبكل الوسائل لاختراق صوف
المجاهدين.. ولكنه اتصل بهم في النهاية ونفذ العديد من العمليات هو
ومجموعة من الشباب المؤمنين كان أبرزهم الأستاذ الشهيد السعيد السيد
علي الموسوي( ماجستير آداب)..
وفي عام 2000 كشفت مجموعتهم، ولكن لم يتمكن النظام الساقط من إلقاء
القبض على أي منهم، رغم أن السلطة داهمت منزلنا وأمر المجرم
(جاسم لفته المالكي) بتهديمه.. واضطر الشهيد مصطفى سرحان أن
يغادر إلى إيران تاركا والديه وزوجته وابنه قاسم، وهناك التقيته
للمرة الأولى بعد أعوام من الفراق.. وبكل حرص الأخوة حاولت أن أجعله
يتريث في عمله ويدع الأمور ريثما تهدأ، ولكنني اصطدمت بطود كبرته
بأعوامي وكبرني بإصراره وعزيمته وصلابته.. لم أتمكن أن أجعله يفكر
بطريقة غير تلك التي كان يفكر بها.. كان مستعدا للشهادة بدرجة عالية،
فعاد هو وقريب لي "الشهيد محمد شاكر عبد السادة" عادا ليواصلا الترصد
لمدير أمن البصرة المجرم اللواء مهدي ووضعا الخطة اللازمة لاغتياله،
ولكنهما فوجئا بأجهزة السلطة في البصرة تلقي القبض عليهما في
1\1\2001 ، ليقادا بعد أشهر إلى مديرية الأمن العامة.. نقل بعض الذين
كانوا معه في التحقيق، أنه أبدا صلابة قل نظيرها ونقلوا حوارا دار
بينه وبين أحد ممن يسمون أنفسهم قضاة هناك:
القاضي البعثي: أنت قائد هذه المجموعة من المخربين؟
الشهيد مصطفى سرحان: نعم أنا أتحمل
كل ما قامت به هذه المجموعة.
القاضي البعثي: ما الذي تريدونه من
الحكومة.. ألم توفر لكم قوتكم في هذه الظروف الصعبة؟
الشهيد مصطفى سرحان: من حق أي شعب
على الحكومة أن توفر قوته، ولكننا نريد الحرية، فالحيوانات هي التي
ترضى بقوتها فقط..
القاضي البعثي: أنتم مجرمون ومخربون وخونة؟
الشهيد مصطفى سرحان: أنتم أتباع معاوية
والحجاج، بينما نحن أتباع الحسين..
القاضي البعثي: أنت لاتستحق الرحمة والشفقة، سأجعل رقبتك تتدلى على
حبل المشنقة (يسب الشهيد ويشتمه).
الشهيد مصطفى سرحان: ألم الموت لن يكون
أقسى من ألم التعذيب في سجونكم.. نحن نفوز برضا الله، وأنتم تخيبون
بسخطه ونقمته..
حين تلا القاضي قرار إعدامه مع مجموعة أخرى ضمت الشهيد
(السيد علي الموسوي، ومحمد شاكر عبد السادة وآخرون) جمعوهم في
غرفة واحدة ليباتوا ليلتهم معا بعد أشهر من الفصل، كما جمعوا معهم
مجموعة أخرى من الذين جلبوهم في التحقيق وتبين فيما بعد أنهم كانوا
من كتبة التقارير للسلطة (محمد، وكمال،
وآخرون).. بات الشهداء ليلتهم تلك بتلاوة القرآن والدعاء والتضرع،
بينما بات الأذلاء كتبة التقارير يتوسلون بالشهيد مصطفى أن يبرئ
ذمتهم، ونقل أحدهم فيما بعد أن الشهيد قال لهم: (أعلم
أنكم كنتم تراقبون كل حركة أقوم بها وتكتبون تقاريركم للسلطة
باستمرار، وسأشكيكم إلى الله تعالى يوم الحساب).
وفي 24\ 1\2002 أعدم الشهيد السعيد مصطفى سرحان وأخوته الشهداء
(محمد شاكر، والسيد علي الموسوي والآخرون) لينالوا أوسمة
الرضا الإلهي ويدخلوا في رحمة الله.. بينما كان نصيب أعدائهم ومن وشى
بهم متخفين خائفين يعدون أيامهم، ويحسبون كل صيحة عليهم.. فسلام على
الشهيد السعيد مصطفى سرحان وأخوته الشهداء يوم ولدوا ويوم استشهدوا
ويوم يبعثون أحياء..
(والدي والدتي أخوتي
أخواتي، أرجوكم براءة ذمتي، وأتمنى أن لا تبكوا علي بل وزعوا الحلوى)..
|