وله
مواد الحكمة وأضداد من خلافها:
فإن سنح له الرجاء أذله الطعم. وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص. وإن
عرض له الغضب أشتد به الغيظ. وأن أسعده الرضا نسي التحفظ. وإن ناله
الخوف شغله الحذر. وإن أتسع له الأمن استلبته الغرة وإن أفاد مالاً
أبطره الغنى وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن عضته الفاقة شغله البلاء
وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة(5)، فكل
تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد!
من كلام للإمام علي (ع) عن طبائع الإنسان
نقرأ في كلمة (تقديم) لـ(مركز الغدير للدراسات الإسلامية) هذه
الكلمات المنيرة:
الإمام علي بن أبي طالب (ع) هو إمام البلغاء والمتكلمين كما هو إمام
المتقين.. وآيته في ذلك (نهج البلاغة) الذي يمثل ما في أسس البيان
العربي، مكانة تلي مكانة القرآن الكريم، وتتصل به أساليب العرب، في نحو
ثلاثة عشر قرناً، فتبني على بنائه وتقبس منه جذوتها، ويحيا جيدها في
نطاق من بيانه الساحر.
كان الإمام علي (ع) يرتجل كلماته يلقيها في مجالس القوم، خلاصات
تأمل، وفي محافلهم، خطباً تجيش في داخل الذات، فينطق بها اللسان عفو
الخاطر، فتأتي محكمة دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
أختار الشريف الرضي أواخر القرن الرابع الهجري نماذج من خطبه
ورسائله وكلماته القصار، وجمعها في كتاب سماه (نهج البلاغة) والاسم يدل
على أن هذه النماذج المختارة تمثل نهجاً في البيان والأداء، يُوصلُ إن
اتخذ مثالاً، إلى البلاغة، بوصفها كشفاً عما في الذات والواقع وإيصالاً
إلى الملتقى، وهذه هي غاية الأدب الخلاق العظيم.
ومنذ ذلك اليوم الذي جمع فيه الكتاب عكف العلماء والأدباء على
قراءته وشرحه، فتعددت الشروح وتنوعت، وبلغ بعضها مجلدات عديدة، يقتضي
الإطلاع عليها وقتاً وجهداً قد لا يملكها المرء في هذا العصر.
يلبي هذا الكتاب حاجة القارئ العادي ولطلاب المدارس والجامعات
وللقارئ المختص، أيضاً في هذا الزمن الذي لا يجد فيه المرء فرصة
للقراءة وسط المشاغل العديدة، وطغيان وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
ونقرأ في محور (حدود العقل والقلب) هذا النص:
من تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ.. أدرك ظاهرة لا تخفى وهي
أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تباين مذاهبهم... أدباء
موهوبون...
هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو
الإمام في الأدب كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علمّ وهدى،
وآيته في ذلك (نهج البلاغة
وكذلك نقرأ في محور (العدالة الكونية وما يمثله علي منها) هذه
السطور الساطعة تحت العنوان الفرعي (تكافؤ الوجود):
نظرة واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله: على النجوم
الثابتة في سعة الوجود والكواكب السابحة في آفاق الأبد، وعلى الشمس
المشرقة والسحاب العراض والريح ذات الزفيف، وعلى الجبال تشمخ والبحار
تقصفها القواصف..تكفيه لأن يثق بأن للكون قانوناً وأن لا حواله ناموساً
واقعاً كل منهما تحت الحواس وقائماً بكل مقياس.
وأدرك ابن أبي طالب في أعماقه أن المقايسة تصبح أصلاً وفرعاً بين
السماء والأرض اللتين قامتا بالحق واستوتا بوجوهه المتلازمة: الصدق
والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لا بد لها أن تكون صورة مصغرة عن هذا
الكون القائم على أركان سليمة ثابتة فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه
المقايسة ثم لا يلبث أن يقول:
وأعظم ما أفترض في تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على
الوالي فريضة فرضها الله لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم فليست تصلح
الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية فإذا
أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم،
واعتدلت معالم العدل وجرت على إذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في
بقاء الدولة، وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت
هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وتركت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت
الأحكام وكثرت تحلل النفوس... فهناك تذل الأبرار وتعز الأشرار.
ومما نقرأ في عنوان (صدق الحياة) هذه الإشارات البليغة:
كان الإمام علي بن أبي طالب شديد الملاحظة لصدق الوجود شديد التفاعل
معه، فقد جعل من همة الأول في الناس تهذب الناس استناداً على ما يعقل..
و.. الصدق مع الذات ومع كل موجود مادي ومعنوي.
المؤلف:
جورج جرداق
المواصفات:
الطبعة الثانية 1423هـ - 2002م
(239) صفحة من القطع الكبير
الناشر:
الغدير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت -
لبنان |