أبرز تقرير متابع لقمة الدول الثماني في سي ايلند الأمريكية أن
الضجة التي أثيرت حول تدخل الخارج في شؤوننا الداخلية خفتت حتى تكاد أن
تكون قد تلاشت، فالمسودة الأمريكية الإصلاحية أقامت الدنيا ولم تقعدها،
أما مشروع البيان الذي قد يصدر عن القمة، ومن المقرر أن يتحول بعد
يومين إلى وثيقة رسمية (ولو بعد تعديلات جزئية) تشكل لبنة من لبنات
التعامل مع الرجل المريض، وأشار التقرير أن قراءة المشروع توحي أن
واضعيه تجاوبوا مع اعتراضات وتحفظات عربية شارك فيها أحياناً الحكام
ومعارضوهم؟! ولئن كان طبيعياً أن يهب النظام العربي لإقفال أي مأخذ
تتسرب منها رياح الإصلاح فلقد كان غريباً أن دعاة تغيير محترفين وقعوا
في الفخ ورمو طفل الإصلاح مع ماء الغسيل الوسخ، وأوضح التقرير كان
العجز فاضحاً عن التمييز بين سياسة أمريكية فعلية يخضع لها بخنوع متميز
الحكام العرب وبين ادعاءات إصلاحية لم يكن منطقياً رفضها، باختصار لعبت
المفاوضات ورقة السلطات ومساعدتها، باسم رفض التدخل الخارجي المتلبس
شكلاً إصلاحياً، على تعميقه بتعينها لهذا الخارج وعلى المضي قدماً في
التجاوب مع سياسته الفعلية، وبرأي التقرير عن قراءة مسودة الأخيرة كانت
الأفكار البريطانية أكثر تجاوباً مع الحذر الرسمي العربي أي اقل جذرية
في التلويح بيافطة الإصلاحات من أجل التستر على مشاريع عدوانية
راديكالية، ومن بعدها الاقتراح الفرنسي – الألماني حيث ظهر أن الروحية
الأوروبية تغلبت على الأمريكية والأمثلة على ذلك كثيرة منها الدعوة إلى
حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني باعتباره عنصراً مساهماً في تطوير
المنطقة وتحديثها ولو أنه ليس شرطاً يجدر الاهتمام به من دون تعليق كل
شيء عليه، دخل إلى المشروع الجديد عنصر التمايز، الذي يعني أن الدول
المعنية بالإصلاح ليست متساوية في هذه الحاجة وأنه لا مبرر بالتالي
لوصفة واحدة تنطبق عليها جمعياً، كل الاقتراحات التفصيلية ترهن الصلة
بمنظمات المجتمع المدني بالصلة مع السلطات، الحكومات العربية هي الممر
الإلزامي لهذا التغيير، وهذا لم يعد وارد الحق التي كانت الولايات
المتحدة تريد انتزاعه والذي يخولها إقامة علاقات مباشرة مع المجتمعات
من وراء ظهر الحكومات، ولم يعد مطروحاً حصر المداخل الإصلاحية بواحد
تتحكم فيه واشنطن، فللاتحاد الأوروبي أن يستمر في مسار برشلونة
ولليابان أن تطور الحوار ولأمريكا أن تعمل عبر المبادرة الشرق أوسطية،
وللأطراف معاً أن توجد مؤسسات للتحاور مع هذا الشرق الكبير بما يجعل
المبادرات متكاملة لا تلغي واحده الأخرى، لم تعد الإشارة إلى مشاكل
المنطقة تكتفي بالقول أن التخلف الذي تعانيه مصدر خطر على المصالح
الوطنية للآخرين، بات يقال أن انعدام السلام في المنطقة هو أيضاً مشكلة،
وفي السياق نفسه لم يعد تقرير التنمية البشرية مرجعاً وحيداً إذ أضيف
إليهما ولو من دون ذكرهما صراحة أن للمنطقة ثقافتها ومساهمتها ودورها،
أي أن هناك من قرر مداعبة النرجسية بدلاً من استخدام المرآة التي تظهر
المشهد على بشاعته المعروفة؟!!
لاحظ التقرير غياب أي عنصر إلزامي يوحي بنية فرض إصلاحات سياسية
واجتماعية وثقافية واقتصادية لذا سيتم الاكتفاء بطرح خطة يترك للمنطقة
الاستفادة منها ومنن اختياراتها يذكر ثمة خلاف بين واشنطن وبعض حلفائها
الأوربيين والعرب حول اقتراح بعقد منتدى سياسي مرتين في السنة تناقش
فيه الأطراف المجتمعة في هذه القمة مدى التقدم الذي أحرزته الدول
العربية في عملية الإصلاح وهو اقتراح يثير قلق بعض الدول العربية وحتى
الأوروبية لأنه يمكن أن يفهم وكأنه صيغة مماثلة للصيغة التي انبثقت عن
مؤتمر هلنسكي في السبعينيات حول الإصلاح في الاتحاد السوفيتي والتي يرى
بعض المؤرخين والمحللين أنها بدأت الطريق الطويل الذي أدى إلى انهيار
الاتحاد السوفيتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية.
إن الكلمة المفتاح التي تكرر عند الإشارة إلى المنطقة هي قادة قطاع
المال والأعمال إلى جانب الحكومات والمجتمع المدني، ولا تخفي المسودة
أنها تحلم بقطاع خاص عربي تكون الدول في خدمته ويقود هو عملية التحرير
الاقتصادي والسياسي ويؤدي استقلاله الموهوم عن السلطات الحاكمة إلى فتح
باب التعددية وتمكين المجتمع المدني.
لقد اختفى الكلام أو كاد عن الحرمان من الحقوق السياسية والاقتصادية
وعن التنديد بوضع الحريات وعن دعم العمليات الانتخابية ومراقبة
ديمقراطيتها وعن مكافحة الفساد بل يمكن القول أن هذه العناوين ترد في
صياغات مخففة جداً وإيجابية وشديدة الرهان على الحماس الذي ستبديه
الحكومات حيالها، لقد تمخضت الثورة الأمريكية الإصلاحية فولدت فأراً،
لماذا لأنها بالأساس لم تكن حاملاً إلا بهذا الفأر؟! لقد كانت في الأصل
قنبلة دخانية ترفع لواء الإصلاح وترفع إلى جانبه مقياساً آخر تقيس به
درجة التجارب مقياس الطاعة والتبعية. إن السؤال المطروح أمريكياً على
الأنظمة هو سؤال الإصلاح ولكن الجواب المرغوب هو جواب الالتحاق وأخيراً
قال التقرير ما الذي جرى بين المشروع الأمريكي الإصلاحي، المسرب وهو
جذري بين النسخة الأخيرة أقرب إلى إعلان نوايا مرفقة بعدد محدود جداً
من المؤسسات أهمها منبر المستقبل؟!! الذي جرى زواج التواضع بالتواطؤ،
ففي تواضع أمريكا ميلها إلى تعددية تشرك الآخرين والأمم المتحدة مع
الاحتفاظ بحق القرار في إشارة إلى مساومات في أروقة مجلس الأمن أما
التواطئ فهو ما أقدمت عليه المؤسسة العربية الحاكمة من زيادة إنتاج
نفطها إلى النشاط التكاملي مع خطة شارون، إلى تعزيز الانخراط في
المعركة ضد الإرهاب إلى وعد الإصلاح التعليمي، وهكذا حصلت الشعوب
العربية على أمرين زيادة الالتحاق النظام الرسمي بالولايات المتحدة
وبدء توفير الشروط لسحب البند الإصلاحي من على جدول الأعمال، والثاني
مواجهة سابقة للحمى الإصلاحية الأمريكية ولاحقه لها. |