قد يبدو الأمر محيرا عندما يفكر الواحد منا في أسباب اتجاه بعض الشباب
في مجتمعنا نحو التشدد والتطرف والإرهاب، والأحداث التي تتوالى في
بلادنا ناقوس خطر يجب أن تنبهنا إلى أهمية دراسة هذه الظاهرة ووضع
الحلول الجادة لها. المراقب لأوضاع بلادنا من الخارج لا يرى أي مبرر
للقيام بمثل هذه الأعمال الإجرامية التي تعود بالضرر أولا وقبل كل شيء
على أبناء المجتمع أنفسهم، فالوضع الاقتصادي لأبناء المجتمع يعتبر
مقبولا عندما يقارن بالدول المجاورة، كما أن التزام الناس بالدين
الإسلامي وتعاليمه من المفترض أن تمنعهم من القيام بأي عمل يسبب أذى
للنفس والآخرين. فالسؤال إذا لماذا تولدت هذه الأعمال خلال الفترة
الماضية واستمرت في تصاعد كبير؟
أسباب تطرف الشباب:
أحد أسباب هذه الظاهرة هو الفهم الخاطئ لمبادئ الدين الإسلامي وتعاليمه،
والذي يعتمد على حالة من التزمت والتشدد والغلو وإقصاء الآخر. إن سماحة
الدين الإسلامي وسعة أحكامه تترجم من خلال التسامح والتعددية والتنوع
الفكري والتعايش السلمي الذي يؤمن بحرية الجميع في إبداء آرائهم
وممارسة معتقداتهم سواء في الدائرة الإسلامية أو الإنسانية. وبذا ينظر
الإنسان المسلم إلى الآخرين بنظرة مساواة واحترام، لا بازدراء وتعالي.
ويبدو أن الثقافة القائمة في مجتمعنا لا تمنح للفرد المجال للتعاطي مع
الآخرين بموضوعية وحب في المعرفة والإطلاع، بل تشحنه بمواقف مسبقة ضد
الآخر سواء كان مواطنا أو وافدا إذا ما اختلف معه في بعض التفاصيل
العبادية أو الثقافية أو المناطقية. فالخطاب الديني والثقافي في
مجتمعنا لا يزال جامدا ولا يتناسب مع التطور المادي والبنيوي الذي حصل
في البلاد. ولذا نرى بأن الشاب شديد التشدد ضد الآخرين، و لا يستطيع أن
يتعاطى بشكل متوازن مع من يختلف معه.
سبب آخر يكمن في قلة وضعف البرامج الموجهة لفئة الشباب، فهؤلاء يعيشون
فراغا قاتلا يدفعهم إما إلى الإنفلات من قيود العائلة والمجتمع والتمرد
عليها، أو إلى التشدد والتزمت لشعورهم بأن ذلك هو المخرج من الأزمات
النفسية والإحتماعية التي يمرون بها. فيعيش هؤلاء الشباب أسارى لأفكار
تقيدهم عن التمتع بحريتهم الطبيعية ضمن الأطر الدينية السمحة، وتدفعهم
إلى الاندفاع لمحاربة مجتمعهم بعد تكفيره والنظر إليه على أنه مجتمع
جاهلي يجب مقاومته. إن مرحلة الشباب من أكثر مراحل العمر حيوية ونشاطا
واندفاعا، ولذا ينبغي أن تكثف البرامج الهادفة للشباب من الجنسين التي
تعمل على استغلال طاقاتهم وإبداعاتهم وترسم لهم خطا واضحا لمستقبلهم
الحياتي. ومن الملاحظ أن الأندية الرياضية وفرق الكشافة وغيرها من
البرامج التقليدية قد فقدت الكثير من الجاذبية والفاعلية لجيل الشباب،
ولم توجد بدائل مناسبة لها تتناسب مع التطور الإجتماعي والتقني
والانفتاح العالمي.
من الأسباب أيضا، حالة الإحباط السياسي والاجتماعي التي يعيشها شباب
هذا الجيل، فالظروف السياسية من حولنا تدفع باضطراد إلى مزيد من الحرية
والمشاركة والشفافية، ولكن الشاب يرى نفسه أمام حالة من الجمود وعدم
القدرة على الفاعلية، ولا يرى بأن في وسعه المشاركة والتعبير عن رأيه
وطموحاته حتى في أبسط الأمور. فمثلا قد يكون له رأي في نظام المناهج
التعليمية، أو طريقة القبول في الجامعة، أو دور رجال الأمن وما إلى ذلك
– وكلها منطلقة من حسن نية ورغبة في التطوير – ولكنه لا يرى مجالا
ليعبر فيه عن رأيه أو يشارك الآخرين هذا الرأي فيشعر بأنه مقموع داخليا
وعاجز عن التفاعل والمشاركة، بينما يرى بأن مجالس البرلمانات الأخرى في
العالم تخصص أياما محددة للشباب للمشاركة في الجلسات والاستماع إلى
الآراء والتعبير عن آرائهم بحرية كاملة، كما يشاهد برامج الفضائيات
تتيح للشباب حوارات حرة ومفتوحة في مختلف القضايا المتعلقة بهم.
هنالك سبب أخير، وهو حالة التخوف من المستقبل وبالخصوص في ظل الأوضاع
السياسية والاقتصادية الغير مستقرة في منطقتنا. فمع ازدياد تكاليف
المعيشة، وارتفاع مستوى البطالة، وصعوبة الحصول على مقعد جامعي، فإن
الكثير من هؤلاء الشباب يعيش قلقا كبيرا وهاجسا ضاغطا على مستقبله
الوظيفي والحياتي، مما يجعله عرضة للنزوع إلى اتجاهات متطرفة توجهه إلى
اليأس من واقعه الحياتي المعاش وتعده بمستقبل أخروي رغيد. إن مثل هذه
القضايا المتعلقة بمستقبل الشباب والشابات في مجتمعنا يجب أن تدرس
بعناية فائقة ويساهم فيها كل من لديه خبرة وتخصص في هذا المجال، إضافة
إلى المسئولين المعنيين بتنفيذ القرارات المتعلقة بذلك.
دور الخطاب الديني:
بعض الخطاب الديني لا زال يعيش الماضي ولا يتعاطى مع تطورات العصر
الحديث ومفرداته ومعطياته العصرية، إنه يركز على الصور الجهادية
التاريخية لرموز المسلمين الذين كانوا يعيشون عصر بناء الدولة
الإسلامية وتأسيسها، ويحمس جيل الشباب للقيام بنفس الأدوار مع اختلاف
الظروف الزمانية والمكانية. لا زال الخطاب الديني بعيدا عن الواقعية،
ولا يلامس بموضوعية المشاكل والأزمات التي يعيشها الشباب، ولا يقدم
حلولا صادقة لها، بل يتعاطى معها بفوقية وتعالي على أنها من مخططات
الأعداء ووساوس الشيطان دون التقرب من جوهرها أو الأخذ بما يراه أهل
الاختصاص من علماء الاجتماع وغيرهم.
ينحى الخطاب الديني المتفشي بيننا – في إطاره العام – باتجاه الهدم لا
البناء، فهو لا يفتح سبل الحوار والتقارب مع الآخر للبحث عن مشتركات
التعايش، ولا يؤسس لثقافة التنوع الثقافي والديني والمذهبي، ولا يدعو
للتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، و لا ينظر للمصالح سياسيا بل يؤدلج
لكل القضايا ويجعلها ضمن منظومة فكرية مقفلة غير قابلة للبحث أو النقاش،
فهو خطاب تناطحي وانتقائي وإقصائي. وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما تحتويه
مناهج التعليم الديني والتي لا تخرج عن هذا الإطار، فإنه في ظل هذه
الأنماط من فعل التوجيه والإرشاد الديني تتربى الأجيال الشابة مشبعة
بعقد الحدية والتزمت والغلو والتطرف، لا تجد للرأي الآخر مكانا
واحتراما، ولا تتحمل الاختلاف مهما قل حتى داخل الدائرة الضيقة ذاتها.
من الضروري أن يتحول الخطاب الديني إلى خطاب عصراني متنور وقادر على
تشخيص المشاكل ووضع الحلول لها بكل صراحة وجرأة، بدلا من الالتفاف
حولها والتهرب منها، ومطلوب منه أيضا – لكي يساهم في حل الأزمة الحالية
– أن يتعاطى بشفافية تجاه قضايا المجتمع. فلماذا يتهرب هذا الخطاب من
الاعتراف الصريح بالتنوع المذهبي والفكري في مجتمعنا؟ إن ذلك قد يحمله
مسئولية التعاطي مع من يعترف بوجودهم، ولكن عدم الاعتراف بذلك لا تخلي
مسئوليته أبدا من التسليم بحقوقهم المدنية والوطنية والاجتماعية.
ومع تقديرنا لصعوبة الموقف، وحجم القوة التي تلتصق بمثل هذا الاتجاه،
فإن علاج هذه المعضلة الحقيقية تتطلب جرأة في المواجهة والطرح، كما أن
السكوت عليها سيجر المجتمع كله إلى الويلات والمصائب. وليس المقصود من
ذلك مواجهة صداميه مباشرة، إذ ليس من حل للمشكلة بسنخها( مثيلها)، بل
يجب المعالجة من خلال الدعوة الجريئة والجادة لفتح الحوار بكل أشكاله
وأنواعه على مصراعيه، وتجاوز المحاذير التي يتصورها البعض عما سيئول
إليه وضع المجتمع بسبب ذلك.
المسئولية الاجتماعية:
مع التطور الذي طرأ على المجتمع في مختلف المجالات خلال العقود القليلة
الماضية، أحدث ذلك تغيرا في أنماط السلوك الفردي والاجتماعي نحو المزيد
من التفكك الأسري والانفتاح على المجتمعات الأخرى الأكثر تحررا. ومع
عدم تطور سبل الرعاية والاهتمام بالنشء الجديد وجيل الشباب، فقد أدى
ذلك إلى حدوث حالة من الفراغ في التوجيه الجمعي والتواصل الأسري. فمع
تباعد المناطق السكنية وتزاحم المدن بخليط واسع من النازحين من أطراف
مختلفة، لم يعد يشعر الفرد من أبناء المجتمع بوشاج العلاقة بينه وبين
من حوله حتى يؤثر فيهم أو يتأثر بهم. وهكذا ومع مرور الزمن، يبدأ
الشباب بتنمية علاقات مع نظرائهم من المحيط الذي يعيشون فيه دون أدنى
سيطرة أو توجيه أو إرشاد من ذويهم أو من هم في موقع التوجيه.
وإذا أضفنا إلى ذلك انشغال أرباب الأسر – من الجنسين – بأعمالهم
والتزاماتهم المهنية أو الاجتماعية، وعدم قدرة الكثيرين منهم على
التعاطي مع مشاكل وقضايا أبنائهم بسبب اختلاف الطور الزمني، فكل ذلك
أدى بالطبع إلى وجود قطيعة بين الجيلين بحيث أصبح جيل الآباء والأمهات
عاجزا عن تقديم حلول بديلة لأبنائهم للحيلولة دون وقوعهم فريسة
لاتجاهات فكرية منحرفة أو متزمتة. بل إن الكثير من الشباب لا يفصح عن
مشاكله وهمومه أمام أقرب الناس إليه من أسرته المباشرة، ويتجه بدلا عن
ذلك إلى من يستطيع مكاشفته من الأصدقاء وزملاء الدراسة أو غيرهم.
وتلعب الظروف المعيشية دورا مهما في تعميق حدة مشاكل الشباب، فمع
ارتفاع مستوى البطالة وصعوبة الحصول على فرص عمل مناسبة، ينساق الكثير
من الشباب – بسبب الفراغ والضغط النفسي – إلى التعبير عن الضيق والكبت
الناتج من ذلك بصور مختلفة قد تصل أحيانا إلى ارتكاب بعض الجرائم
الموجهة للذات أو للمجتمع.
ولم تبد الفاعليات الاجتماعية من رجال أعمال أو علماء دين إلا النزر
اليسير من المعالجة الجادة في هذا الجانب لاعتبار أن ذلك جزء من
مسئولية الدولة، ولهذا فإن مساهماتهم في دعم أنشطة الشباب الاجتماعية
لا تزال محدودة جدا، وتبنيهم لمشاريع إنتاجية تستغل طاقة الشباب
وتنميها – كما هو الحال في دول أخرى – تعتبر معدومة، ومن أمثلة ذلك
الأندية الرياضية التي يمكن أن تكون شبه مجمدة في السنوات الأخيرة. ومن
ناحية أخرى فإن هنالك العديد من العراقيل التي توضع أمام الشباب
الباحثين عن عمل لأسباب بعضها موضوعي ولكن أغلبها تبريري، مما يعيق
حركة التحاق هؤلاء الشباب بوظائف وأعمال تناسبهم وتسد أوقات فراغهم
وتحل جزءا كبيرا من أزماتهم.
لا بد إذن من تعاون مشترك ومنظم لوضع حلول عملية جادة وناضجة لمعالجة
هذه الأزمة الاجتماعية، وفتح الأبواب لمشاريع تهدف إلى استيعاب الشباب
واستثمار طاقاتهم وتطوير قدراتهم بما يعود بالنفع على جميع أبناء
المجتمع.
المشاركة السياسية:
في ظل وضع سياسي محكم الانغلاق، قد يصعب معرفة اتجاهات الشباب وطرق
تفكيرهم ونظرتهم الحقيقية إلى ذواتهم وإلى مجتمعهم بمختلف مكوناته
ومفرداته. وقد يستغرب الواحد منا تكالب الشباب من أبناء مجتمعنا على
الاتصال بالقنوات الفضائية العربية المختلفة في أي برنامج حواري
اجتماعي أو ديني أو سياسي، مما يدل على وجود رغبة جامحة لديهم للتعبير
عن آرائهم وإيصال صوتهم إلى الآخرين. إن مرحلة الشباب تتميز بفاعلية
وطموح وانطلاقة في مختلف الاتجاهات والأبعاد، ونرى في معظم بلاد العالم
أن من يشارك في المظاهرات والفاعليات السياسية المختلفة هم شباب تلك
المجتمعات.
في الماضي – وحسب ما أتذكر – كانت بعض جامعاتنا المحلية تفتح مجالا
لطلبتها لتشكيل "رابطة الطلاب" فيها، حيث كانت تجرى انتخابات حقيقية
يشارك فيها الجميع بكل فاعلية وحماس، ويناقش المسئولون في هذا المرفق
بكل شفافية حيث يدفع كل طالب مساهمة مالية، ويشعرون بذلك أنهم يعبرون
عن ذواتهم وقضاياهم وحتى لو اقتصر على محيط دراستهم الجامعية الضيق.
وفي بعض المدارس في الخليج تجرى تجارب بسيطة للمشاركة وإبداء الرأي في
القضايا العامة فيقومون مثلا بتقسيم الطلبة في الصف على اتجاهين
مختلفين كل قسم يمثل اتجاها معينا، ثم يعين أحد الطلبة ليدير نقاشا
سياسيا بين الطرفين يتضمن عرضا لقضايا ومبررات كل اتجاه. كما أننا
نشاهد في بعض الدول ومنها لبنان التي تخصص يوما برلمانيا للأطفال حيث
يشاركون وكأنهم أعضاء في البرلمان ويناقشون قضاياهم وهمومهم.
إن في مقدور مجتمعنا أن يتبنى مشاريع تعليمية كهذه وغيرها تجعل من
الشاب إنسانا فاعلا ومشاركا في مجتمعه وقادرا على التشخيص والتحليل
والمشاركة. فماذا لو استضاف مجلس الشورى مئة شاب من طلبة الثانوية بين
الحين والآخر لحضور مناقشاته والتعرف على ما يدور فيه، بل والاستماع
إلى همومهم ومشاكلهم؟ وماذا لو تبنى أحد رجال الأعمال مثلا إصدار صحيفة
خاصة بالشباب والشابات يمكنهم من خلالها التعبير عن ما لديهم؟
لقد أتيحت لي فرصة ذهبية للاجتماع – كمراقب - في إحدى جلسات الحوار بين
مجموعة من الشباب (تتراوح أعمارهم بين 17- 26 عاما وكانوا أكثر من
ثلاثين شابا). وكانت الجلسة تهدف إلى التعرف على همومهم ومشاكلهم،
واستمتعت فيها كثيرا بسبب حالة الجرأة والانفتاح والاسترسال التي كانت
سائدة في الجلسة. وأهم ما نتج عن هذه الجلسة الحرة والحوار المفتوح
أنهم استطاعوا الحديث بحرية عن قضاياهم وهمومهم الحاضرة والمستقبلية،
وحسب تعبير أحدهم: "كل المجالس التي نحضرها نكون مستمعين فقط بدون نقاش،
أما الآن فنحن نناقش بكل حرية".
ويأتي في هذا السياق أيضا أهمية فتح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني
بكل أشكالها، فعندما تكون هذه المؤسسات قائمة بقناعة تامة من مؤسسيها
ومن شعورهم بحاجة المجتمع إليها ومن استقلاليتها التامة عن تدخل الدولة
– إلا في حدود الرقابة النظامية والدستورية – فإنها بطبيعة الحال
ستستقطب أعدادا كبيرة من الشباب والشابات وتساهم في استيعابهم ضمن
برامجها الموجهة لخدمة المجتمع.
كاتب من السعودية.. |