من يطلع على الواقع الثقافي العربي يزداد لديه اليقين أن الطموحات
الثقافية التي تختلج في صدور المثقفين هي أكبر بكثير من يلمسه المثقفون
من إنجاز.
ورغم كل ما قطعته الإنجازات الثقافية لكن ما بقي مرتفع منه في ذاكرة
المثقفين يكاد أن يكون مقتصراً على أعداد ضئيلة من الكتب المعروفة التي
ألفها بعض رموز التأليف فيما مضى من السنين حتى لتكاد المكتبات الشخصية
إذا لم تحتوي على عدد مقبول من تلك الكتب المتفردة لا تعد مكتبة مقبولة،
فمثلاً أن أي مكتبة لا تحوي على كتاب الله سبحانه وتعالى (القرآن
الكريم) تبقى مكتبة ناقصة والمكتبة التي لا تحوي كتاب (نهج البلاغة)
للإمام علي (ع) تعاني من نقص لمعرفة ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان
المؤمن.
لقد تم تقديم الكثير مما احتسب على نتاجات الثقافة لكن جوهر الثقافة
الراقي بقي قليل جداً قياساً على السائد العام وبهذا الصدد يمكن
التأكيد على بعض الجوانب الأخرى التي يتعامل بها المثقفون مع اختلاف
جيل عن آخر فالأفلام السينمائية الهادفة التي تعلم الناس كيف يكون
الإنسان سوياً في علاقاته العاطفية مع زوجته أو علاقاته المخلصة مع
أصدقائه أو ثباته على مبادئ الخير والمعروف ونبذ الشر والمنكر كلها
أمور ممكن أن تلمس بطرق ضمنية عديدة عبر النتاجات الأدبية (كالروايات
والقصائد والنقد الأدبي.. الخ) وكلها تقوم بدور المعلم وتزيد من
المعرفة لكن ما يحير المثقفون المعاصرون أن دور نشر عديدة قد أخذت
تتوسع في (طباعة الكتب) وأن مؤسسات لا حد لها أضحت تنشر دوريات (مجلات)
جرائد، فاق عددها المعقول وينطبق هذا الحال على النشاطات الأخرى في
الحياة الثقافية فمعظم النتاج الشعري لم يعد له طعم الشعر وتسطير
المقالات لا يتعدى بالعديد من الصحف أكثر من تصفيف كلام لأجل الكلام
وهذا ما أفقد (النوع) في عموم النشاطات الأدبية والفنية وجعلها مهلهلة
أمام المثقفون الحقيقون.
وبذا فقد خلق النتاج الثقافي الكمي سيادةً على مقابله النتاج
الثقافي النوعي إلا أن استمرار حضور النتاج الثقافي الناجح ما يذكر
دوماً بأن هناك إرادة ثقافية تتطلع إلى تحقيق العلا في الثقافة وتنهي
حالة الاغتراب عن النتاج الثقافي العام الذي تعاني منه جمهرات المثقفين
أو المندفعون نحو الاستمتاع والتعلم مما تريده الثقافة المعاصرة أن
يتعلمه منها عبر نتاجاتها كل أمرء يتطلع إلى حياة أفضل بعيداً عن أي
وصاية ثقافية تفرض على المجتمع.
ولهذا يمكن التقدير بأن الثقافة التي كانت يوماً مقتصرة على أن تكون
مقرونة بطبقة (النخبة) قد تجاوزها الزمن بعد أن هيئت ظروف الانفتاح
الاجتماعي الذي تم تدريجياً بكل مجتمع رغم حالته النسبية أن يظهر من
بين الطبقات الفقيرة والمسحوقة مخولاً في الثقافة وقد واصلوا حضورهم في
كافة ميادين الفكر والثقافة وبذلك جسدوا الفكرة القائلة أن لا احتكار
في الحياة الثقافية.
أن تحلي المثقفين بروح الإيثار قد نبه لضرورة خلق جبهة ثقافية غير
منظورة كان السلاح فيها لأعضائها هو الوعي وهذا ما ساهم في زيادة
الهاجس لدى رقباء الثقافة بأكثر بلدان العالم أن يعتبروا المثقف
الحقيقي عدواً مبيناً لحكوماتهم التي يعتاشون كـ(مرتزقة) على موائدهم
المحتوية على أكل (السحت الحرام) ولعل من الدروس المستخلصة من هذه
الحالة المعاشة وهي حالة سلبية بكل القياسات والأوزان ولا يمكن أن
تنتهي إلا إذا عرف هؤلاء الرقباء الخارجون أصلاً عن صف السوية البشرية
واعترفوا بـ(هزيمتهم التاريخية) المقيتة أمام مجتمعاتهم بأن هناك فرق
بين أن يفيد المرء غيره أو يسيء له.
أن المأزق الصعب الذي يضع فيه مرتزقة الثقافة أنفسهم به من القصور
الذاتي لكن ما يفوتهم أن الاستيعاب الحاسم للأمور يبقى من صفات الناس
الطيبين وليس الأشرار مع أن ما بين الصلابة على المبدأ النقي المتمثل
بالتعامل الأخلاقي العال مع الناس وبين حشر أنف الجهال في الحياة
الثقافية فارق شاسع لا يمكن نكره.
إن مدارة الخواطر الثقافية لم تعد مسألة قابلة للحياة وفي الرجاء ما
يمكن أن يدل على الطريق الصحيح الذي ينبغي انتهاجه في الحياة الثقافية
وأن الثقة بثقافة معينة إذا لم تكن واضحة في مداها الإنساني فهي ليست
ثقافة بالمعنى الدقيق والأخطر من هذا إذا ما تم الاعتقاد أن كل معتنق
لثقافة محددة يفقد ثقافته هي الثقافة الأصح ولكنه رفض مناقشة أفكاره.
ولعل ما هو خير في الثقافة أنها تقبل طرح وجهات النظر بكل (مغامرة)
ويفضل أن يتقبل معتنقوها أي نقد ويفتحوا الحوار الدائم مع أندادهم
الذين يؤمنون بثقافات أخرى فبغير الحوار الموضوعي تضيع الكثير من
الحقائق ويبقى العمل الصالح في الثقافة كـ(مجال روحي) هو المتكئ عليه
كأحد أساسيات انتهاج العدالة في الحياة. |