منذ أن التهبت الأحداث في العراق ونحن نسمع من
مناضلي الفضائيات حديثا حماسيا عن مأزق الإدارة الأمريكية في العراق
خاصة مع زيادة عدد التوابيت العائدة إلى الولايات المتحدة من العراق
بما ينذر بضياع فرصة الرئيس الأمريكي بوش في إعادة انتخابه.
إنه مأزق أمريكي حقيقي ولا شك أن استمرار حالة
عدم الاستقرار في العراق وفشل هذه الإدارة في دفع العرب لإقامة (ديمقراطية
عربية) ينذر باختفاء جورج دبليو بوش من ساحة السياسة الأمريكية
وانتقاله إلى قاعة المحاضرات وربما إلى الفضائيات ولكنها ليست
الفضائيات العربية على كل حال وتفرغه لتأليف كتاب (أنا وأبو مصعب
الزرقاوي) الذي سيفوق في شهرته كتاب (أنا والظواهري) وستقوم دار النشر
بدفع مبلغ مقدم لجورج بوش الابن قيمته خمسة ملايين دولار لشراء الورق
والأقلام ولكنه على كل حال لن يذهب إلى حفرة صدام.
إنه مأزق يتعلق (بحدود) القوة الأمريكية
الإمبراطورية ومدى قدرتها على إملاء سياساتها في أرض الواقع وهو لم يكن
المأزق الأول وربما لن يكون الأخير فقبله كان مأزق فيتنام ولبنان
والصومال ولكنه على كل حال ليس مأزقا يتعلق (بالوجود) الأمريكي القوي
رغم قيامه على التعددية الدينية والعرقية، ويوم أن يفشل رئيس أمريكي في
العودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض كما حدث مع جيمي كارتر أو بوش الأب
فإن هذا لا يعني نهاية التاريخ وإنما نهاية رئيس!!.
وحدنا نحن العرب والمسلمين هم الذين يستخدمون
تلك المصطلحات المهولة عن تحرير الأمة أو إعادة إنتاج وجودها الضائع أو
حتمية مواجهة الهجمة الغربية الصليبية التي تستهدف إلغاء وجود الأمة
والقضاء على استقلالها بما يعني أن الأزمة التي نعيشها هي أزمة وجود
وليست أزمة حدود فما بالك بحدود القوة فنحن بلا حول ولا قوة.
الأزمة الأمريكية هي أزمة (حدود) وليست أزمة
وجود فماذا عن أزمتنا نحن ولماذا يصر البعض على إلهائنا عن حقيقة هذه
الأزمة والتعمية علينا من خلال الصراخ والعويل والهتاف؟؟.
الأزمة الأمريكية تتعلق بمراهنة البعض على إفشال
خطط تلك الإدارة في فرض مخططاتها في بلد من بلدان العالم العربي
والردود العربية على الغطرسة الأمريكية ليس من بينها القول بأننا نملك
ديمقراطية تريد واشنطن أن تقضي عليها ولكنها ردود تقول تصريحا أو
تلميحا نحن نرفض كافة أنواع الديمقراطية مفروضة كانت أم نابعة من
الداخل باعتبارها نقيضا لما يسمونه (الخصوصية الثقافية العربية)!!!
وبالتالي فيوم أن ننجح (نحن) عبر آليات الديمقراطية الأمريكية في إخراج
بوش من رئاسته و(فرض الإصلاح على الأمريكيين من الداخل) فعلى كل من
تحدث يوما عن الديمقراطية في العالم العربي أن يتحسس رقبته وأن يعد
كفنه ولا عليك فالمقابر الجماعية لا تحتاج إلى ترتيبات خاصة ولا ملابس
رسمية وكل ما تحتاجه هو ربطة حول العنق أو طلقة في العنق وكفى الله
المؤمنين بالعروبة القتال.
الحماسة التي انتابت العرب فجأة لمقاتلة
الأمريكان لم تكن يوما من أساليبهم النضالية المعهودة خاصة وأنهم
أعلنوا منذ زمن ليس بالقصير أن السلام هو خيارهم الاستراتيجي وأغلبهم
لم يحرك ساكنا عندما كان أمثال هؤلاء الفتيان يحررون جنوب لبنان أو
يقاتلون الصهاينة على أرض فلسطين بل كانوا يعتبرونهم عملاء إما لسوريا
أو لإيران ولا شك أن الأسلوب الحماسي الذي يتحدث به عرب 2004 قد أعاد
إلى ذاكرتنا تلك الأيام الخوالي أيام حرب 1967و1956 والأيام الأولى من
آخر قادسيات صدام حسين بما يقطع ويؤكد على أن السبب الرئيسي للغزوة
الأمريكية هو سبب سياسي في الأساس وأن حكاية النفط هي مجرد مكسب ثانوي
من مكاسب تلك الغزوة.
وإذا كان ذلك كذلك وهو كذلك كان من الواجب على
عرب 2004 أن يعيدوا النظر في أوضاعهم التي جعلتهم الآن في خطوط الدفاع
الأخيرة وأقصى ما يحلمون به هو استمرار تلك الأوضاع المضطربة في العراق
حتى يفشل جورج دبليو بوش في انتخابات 2004 وحتى يتمكنوا هم من
الاستمرار في حكم شعوبهم إلى ما لا نهاية من دون إحداث أي تعديل في
أوضاعهم السياسية.
وبالتالي فإذا فشل بوش في العراق فسينتقل إلى
قاعة المحاضرات وليس إلى حفرة صدام.
أما إذا فشلنا نحن فسننتقل إلى مزبلة التاريخ
ولأننا سنكون يومها قد خسرنا كل شيء كنا نتوكأ عليه وأولهم الصديق
الأمريكي الذي أسلمناه مفاتيح الصراع ومفاتيح اللعبة ومفاتيح الخزانة
في مقابل أن يبقي في أيدينا مفاتيح القصور وها نحن الآن قد دخلنا في
صراع مفتوح معه دفاعا عن أوضاعنا البائسة والمنهارة ودفاعا عن حقنا في
اختيار الحفرة المناسبة في الوقت الملائم.
ماذا تغير في العقلية العربية بعد عام كامل من
سقوط بغداد أو بعد أكثر من خمسين عاما من سقوط فلسطين؟؟.
الجواب لا شيء
فالطائفية المذهبية قد اشتد ساعدها وها هي تسعى
لتقسيم العراق إلى سنة وشيعة وإشعال حرب بين أبناء الدين الواحد وها هم
المقاتلون العرب قد توافدوا على العراق من كل حدب وصوب يتنادون فيما
بينهم لقتال الشيعة (الكفار).
والطائفية العرقية قد اشتد ساعدها هي الأخرى
والأكراد الذين عاشوا عشرات السنين تحت القمع المتواصل في ظل القومية
العربية مجبرين على أن يرفعوا شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)
وأن يسبحوا بحمد العرب (لأن العرب خير البشر ومن أنكر ذلك فقد كفر!!!)
متأهبون لإعلان دولتهم حال تدهورت الأمور إلى ما هو أسوأ مما هي عليه
الآن والعرب رغم كل المداد الذي سكبوه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر
عن قبولهم للآخر واحترامهم للتعددية ومحاربتهم للتطرف يدعمون هذا
التطرف ويغضون الطرف عنه وعن طلائعه التي تخوض حربا مقدسة يرونها تسهم
في تخفيف الضغوط الأمريكية عليهم وفات كل هؤلاء المثل الشعبي القائل (اللي
بيشيل قربة مخرومة بتخر عليه) وها هي تسقط رذاذها عليهم في دمشق وعمان
والرياض.
وهم لا يعرفون شيئا عن ثقافة التنوع وأسلوبهم
الوحيد في معالجة مثل هذه المشاكل والحوار مع الآخر هو أسلوب القمع
والإلغاء ولا شيء سوى القمع والإلغاء.
أما عن الديمقراطية السياسية التي تمكن هؤلاء (القادة)
من استخلاص وجوه الآراء والتدقيق في الأداء فهي أيضا ضرب من الوهم
والخيال كونهم وأبواقهم من الكتاب والمحللين يعتبرون المخالفين لهم في
الرأي إما من الخونة أومن المارينز وأنت إذا أفلت من التكفير العقائدي
فلن تفلت من حمى التفسيق السياسي والاتهام بالعمالة والتملق لكل ما هو
أمريكي إمبريالي حتى ولو لم تكن قد زرت هذه الولايات المتحدة ولوفي
المنام.
فإلى أين نحن ذاهبون؟؟ |