التعليم يمهد للثقافة لكنه لا يصنع ثقافة
إنسانية عند الفرد بسبب تداخل الكثير من الأسانيد المعنوية والمنطلقات
الضميرية المتحكمة بموقف كل إنسان من الحياة وما تحويه من فصول لذا فإن
أول الخطوط الحمراء الممكن أن تفي بإيجابية التعامل مع الوسط الاجتماعي
هي تلك الخطوط التي يضعها المرء نصب عينيه كي لا يقع في شرك الزلل.
لقد أمست الحياة كثيرة التشعب ومتداخلة بحيث
يمكن القول أن الفصل بين جانب وآخر يكاد يكون مستحيلاً بكثير من
الأحيان ومما يمكن الإشارة إليه بهذا الصدد أن المعارك بين طبقات
المثقفين الحقيقيين هي معارك مثيرة للشجون إذ لا تتعدى دائرة الكلام
والكلام المضاد عند الاختلاف والاختلاف الحاد في الطرح الفكري فلون
الثقافة هو هكذا أو هكذا ينبغي أن يكون.
ولماذا يصادف أن يخرج المثقف عن خطه السلمي
الإيجابي ويركب موجة المجازفة بإطلاق خلاصات الكلام على عواهنه يكون قد
فقد موقعه على الأقل لدى نقاد الثقافة وربما أصبح في انطباع مجتمعه
المثقف لا صديقاً للثقافة لأنه تجاوز على أسسها المبدئية التي لا تتطلب
إبداء أي تطرف أو موقف منفعل أتجاه ما يجود به أي نشاط ثقافي.
ولأن التنوع والاختلاف في المذاهب الثقافية
مازال آخذ في الانتشار السلمي والأسوياء الطبقات المثقفة مازال لهم
الأثر الطيب في توضيح الأمور الثقافية والأعراب عن وجهات نظرهم بأساليب
واقعية لا تنكر على الآخر حقه في التعبير فإن امتلاك اي من المثقفين
للنفس الحضاري يجعله في صدارة المواقع المحترمة بين أقرانه من رواد
الثقافة.
رب قائل يعتقد أن المثقف بالمعنى الحضاري –
الإنساني الجاد لم يعد موجوداً بالوقت الراهن بسبب الضغوط الثقافية
اللامحدودة والمتوالية التي تراقب قلم المثقف ولسان المثقف وما تحاوله
جهات تتهيب من المثقف الحقيقي الذي يرفض التساوم على الحقيقة الثقافية
وأين تذهب مجاريها وخصوصاً ذلك المثقف الذي استوعب تماماً الدروس
الحياتية الراقية، التي تؤسس عادة لخلق الأديب الحقيقي أو الفنان
الحقيقي وما يمكن أن يتركاه هذان من أثر وتأثير على عموم الحركة
الثقافية في المجتمع الذي ينتميان إليه.
ما معنى أن يكون الإنسان مثقفاً؟ طبيعي مما لا
ريب فيه أن حمل لقب (مثقف) ليس مقصوراً أن يكون المرء عاملاً في نشر
الثقافة المدون كالصحفي مثلاً أو الذي يقدم نتاجه في تعميم اللوحات
كالرسام فالمثقف قد يكون أحد القراء لكنه مستوعب لرسالة الثقافة الحقة
أكثر بكثير مما يقدمه صحفي أو كاتب في نتاجاته المنشورة وينطبق هذا على
المرحلة الراهنة أكثر من غيرها بعد أن أصاب (مرض العمى الثقافي) العديد
من المؤسسات الثقافية المعتمدة على أشباه المثقفين والدخلاء على
الأوساط الثقافية بيد أن الثقافة كـ(مشروع للحوار) لم يصلوا بعد إلى
مستواه وهناك حالة من (الصدمة) يواجهها المثقفون الحقيقيون حين تشاء
الصدف ويراجعوا أحد المؤسسات الثقافية التي تتبنى نشر وترويج النتاجات
الثقافية إذ يصادف أن يكون رئيس القسم ثقافي فيها (شبه أمي) من الناحية
الثقافية والأتعس من ذلك أن صلاحية التحكم في إقرار مادة ثقافية صالحة
أم غير صالحة يحدد ذلك شبه أمي!
إن الدروس المستقاة من الواقع الثقافي العربي
الراهن رغم بهرجة العديد من الثقافات المعروضة (قراءة وسماعاً ورؤية)
حيث غلب عليها طابع (العدد الهائل) وليس (النوع المتواضع) قد سبب إحداث
بكائية غير معلنة تلمح باجتياح هزيمة ثقافية قادمة بارتداء الثوب
الثقافي وتسليط الضوء على هذا الجانب المعتم بقدر ما يعني أنه نوع من (الحرب
الدافئة) الممكن أن تكون بديلاً عن أي ثقافة جادة بعد أن حوصر النتاج
الفكري النير بسيوف أميي الثقافة بحسب ما تبينه ذاكرة الثقافة العربية
التي تطرح أوساطها السؤال الحيوي التالي: أين كانت آمالنا في الثقافة
وأين وصلت؟
إن المبهورين الجدد بكثرة النتاجات الثقافية لا
بنوعها هم أناس من حيث لا يدروا قد أعمى بصائرهم تدني درجة استيعابهم
لتخيل ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة الحقة ويبدو أن الكرب في حياة
إنسان القرن 21 قد جعله يسلم أمره الثقافي لـ(الموديل الثقافي السائد)
المفتقر لامتلاك سمات الشخصية الثقافية السوية.
إن الانتماء الثقافي للحضارة والإنسانية هو
انتماء داعم لحركة الحياة إيجابياً وفيه إضافة لإنعاش الذاكرة الموغلة
في معرفة أسرار تطلعات النفس البشرية العفوية وما تريده من دور يبني
الشخصية العادية ويحولها إلى شخصية ثقافية.
أن على الأوساط الثقافية العربية أن تختار حلولاً
لمشاكلها لا أن تتركها على الغارب فلقد غدت اليوم الثقافة قضية تخص كل
المجتمع العربي إن لم يكن المجتمع العالمي معني بها.
لقد تطور خط التعليم من ناحية كسب المهارات
التخصيصية المهنية لكن خط تطور الثقافة الحقة مازال بطيئاً بالنسبة
لذات السباق. إن الإشارات واللمحات التي تظهرها الوقائع الثقافية تحتاج
إلى عملية مراجعة شاملة تستطيع تشخيص حالة الخلل في الحياة الثقافية
ومن ثم تقديم العلاج المناسب لها. |