قد تكون الصور التي بثتها القناة الاميركية سي
بي أس القريبة من فريق الرئيس الاميركي جورج بوش الابن, نهاية ابريل-
نيسان, لجنود اميركيين يعذبون عراقيين, والصور التي بثتها صحيفة الديلي
ميرور البريطانية المعارضة للحرب, في الاول من ايار – مايو, لجندي
بريطاني يعذب عراقيا, قد تكون هذه المناظر المرعبة, عصية على الفهم
وصعبة الاستساغة للكثير من العراقيين وغير العراقيين, بلحاظ الحرية
التي بشرت بها واشنطن ولندن العراقيين, وتحت يافطة "تحرير العراق" دخلت
بدباباتها ساحة الفردوس في التاسع من ابريل – نيسان وامام عدسات
الصحافيين المحتشدين في الفنادق الراقية المطلة على الساحة, لتعلن سقوط
نظام صدام حسين.
ولكن الصور هذه, تعيد الكثير من العراقيين
بذاكرتهم الى ما قبل سقوط بغداد, الى السنوات العجاف, فقد اعادتني قسرا
الى نهاية العام 1979 عندما جرّنا الملازم جواد جرا من اعدادية القدس
في مدينتنا المنكوبة التي كتب عليها ان تكون منكوبة منذ ان استبيحت
فيها دماء الطهر بن الطهر الامام الحسين عليه السلام, واستباحها في
عصرنا حسين كامل, واستيبحت في العاشر من محرم الحرام العام الجاري
2004.
في معتقل مديرية أمن المدينة التقينا بثلة من
المؤمنين, كان حديثهم معنا قبل ان نسحب الى الطابق العلوي من المديرية
حيث غرف التعذيب, عن اسماء بارزة من ضباط الامن في المديرية, واسلوب كل
واحد منهم في انتزاع الاعتراف من ضحيته, فكل واحد من الذين التفوا
حولنا كان يشرح تجربته وهو تحت مبضع التعذيب, طلب منا بعض المعتقلين ان
نتضرع الى الله لان يكون ملفنا من مسؤولية ضابط الامن سرحان الحديثي او
(الهيتي), ولا يكون من نصيب الضابط رفعت التكريتي, ولما كنا حديثي عهد
بهذه الطامورة التي نحن فيها, استغربنا حديث اصحاب المعتقل, فهل يكون
سرحان رحيما مع ضحاياه, مع ان الحديث هو عن تعذيب, ولا تختلف الوظيفة
من ضابط الى آخر, ولا بلد عن آخر, فيكف في بلد كالعراق!, جاءنا الجواب
من شاب كان ينتابه الصرع بين الفينة والاخرى, نعم يا اخوان بعض التعذيب
أهون, فان رفعت لا يعذب ضحاياه الا وهم عراة, يعذبهم نفسيا قبل ان
يمارس معهم التعذيب الالي (نسبة الى اليد وآلات التعذيب) التي لا تميز
بين جسد بشعار او جسم بغير لباس, وكان هذا الشاب من ضحاياه.
كان حديث الرفاق مروعا, ولكن ما الحيلة؟ دعونا
الله ان يكون سرحان من نصيبنا, وكان لنا ذلك, نحن الثلاثة الذين
انتزعونا من رحلات الدراسة عنوة واتهمونا بتشكيل خلية تنظيمية مسؤولة
عن تحبير الجدران بالشعارات, والصفوف بالمنشورات, وبعد انتهاء الجولة
الاولى من اشواط التعذيب, جاؤوا بنا نخط باقدامنا الارض, فالقوا بنا في
الزنزانة, فاحاط بنا الاصحاب بعد ان أمنوا خلو الموقف من رجال الامن,
فأول ما سألونا عن الضابط المسؤول عن ملفنا, فقلنا لهم انه سرحان,
فتنفسوا الصعداء رحمة لنا, وربما عزاء لهم من شر رفعت واضرابه.
عندما تعود بي الذاكرة الى تلك الأسابيع العجاف,
ينتابني شعور غريب بين الضحك والبكاء, فبعض المواقف يبعث على البكاء,
وبعضها على الضحك, ضحك يشبه البكاء, ضحك غير مبرر, ربما لان السجين
يبحث عن متنفس ولو بضحكة قاهرة مقهورة على أصحاب السجن أو منهم عليه,
كيف يكون سرحان رحيما ولا يكون رفعت كذلك, سوى ان الاول يحترم ضحاياه,
والثاني ساد يعتدي على حرماتهم ولو بعصا, على ان الاول لا يمل من
استخدام عصا كهربائية يتفنن في وضعها في الاماكن الحساسة, تحيل اجساد
الضحايا الى شجرة في ريح عاصف, او دجاجة نزع عنها رأسها, ربما كتعويض
عن رأفته بضحايا يخلي بينهم وبين لباسهم الخارجي وشعارهم الداخلي.
لقد ارجعت بي صور السبي بي أس والديلي ميرور,
الى الوراء, الى تلك الشيبة التي جيء بها الى المعتقل بعد ان وجدوا في
جيب سترته قصاصات صحف عربية خاصة بالثورة الاسلامية في ايران, كانت
الشيبة غير عراقية, فالرجل هو من سلطنة عمان جاء لزيارة العتبات
المقدسة, ولكن حظه العاثر, او ربما سوء تقديره, وطيبته, اوقعه بيد رجال
صدام الذين اتهموه بالترويج للثورة الاسلامية الايرانية عبر قصاصات
يتيمة لصحف عربية جاء بها من الشام.
عندما اخذوه الى غرفة التعذيب, اصبحنا كحال
رفاقنا ننتظر عودة الشيخ الينا, لنرى ما اصابه من وهن جسدي ونفسي, وبعد
فترة جاؤوا به تعلوه الكدمات الحمر والزرق والسود من شدة التعذيب كأنها
ألوان قوس قزح, اقتربنا منه نخفف عنه آلامه, وهو لا يحدثنا بما آل به
الامر, ثم عاد كل منا الى مكانه بعد ان استقر روع الشيخ, وبعد برهة علا
صوته بما يشبه الهذيان: (اقول لهم لا يجوز, حرام, لعن الله الناظر
والمنظور, الناظر والمنظور في النار, ولكنهم يضحكون! هل هؤلاء بشر, اين
اسلامهم؟).
كانت الكلمات كافية لنعرف ما حلّ بالرجل, وبمن
اشرف على تعذيبه!
اقول ان صور قناة السي بي أس وصحيفة الديلي
ميرور, اعادت بي الذاكرة الى العراق الذي ظن الكثير انه ولد من جديد في
التاسع من نيسان – ابريل بوصفة غربية لا يخر منها الماء...اعادتنا الى
صورة تلك الشيبة, والى صور الشبيبة من أصحاب المعتقل من امثال الخطيب
الحسيني السيد احمد النواب الذي كان يعاد من الغرفة العلوية فاقد الوعي
يسحبه مأموران شداد غلاظ, والحسيني عبود ابو الجام الذي اعتقل بجريرة
خدمة عزاء الامام الحسين, والسيد منذر الشامي المتهم بلقاء الشهيد
السيد محمد باقر الصدر مع مجموعة من اهالي كربلاء المقدسة, وياس بن ذرب
المتهم بتوزيع منشورات في اعدادية القدس, والخطيب الحسيني الشيخ كاظم
الحائري المتهم بعضوية تنظيم محظور, والشهيد فاضل سعيد عوينات المتهم
بالانتظام في خلية مسلحة, وغيرهم من شباب العراق الذين غيبتهم
المعتقلات والسجون.
كنا نتمنى والامل يحدونا بعدُ, ان نطوي ماضي
العراق كشحا, ولا نقرأ من العراق صفحاته المغمسة بدماء الابرياء, عراق
لا يتجدد قديمه, عراق الحرية والتعددية لا عراق الاستبداد والشمولية.
تنويه:
صور تعذيب السجناء ليست جديدة, وبعضها يعود الى
بداية الاحتلال.
المسؤولة الاميركية عن السجن وتعذيب السجناء
كانت قد ابعدت من العراق في السنة الماضية
منظمة العفو الدولية كانت قد نبهت الحكومة
البريطانية الى هذه الانتهاكات قبل اشهر.
تزامن اظهار صور التعذيب, واسماء قتلى القوات
الاميركية, مع تعذر القوات الاميركية في السيطرة على الفلوجة.
[email protected]
الرأي الآخر للدراسات/لندن |