ما ينطبق على الشاعر عادة لا ينطبق تماماً على
الأديب الناثر ذلك لأن نتاج الشاعر هو (القصيدة) التي تمتاز بتكثيف
تعبيرها بأقل المفردات الغوية البليغة التي من نتائجها تشجيع المتلقين
للشعر عفوية حفظه لجمال تركيبته الضافية عليه شيء من المناغمة اللفظية
أو ما يسمى بـ(موسيقى الشعر) في حين أن الناثر الذي يسطر كلامه بـ(مقال)
لا يمتاز بتلك الدرجة من التكثيف في فقرات تعبيراته من حيث التنظيم
اللفظي وهذا ما يجعل المتلقون للمقال غير مندفعين لحظ جمل وعبارات من
المقال إلا ما ندر ومن هذه النقطة تأتي خطورة انتشار القصيدة السياسية
بين الناس بسبب حملها لقابلية التداول الشفاهي أكثر من التداول
التدويني للمقال.
لا غرابة أن تتحول مسارات وجدان الشعراء هذه
الأيام وبدرجة ملفتة للنظر من الاهتمام بالعدل بكل شيء الى العزف على
أوتار الباطل الذي طال النتاج الشعري الراهن وبنسب الغلبة فيها الى
الشعر السياسي السلبي ويبدو إلى أن مبادئ مثل (نصرة الحق) و(الغزل
العذري) و(سكون الليل) قد أطبق عليها الزمان في نفسية شعراء هذه
المرحلة بعد أ، قرروا بمحظ إرادتهم أن يختزلوا كل أغراض الشعر ليصبوها
في غرض السياسة السلبية فأصبح (الآخر الإيجابي) في نظرهم هو (آخر سلبي)
بحكم كون ما يمليه عليهم الممول المالي للدورية العاملين بها هو الذي
ينفذ من هنا فقد نزل الشعر المعاصر في بعض قصائد مديحه وهجائه أيضاً
الى مستوى الحضيض لأنه طال سياسيين مخلصين لشعوبهم وأوطانهم ورفع
سياسيين وضعيين لغاية في نفس يعقوب) مما يمكن اعتبار ذلك نوعاً من
العنصرية لـ(كسب المال) باي طريقة غير مشروعة وما يساعد على فهم هذه
الظاهرة بطريقة أجدى أن السابين شعراً لأخيار شعوبهم هم ذاتهم المداحون
لـ(حكامهم الظالمين).
وهكذا فبسبب تذبذب الرمز السياسي في نفوس
الشعراء الاتباع المتنقلون بين منابر قول الباطل واللاراكدون إلا صورياً
على أرضيات الحق في أحيان يقف المهتمون بالشعر العربي ومتابعة نتاجات
ناظميه وهم حائرين أمام أسماء كبيرة كملحمات الشعر ولكنها سقطت من
تلقاء نفس شاعرها في مستنقع مدح قادة السياسات السلبية لقاء حفنة من
الدولارات أو الحصول على منصب وظيفي أو كسبهم لامتياز زائل فباعوا شرف
الكلمة ووضعوا أثرها وتأثيرها لصالح واقع الشر مما أخرج أكثر من شاعر
محترم عن طبيعة وجدانه الأول فإذا ما نظرنا الى تاريخ الهجاء في الشعر
على مر الأزمنة لاتضح أن أغلب الذين هجموا كانوا حكاماً أو من هم في
مصافهم في حين أن المديح كان غرض الشعر دوماً لصالح قلة من الناس الذين
كانت مجتمعاتهم تعاملهم بتقدير عال لما عرف عنهم من سوية أو فرادة
إبداع بمجال معين.
وتكاد ظاهرة تذبذب الرمز السياسي لصالح أو ضد
الحكام على مختلف العصور تتكرر وكأنها التاريخ يكرر نفسه معهم وهكذا
يتبين أن كل حاكم قد تم الثناء على شخصه أو حكمه ليس بالضرورة أن يكون
ذلك دليل استحقاقه لذاك الثناء وبالمقابل أيضاً فليس كل من ذم حاكم بما
ليس فيه دليل سوءه إذ أن ذلك يحدد من قبل الحقيقة التاريخية وحماتها
المنصفين من المؤرخين والأدباء ومنهم الشعراء أيضاً ومن عاصر نصاعة
الحقائق الواقعة ودون إضافة أي رتوش لتجميل قبيح أو تقبيح جميل.
إن الإرث الشعري في العالم العربي غني في
استشهاداته فيما يخص التعامل الذي كان مع الحكام العادلين والحكام
الظالمين لذلك فقد خشي العديد من الحكام الشعراء في أحايين ليست قليلة
من زاوية رغبتهم أن يكونوا في صورة براقة أمام مجتمعاتهم فالبقدر الذي
كان يهم كل حاكم عادل أن تتكلم الناس عن مآثره الشخصية المنصفة لهم من
باب الاعتداد النفسي كان الحاكم الآخر الظالم يحاول ستر ممارساته
المنافية للضمير أمام مجتمعه قدر المستطاع لذلك فقد كان الالتجاء الى
أحد الشعراء المطبلين له ولحكمه فيه شيء من محاولة رد الاعتبار الوهمي
لشخصه.. فقد فات الحكام الظالمين وفرقهم العسكرية وأزلامهم المرتزقة أن
الزعم الوارد لتجميل صورة الظالمين عبر قصيدة شعرية هي في النتيجة لا
تتعدى بصيروتها أكثر من مديح في شاعر مرتزق كان ومازال يسمى بـ(شاعر
البلاط).
وحالة الانحطاط في الشعر ليست مقرونة بالنتاج
الشعري إذ أن الأشكالية معممة في المجالات الأدبية والفنية الأخرى
كـ(المقالة) أو (النشيد).. وإلى آخره وبمعنى من المعاني لما تقدم فإن
البراعة التي يبديها الشاعر من تأليف أشعاره ينبغي في حالتي الإيجاب
والسلب أن تكون ذات مصداقية فبذاك فقط سيمكن للشاعر المجيد أن يتخطى
ازدراء الناس بشخصه وشعره لأنه في تلك الحال يكون قد تقرب من الرمز
الحقيقي في وصفه بما يستحقه لا ما يطلبه صاحب أي رمز لنفسه فيجعل
الأسود أبيضاً والأبيض أسوداً، إن إشاحة الوجه عن الحقيقة هي خيانة
للضمير قبل ترزيق الريشة والقلم. |