البارحة وبينما كنا ننتظر العشاء فوجئنا
بتظاهرة حاشدة شارك فيها أطفالنا وأطفال أقربائنا الذين كانوا
ينتظرون العشاء معنا.
التظاهرة انطلقت ودون سابق إنذار من الغرفة
المجاورة، رفع المتظاهرون خلالها شعارات طائفية لم نعتد عليها من قبل،
ولكن المفارقة التي خففت الصدمة أنهم انقسموا بين مندد بالشيعة ومندد
بالسنة، فهذا يصيح الموت للشيعة والآخر يردد الموت للسنة، صدقوني
ذهلنا جميعاً لهذه التظاهرة، فسارعت أم العيال لقمعها بالصياح
والاستنكار والتلويح بالعصا الغليظة على طريقة الأنظمة المستبدة في
عالمنا العربي، ولولا خشيتها من ردود فعل الحاضرين فربما رشتهم
بمياه الرز الساخنة على طريقة السجين على كيمياوي، الذي لو كان (شجاعاً)
ولم يعر الموقف الدولي آنذاك أي اعتبار!! ولكن المتظاهرين الصغار
واصلوا هتافاتهم وهم يشعرون بقيمة العمل الذي يؤدونه بقياس ردة الفعل
الغاضبة لامهم..
حاول جنابي أن يتصنع دوراً أكثر تحضراً
حيث اكتفيت بهز رأسي على الطريقة الغربية وصرت أنقل بصري بين هذا
وذاك متقمصاً هدوء القوات البريطانية في بعض الأحيان وهي تحملق
بتظاهرات العاطلين عن العمل في البصرة، رغم أن كائناً بدوياً يحاول
القفز من مكمنه في داخلي ليسحق هؤلاء
الذين أعلنوا التمرد والعصيان في حضرة ضيوفي الذين سيتهمونني حتماً
بقلة المعرفة وسوء القدرة على التربية، طالما كان ولدي (مهدي) هو
الذي حرك هذه التظاهرة الحاشدة.. وربما يشاطرني المستبدون والظلمة
نظرتي هذه حين يسكتون شعوبهم فلا تكاد تسمع لها نفساً، فالأب الجيد
في عالمنا الشرقي هو الذي يجلس أبناؤه في حضرته كالمذنبين، لا يجرؤن
على رفع أبصارهم، وكذلك الرئيس الجيد في عالمنا هو الذي يصنع شعباً
مؤدباً، أو بعبارة أخرى هو الذي يعرف كيف يؤدب شعبه.. من هذا المنطلق
كان صدام يعطينا درساً أسبوعياً بالنظافة واستعمال الشوكة وكيفية
التحدث في حضرة الكبار!!
ألمهم أن التظاهرة اتخذت طابعاً
انفعالياً وزاد فيها الصياح وتعالى الهرج والمرج.. حاولت تدارك
الموقف فأمسكت بزند (مهدي) مسكة ظاهرها الرقة وباطنها الحنق والغلظة
..ادعيت أمام ضيوفي أنني أبتسم ولكنني كنت أكشِّر فقط .. فهم المسكين
ما تعنيه هذه الإشارة فطالما جربها في أوقات سابقة كانت عصيبة
بالنسبة له، فالأب الشرقي ديكتاتور ضمن دائرته!
قلت له ماذا تعني هذه (الفوضى) التي حركتها؟
وللمرة الأولى أدرك عمق الأثر الذي تتركه
وسائل الإعلام على الصغار، فقبل هذا الوقت كنت أظن صغارنا لا يفقهون
شيئاً من برامج الحوار السياسي التي يصل فيها (المتحاورون) إلى
الشتائم والسباب، أو على الأقل ظننتهم لا يعبئون بما يسمعون منها وكل
اهتمامهم منصب على أفلام الصغار والرسوم المتحركة.
ولكن جواب المسكين (مهدي) الذي ألقيت القبض
عليه متلبساً بالتظاهر دق أمامي ناقوس الخطر، فهذا الصبي أعرب لي عن
تأثره بما يسمعه من قنوات العربية والجزيرة والمنار بخصوص العراق،
صدقوني ليست هذه خدعة لممارسة الكتابة بقدر ما هو نقل لحالة رايتها
في بيتي، فعزمت على نقلها عبر الصحافة لأن فيها درساً بليغاً لي ولكل
الذين يتعاملون مع الإعلام..
هؤلاء الصغار تأثروا ــ وعادة ما يتأثر الصغار
ــ بكثرة ترديد مصطلحي (سنة وشيعة) في القنوات الفضائية، حتى أضحى
مغروساً في أذهانهم الصغيرة وكأنه مشكلة، ولا أدري كيف قرأوا الطرح
المبطن لبعض القنوات الإعلامية وبعض المثقفين والسياسيين فاستبقوا
الحدث منوهين بعبارات( الموت لـلشيعة... الموت لـلسنة) التي رددوها؟..
كأنهم يقولون أنكم يا إعلاميون تريدون الحرب الطائفية في العراق من
خلال نبرة الخطاب الإعلامي الذي تسوقونه..
فمتى يرحمنا الإعلام العربي ومتى يفهم
الإعلاميون أن حرباً طائفية في العراق لن تخدم أحداً وستكون ناراً
تشتعل في العراق، لا سمح الله، وتمتد إلى دول أخرى،فارحمونا بطرح
معتدل ووحدوي وهادئ بعيداً عن الإثارات يرحمكم الله..
|