خلق الله تعالى البشر شعوباً وقبائل حيث بين ذلك
الباري عز وجل في كتابه الكريم { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات/13 وهذا معناه أن
البشر إن لم يكن لهم شعب أو قبيلة ينتمون إليها يتعرضون لأخطار يمكن أن
تهددهم أكثر ممن لهم ذلك ، والعراق بشكل خاص تركيبته الاجتماعية قائمة
على العشيرة والقبيلة التي يجتمع تحت كنفها السني والشيعي والكردي
والعربي ، وهذا مالا يمكن لإنسان عاقل أن ينكره، وهذه التركيبة كان لها
أثر كبير وعظيم في لم شمل العراقيين وعدم وقوعهم فريسة للفتن الطائفية
أو العرقية أو غيرها بحكم الترابط الوثيق الذي تشكله القبائل في العراق
وبحكم الأصول التي تقوم عليها تلك القبائل. فكل قبيلة إن لم تكن ترتبط
مع القبيلة الأخرى بالدم مباشرة ( أعمام ) ترتبط بها بالتزاوج فيما
بينها ( بالنسبة) فأصبحت البنية الاجتماعية للعراق من شماله إلى جنوبه
تقوم على ذلك ، وهذا معروف للجميع فضلاً عن أن تكوين القبائل في العراق
تكوين سليم لايقوم على القبلية المقيتة التي نراها في بعض البلدان
الأخرى التي تقوم على العداء وعدم التقارب بأي شكل من الأشكال، وإنما
تقوم على أساس كبير من الوعي الحضاري الذي يحمله أبناء القبائل
العراقية وأكثر شيوخها الذين كان لهم دور تاريخي كبير في مقارعة
الاستعمار والاضطلاع بهام حفظ البلاد من الفوضى في كثير من الأحيان،
مما يعطي للتكوين القبلي في العراق بعداً آخر، غير البعد القبلي الذي
يعرفه الكثير ممن يكتبون عن القبيلة أو الذين يريدون أن يجعلوا القبيلة
مطية للوصول إلى مطامع سياسية وشخصية، حيث يصورون أن القبيلة تعبر عن
التخلف وعن الفكر الريفي المتحجر الذي يرونه غير صالح لكي يكون له دور
في الحياة السياسية بكل أشكالها بل يرون أن على القبيلة أن تكون تابعة
لمن لم يعرفوا معناها وتكون مطية للسياسيين، ويرون أنها بعيدة كل البعد
عن السياسة، نعم إذا كانت القبيلة بالمعنى الذي يتصورونه فهي كذلك،
ولكن القبيلة في العراق ليست كذلك أيها السادة، القبيلة في العراق
قادرة على أن ترفع وتضع السياسيين إن اتحدت كما اتحدت بوجه الاستعمار
من قبل، ويجب أن لا ننسى هذا ، كما لا يجب أن ننسى أن الدور الذي
اضطلعت به العشائر العراقية في كل الحكومات دور كبير فكلما وقعت
الحكومات في مأزق لجأت إلى القبائل لتحتمي بها، فلماذا عندما نكون
أقوياء سياسياً نهمش القبيلة ودورها، وعندما تضيق بنا الدنيا نعود
إليها، كما فعل البعثيون عندما جاءوا للحكم هووسوا ( كل عشر شيوخ
بكونية ) وعندما ضاقت بهم الدنيا في الحروب لجئوا إلى العشائر يطلبون
المدد والحماية وهذا حدث أمامي..
قال أحد البعثيين الكبار في منطقتي حيث كنت أعمل
محامياً وفي غرفة المحامين حيث يعمل هو كذلك محامياً، لأحد الشيوخ
المعروفين مازحاً ( نحن الآن بحاجة لكم وغدا سنهوس عليكم كما هوسنا
عليكم سابقاً ) فما كان من الشيخ إلا أن أجابه، مهما فعلتم فأنتم بحاجة
لنا ولا تستطيعون ذلك فأنتم الذين ضاقت بكم وليس نحن لأننا راسخين
وجذورنا عميقة، وهذا هو الصحيح، فإذا أردنا أن نصور كما يصور بعض
السياسين أو ممن تسيسوا أن القبيلة هي السبب في تخلف العراق فهذا خطأ،
وإنما السبب الحقيقي في ذلك التخلف هو السياسة التي لاتعرف خلقاً
ولامبدأً سوى الخداع واللعب من أجل السلطة والحكم، وبالتالي الوصول
بالبلاد والعباد إلى ماوصلت إليه، وإذا تصورنا أن القبيلة هي الضد مع
السياسة فهذا خطأ كبير أيضاً، وهذا ماسيثبته الزمن وأن السياسيين الذين
يرون أن القبيلة هي التخلف سوف نراهم غداً عندما تكون الانتخابات سوف
يضعون رحالهم عند القبائل أو العشائر يستجدون منهم الأصوات والمؤازرة.
يجب علينا جميعاً أن نوظف هذه اللحمة الاجنماعية في خدمة البلد وفي
السياسة التي تقود البلد لأن كل السياسيين في العراق هم أبناء القبائل،
وهي التي لها القوة في انتخاب من تريد لكونها امتداد اجتماعي قوي ومؤثر
في واقع الحياة في العراق.
ويمكن أن نوظف كل ما نراه إيجابياً في بناء
العراق، ولا نزرع الفتن في المجتمع العراقي ونجعل أي نوع من العداء بين
القبائل والسياسة أو الدولة والحكومة التي تقود العراق، بل يجب أن نجعل
القبيلة عنصراً فعالاً في دعم البناء السياسي في العراق، وسنداً قوياً
للسياسيين الذين ستفرزهم القبائل نفسها، ليكونوا قادة مخلصين لأهلهم
ووطنهم يتنافسون على خدمة الشعب ، فيفوز من يخدم أكثر لامن له مال أكثر
أو قبيلة أكبر، لأن الشعب العراقي أصبح يدرك تطور الحياة والديمقراطية
والحرية أكثر من كل وقت مضى لأنه افتقدها زمناً طويلاً، فسيعمل وبكل
قوته على أن تكون الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة التي دفع من
أجلها دماءً طاهرة زكية على مدى قرون من الزمن وليس عقود، هي التي
تحكمه وتسوسه لا أن يحكمه هذا الحزب أو ذاك بل سيحكمه المخلص الذي
يختاره الشعب من بين أبنائه المخلصين، وأن قبائل العراق سوف تكون أعظم
سند للديمقراطية والحرية في العراق، من خلال أبنائها المثقفين حيث
ينتمي كل مثقف وكل سياسي في العراق إلى قبيلة يجب أن يكون معلماً فيها
ومثقفاً لمن يحتاج للثقافة من أبنائها لكي يساهم الجميع في بناء العراق،
والمتتبع لتاريخ العراق يرى ذلك حيث أن الأحزاب السياسية التي حكمت
العراق على مر تاريخه معروفة بتاريخها الدموي وبخداعها للشعب العراقي
بالشعارات البراقة التي لم تكن إلا حبراً على ورق ووثيقة مرور إلى
السلطة والاستبداد بعدها وظلم الشعب، وما ذلك على الناظر ببعيد، حيث
لازالت آثار ذلك ماثلة إلى يومنا هذا فمن يرفع شعار ليصل إلى السلطة لا
حاجة لنا به، نريد من يعمل فعلاً على أرض الواقع، وعلى الأحزاب جميعاً
أن تلتف حول بعضها إذا كانوا مخلصين لشعبهم وبلدهم، وأن لا يحاول كل
حزب أن يقصي الآخر بطريقة تسيء إلى الشعب أو فئة منه ، وأن يبتعدوا عن
الأنانيات التي لم يجن العراق منها إلا الخراب، وعلى القبائل جميعاً أن
يتوحدوا ويتركوا كل تراكمات الماضي ويبدءوا صفحة جديدة ، وأن يقدموا
منهجهم ورؤيتهم بطريقة حضارية ويثبتوا أنهم قادرين على القيام بدور
فاعل في بناء العراق وخدمة أهله المظلومين، وأن يساهموا في رفع معاناة
الفقراء الذين عاشوا سنين طويلة يعانون من الحرمان والبؤس، إلى مستوى
يرفع عنهم الظلم ويشعرهم بالإنصاف، لا بزيادة ملايين الأغنياء من قوتهم
ورزقهم ، وأن يشعروا كل إنسان في العراق أنه لافرق بينه وبين أخيه مهما
كان دينه ومذهبه وقوميته وأصله.
Ehsan-dr@maktoob.com |