البحث عن جذور الثقافة الإنسانية الممكن الوقوف
على حقيقتها من بين تعدد الثقافات تبدأ من نقطة الانطباع عن ثقافة
معينة بحد ذاتها وهذا الانطباع ممكن أن يثبت في النفس وممكن أن يتغير
على ضوء ما تتمتع به أي ثقافة من نجاح في النظرة للحياة أو فشلها في
التجربة.
وممكن أن يلصق الحوار حول ماهية الثقافة المحددة
بما يتعلق بالفلسفة التي تستند إليها وبهذا الصدد يلعب الوعي والهاجس
حول المستقبل دوره في اعتناق هذه الثقافة أو ترك تلك. فبرغم أن المشهد
الحالي بالنسبة لمختلف الثقافات يبدو أن هناك فيه حالة من التقليص بين
الثقافات وبروز نقاط التقاء كثيرة بين المتحاورين بسبب الانفتاح بين
المجتمعات التي أضحت تعايش نوعاً من العلاقات في التعبير عن الرأي بما
لم تعهده سابقاً إذ تكاد أن تكون المماحكات الثقافية اليومية والتعبير
عن الرأي والرأي المضاد سمة العديد من الإعلاميات التي تبث نتاجاتها
البرامجية بالصوت والصورة على الرغم من أن الجمهور المتلقي يتمحص جيداً
من خلال درجة وعيه بما يستهدفه أي طرح في حالتي الإيجاب أو السلب.
والأداء الثقافي بطبيعة الحال ممكن أن يستغل
استغلالاً حسناً أو سيئاً وخصوصاً في المجال الثقافي إلا أن الاعتداء
بالآزاء الحقيقية المنصفة رغم ما تتعرض له من محاولات التقليل من الشأن
إلا أنها تبقى محاولات لا تؤثر في نهاية المطاف على المسار الثقافي
المتجه نحو قبلة الإنسانية. إن واقع الثقافة المعاصرة فيه الكثير من
نقاط الضوء والدعوات السمحة للاستبصار بما يحدث في الساحة الثقافية هو
اليوم من أهم واجبات الطبقة المثقفة بكل بلد ففي غمار الانتهال من
النتاجات الثقافية العامة يفضل أن تكون دوماً هناك فسحة للإنصات إلى
الرأي عند الآخرين ولكن على أن يصحب ذلك التمسك بـ(رباطة الجأش وعدم
الانفعال) من الذين يغايرون الوقائع أو يدعون صراحة أو تبطيناً إلى
إنهاء الصراع الثقافي السلمي إلى مرسى تغليب حالة مسخ الإنسان وسلب
إنسانية من يقينه وعمله.
إن رحم الثقافة الإنسانية مليء بالدرر القيمية
والتوجهات الرفيعة المستوى ومن مستلزماتها أنها تسمو بالروح على ما
دونها من مفاهيم مادية بحتة. لقد بقيت الثقافة الإنسانية كـ(أسلوب حياة)
تبشر بالخير والاعتداد للنفس الإنسانية بعيداً عن أي مزايدة ولهذا فقد
دفع المثقفون الحقيقيون في العالم ثمن تثقيفهم لمجتمعاتهم حتى أصبحت
الثقافة الإنسانية مرادفاً لجلب راحة البال والسرور والشعور الداخلي
للإنسان بإنسانيته.
ففي الثقافة الإنسانية استقرار الذهن وتنمية
القدرات التضامنية الحقة بين الإنسان وأخيه الإنسان. وعلى اعتبار أن
الثقافة ذات الطابع الإنساني هي ثقافة أخلاقية في أساسياتها ومنطلقاتها
فهي في حالة احتدام غير منظور على الغالب مع إنصاف الثقافات أو
الثقافات الجزئية ذات الإطار المقتصر على مجال مصرفي محدد.
فقد ثبت تجربة البشرية أن المبادئ الثقافية
المادية قد فشلت من إيصال الإنسان إلى مستواً راقٍ كما كانت تدعي فقد
فشلت المبادئ الرأسمالية أن تحتل العقل بعد أن اتخذت من المادة وسيلة
في (الحرب الدافئة) إذا جاز التعبير مع خصمها ذو المبادئ الاشتراكية
الذي كان هو الآخر قد رفع (سلاح المادة) كنوع من التحدي الثقافي كما
كان يدعي والنتيجة التي لا مجال لنكرانها أن عمليات التثقيف بالمادة
وجعلها أساس في سباق الأفضلية قد أدى إلى حالة من النفور رغم أن هناك
حالة استقطاب ما تزال على الثقافتين الرأسمالية والاشتراكية.
لقد ثبتت التجربة القائمة على الأرض أن المال
الزائد أو الفقر الزائد يؤدي إلى سلب إنسانية الإنسان فإذا كان النظام
الرأسمالي يدعي أنه قد هيأ الحاجات المادية للإنسان الغربي مثلاً
والنظام الاشتراكي قد قابله بادعاء مماثل فإن هذين التيارين لم يكونا
دقيقين في ادعاءهما فقد أدى حال الثقافة وحالة التثقيف أن سلبت عفة
النساء في كلا النظامين وتعرضت كيانات الأسر إلى الضياع وبالتالي فقد
أصبحت العلائق الروحية على المستويين الاجتماعي في الدولة الرأسمالية
والدولة الاشتراكية كـ(خبر من أخبار كان) حتى غدت الحياة من الناحية
الروحية لا طعم فيها عند كليهما وبديهي فهناك مبادئ مكملة لتغليب حالة
انصياع عند الفرد (رجلاً أو امرأة) قد شجعت كـ(عامل مساعد) على شيوع
العلاقات الجسدية اللامشروعة وانتزاع الاعتراف بها (تصريحاً أو ضمناً)
لدى هاتين الثقافتين الرأسمالية والاشتراكية معاً.
إن استراتيجية الحياة الثقافية لا يمكن أن تقام
إيجابياً إلا ببناء ثقافة الإنسان على الروح قبل المادة وتلك هي
المسالة. |