اكره أن أتحدث بهذا الأسلوب، إلا أن وصفك
للإرهابيين، الذين ارتكبوا جرائم القتل والترويع، في النجف الاشرف
واربيل وبغداد، بأنهم أبطال يستحقون التمجيد والثناء، اضطرني للكتابة
بهذه الطريقة، فلقد كشفت بكلامك هذا، المستور من طريقة تفكيرك الطائفية
المقيتة، وتجاوزت حدود لياقة الحوار، وأخلاقيات الخلاف، وزورت الحقائق.
وقبل ذلك، أود أن أذكرك بما يلي:
أولا: قد تتخذ الطائفية أشكالا عدة، فتكون دينية
مرة، أو مذهبية، أو قومية، أو حتى سياسية، فكل من يتبنى شعار (شرار
قومي، أفضل من خيار قوم آخرين) فهو طائفي، لا فرق في ذلك، بين أن يكون
شيعيا أو سنيا، عربيا أو كرديا، تركمانيا أو آشوريا، مسلما أو مسيحيا،
إسلاميا أو يساريا أو ليبراليا.
ثانيا: والطائفي كذلك، هو من يتربص بالسلطة،
لينزو عليها للاستفراد بها، والحيلولة دون مشاركة الآخرين، ليكون هو
الحاكم الأوحد، الآمر الناهي، ويقمع الآخرين، أكثرية كان ام أقلية ؟،
عن طريق صندوق الاقتراع وصل إلى السلطة، أم بواسطة الانقلاب العسكري ؟،
لان الديمقراطية لا تعني حكم الأكثرية فحسب، وإنما تعني، بالدرجة
الأولى، تمتع الأقلية بكامل حقوقها السياسية على وجه التحديد، بل
وتمكينها من أن تصبح، في يوم من الأيام، هي الأكثرية، في إطار مبدأ
تكافؤ الفرص.
ثالثا: كذلك، فان الطائفي، هو الذي ظل يتفرج على
جرائم نظام الطاغية الذليل مدة (35) عاما، من دون أن ينبس ببنت شفة،
وكأن الأمر لا يعنيه، أو أن ضحاياه من الروم أو بلاد الديلم، ليستيقظ
فجأة من سباته ألمصلحي، متحدثا عن محاولات التهميش المزعومة التي يتعرض
لها، وكأن النظام البائد، لم يقمع الأكثرية، أو يعرضهم للموت والدمار
والقتل والمطاردة والدفن أحياء في المقابر الجماعية ؟، وكأنه لم يسكت
على جرائمه، فقط، لأنه ينتمي إلى مذهب الحاكم (بالهوية على الأقل)، وان
ضحاياه من غير مذهبه، أو قوميته.
رابعا: والطائفي ـ إضافة إلى كل ذلك ـ هو الذي
يقصي الآخر عن السلطة، بل عن حقه في الحياة، كلما سنحت له الفرصة بذلك،
بسبب انتمائه المذهبي فحسب، وهذا ما لم يفعله الشيعة في العراق بأحد،
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ولحد الآن.
حتى أسوأ رجال الشيعة (بالهوية) كالسيد صالح جبر،
لم يمارس الإقصاء الطائفي للآخر، إبان توليه لعدة مرات رئاسة الوزارة
خلال فترة الحكم الملكي، أيام زمان.
خامسا: كذلك، فان الطائفي هو الذي يقدم مصالحه
الأنانية الضيقة، على أية مصالح وطنية عليا أخرى، حتى ولو تعرض البلد
لمخاطر الاحتلال والدمار، وربما الحرب الأهلية، على قاعدة (علي وعلى
أعدائي)، أما الذي يعظ على الجراح، ويتناسى كل شئ من اجل المصلحة
الوطنية العليا، كما فعل شيعة العراق إبان الغزو البريطاني للعراق، في
العام (1914)، فاصطفوا إلى جانب الدولة العثمانية لمحاربة الغزاة
الإنجليز، متناسين، في لحظة موقف وطني تاريخي فريدة من نوعها، كل الظلم
الذي تعرضوا له على يد الأتراك، فهذا لا يمكن أن ننعته بالطائفية أبدا.
بعد هذه المقدمة التوضيحية، اسمح لي أن أشخص لك
الآن هوية الطائفي، حتى لا نختلف كثيرا على الأسماء والمسميات
والمصطلحات التي تكبل المرء بقيود لا طائل من ورائها، فالعبرة
بالممارسة وليس بالمصطلح، بالعمل وليس بالتنظير.
تعرف، أن شيعة العراق ظلوا يتجنبون التعامل مع
مصطلح (حكم الأكثرية) حتى العام (1992)، عندما شعروا ـ وبالأدلة
والبراهين القاطعة ـ أنهم يتعرضون بالفعل، إلى مؤامرة طائفية، يشارك في
حياكتها ضدهم، بالإضافة إلى النظام البائد، عدد من زعماء الأنظمة
العربية، وخاصة المحيطة بالعراق، يساعدهم في ذلك، مجموعة من قادة
الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، الذين تكالبوا عليهم لإنقاذ
النظام من السقوط، أولئك الذين كانت مهمتهم الأساسية، إضفاء الشرعية (الدينية)
على هذه الحرب الطائفية.
شخصيا، كنت أتصور، حتى ذلك الحين، أن الذي يحيك
المؤامرة، وينفخ في نار الطائفية، هم جهلاء القوم وعوامهم، أو بأسوأ
التقادير، المتطرفين منهم، ممن لا يريدون للعراق، أن يتحرر من ربقة
الاستبداد والديكتاتورية والنظام الشمولي، ولكنني صدمت، عندما اكتشفت،
ثم تيقنت، بأن أشهر زعماء القوم، هم الذين ينظرون لهذه الحرب القذرة،
ويدعمونها بكل الوسائل، سرا وإعلانا، عندما شاءت الصدف أن اجتمع مع
مجموعة السبعة ـ وهم زعماء أشهر الأحزاب والحركات الإسلامية في العالم
العربي، ومن أشهر منظري الفكر الحركي السني في العالم ـ التي زارت
بغداد وطهران وعدد آخر من العواصم العربية ـ، إبان غزو الطاغية للجارة
الشقيقة الكويت في العام (1990)، والذين راحوا ينظرون لرؤيتهم الطائفية،
للازمة آنئذ، معتبرين أن الدفاع عن صدام حسين دفاع عن (السنة والجماعة)،
لان سقوطه يعني، بزعمهم، المساهمة في فسح المجال للتمدد الشيعي، ليس في
المنطقة فحسب، وإنما في العالم الإسلامي برمته، والذي يعد الأخطر على
الإسلام والمسلمين، من كل المخاطر الأخرى.
وتيقنت أكثر، عندما اجتمعت مع احد المعتدلين
منهم، لمدة ست ساعات متواصلة، والذي حاول إقناعي بأهمية عقد صفقة
مصالحة شاملة بين المعارضة العراقية والنظام، ولما يئس من إمكانية
إقناعي، وتأكد له بأن السيف قد سبق العذل في العلاقة بين الضحية
والجلاد، قال لي وبالحرف الواحد، وقد كان صريحا معي، ـ إن (جماعتنا)
يتعاملون مع القضية العراقية من منطلق طائفي بحت، لأنهم يعتبرون أن
صدام حسين هو حامل لواء (السنة والجماعة)، ولذلك فإنهم غير مستعدين
للتفريط به أبدا، فضلا عن أنهم يعتبرون بأن سقوطه سيساعد على التمدد
الشيعي في العالم الإسلامي.
أتذكر، حينها أجبته بالقول ؛ اعرف ذلك جيدا، إلا
أن الجديد في الأمر، هو أن يأتي التصريح على لسانك، والمثل يقول (وشهد
شاهد من أهلها).
وكلنا يتذكر الضغوط الكبيرة التي مارستها عدد من
الأنظمة العربية الطائفية على الرئيس بوش الأب، للحيلولة دون الذهاب
بحربه ضد نظام بغداد إلى أبعد من طرده من الكويت، خشية تنامي الدور
الشيعي في العراق إذا ما سقط النظام، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في
تغيير واشنطن لاستراتيجيتها، مما تسبب بمساعدة النظام على قمع
الانتفاضة الشعبية، وبتلك الطريقة البشعة والقاسية التي راح ضحيتها
مئات الآلاف من الأبرياء الذين دفنوا في المقابر الجماعية، بالإضافة
إلى استباحة المدن ونهبها وتدميرها.
ولما تيقن شيعة العراق، آنذاك، من وجود مثل هذه
الحرب الطائفية التي تستهدفهم بالصميم، بدأوا يتعاملون مع مصطلح (حكم
الأغلبية) بكل خجل وتواضع،على اعتباره الطريق نحو بناء النظام
الديمقراطي، كما هو شأن كل دول العالم المتمدن، ومن اجل إعطاء كل ذي حق
حقه، من دون ظلم لأحد أو غبن لمجموعة، ومن اجل تطبيق نظرية الشراكة في
الحكم، حتى لا تستأثر طائفة على حساب حقوق أخرى، وهل في ذلك أي ضير؟.
وعندما توصلوا، مع بقية الفرقاء إلى صيغة (التوافق)
كأسلوب مؤقت، يساعد المعارضة على عقد الاتفاقات السياسية اللازمة،
لتنظيم نفسها، من اجل تجاوز المرحلة، وذلك من خلال مؤتمرات المعارضة
العراقية المتعددة التي عقدت خلال العقد الأخير الذي سبق سقوط النظام،
والتي منحتهم أغلبية الحصص والمقاعد في مختلف التشكيلات القيادية
والتنفيذية، قلتم أنها نوع من أنواع الطائفية، وعندما يعلو صوت بعض
المتطرفين منهم في الحديث عن نظام شيعي بالمطلق (ولو بالهوية)، كما كان
النظام السياسي (السني بالهوية) القائم في العراق طوال الثمانين عاما
الماضية، نعتموهم بالطائفية كذلك.
وسقط النظام ن وعادت المعارضة المهاجرة إلى داخل
العراق، فحاول الشيعة التخفيف من مخاوف الآخرين ن فتنازلوا عن حصتهم
المعمول بها في إطار مبدأ التوافق وهي (65 في المئة) ن وقبلوا بنسبة
(52 بالمئة فقط)، لحين إجراء الإحصاء السكاني العام، وإجراء الانتخابات،
للوقوف على حقيقة التركيبة السكانية الحقيقية، قلتم كذلك، أنها طائفية
سياسية.
ولما أراد عقلاءهم وضع النقاط على الحروف،
ليتأكد الجميع، والعالم معهم ن ما إذا كانوا هم الأغلبية بالفعل أم
غيرهم ؟، فدعوا إلى الانتخابات المبكرة للاحتكام إلى صندوق الاقتراع،
من اجل قطع الشك باليقين، اتهمتموهم بالطائفية كذلك، فلا ادري كيف يجب
أن يتحدث شيعة العراق؟، إن كنتم ترفضون التوافق، ولا تقبلون
بالانتخابات ؟.
أكثر من هذا، عندما بدأتم اليوم بتنفيذ خطة
هجومية جديدة مرسومة ومتقنة بدقة، ولكنها ـوللأسف الشديد ـ فاشلة وغير
منطقية، تدعون فيها ن بأن الشيعة في العراق لا يعادلون من مجموع السكان
سوى (30 بالمئة فقط)، وان كل الكلام عن كونهم الأكثرية لا أساس له من
الصحة أبدا، وأنه مجرد ادعاء فارغ لا يصمد أمام حقيقة الإحصاءات التي
سقت دليلا عليها، إحصاء النظام البائد في العام (1997).
طيب، ترى، لماذا علي أن أصدق ادعاءك وإحصاءاتك ؟
ولا تقبل مني ادعاءاتي ؟ بل لست أنا من يدعي بأن شيعة العراق هم
الأغلبية العددية، وإنما كل العالم يقول ذلك بما فيهم الأمم المتحدة،
فلماذا يكون الذي حلال عليك، حرام علي ؟.
وإذا كان شيعة العراق هم الأقلية في البلد،
فلماذا ترفض الانتخابات التي ستفرز الأغلبية وتنتج نظاما سياسيا على
الطريقة التي تريدها وتتمناها ؟.
هذه مسألة...
أما المسألة الأخرى، فهي، انه لا احد ينكر عدالة
النظام البائد في توزيع الظلم والعدوان على كل شرائح المجتمع العراقي
ومن دون تمييز، ولكن الإنصاف يحتم علينا أن نشير إلى حقيقة مهمة جدا
وهي، أن الشيعة هم من أكثر من تعرض لظلم النظام إلى جانب الكرد،
بالتمييز الطائفي والعرقي، والدليل على ذلك، فأن العراقيين لم يعثروا
حتى الآن، على مقبرة جماعية واحدة، لغير الشيعة.
كما أن النظام البائد لم يهدم سوى مساجد الشيعة
وحسينياتهم ومقابرهم في مختلف مناطق العراق، ولم يكتب على الدبابات،
التي اجتاحت المدن العراقية بعد قمعه لانتفاضة آذار (شعبان) عام 1991،
سوى العبارة (لا شيعة بعد اليوم)، ولم يمنع غيرهم من ممارسة شعائرهم
الدينية والمذهبية، ولم يقم الحفلات الماجنة إلا في ذكرى شيعية أليمة،
هي ذكرى عاشوراء، وفي مدينة كربلاء المقدسة، التي شهدت تلك الملحمة
البطولية الرائعة، قبل حوالي (1400) عاما، كما انه لم يقتل سوى علماءهم
ومراجعهم وفقهاءهم ومفكريهم، حتى كاد أن يستأصلهم عن بكرة أبيهم، ولم
يحطم سوى حوزاتهم الدينية، حتى كاد أن يقضي عليها وهي التي عمرها أكثر
من ألف عام، ولم يهجر أو يطرد أو يجبر غيرهم على ترك العراق والهجرة
إلى الخارج.
تقول، إن عدد ما هدم من مؤسسات غيرهم، أو قتل من
علماء غيرهم، كبير كذلك بالقياس إلى نسبتهم السكانية.
ولكن، ألم تقل أن الشيعة هم أقلية في العراق ؟
فكيف يكون ضحاياهم أكثرية، وان غيرهم (الأكثرية العددية) أقلية في
ضحاياهم ؟.
لا ادري بأية طريقة تقيس الأمور ؟ بالكيلومتر أم
بالميل ؟ بالكيلوغرام أم بالباون ؟، لنحدد وحدة القياس أولا، ثم نشرع
بالعد والحساب، أم تريدها على طريقة، (تريد أرنب، خذ أرنب، تريد غزال،
خذ أرنب) ؟.
ثم، أراك تسعى للي عنق الحقيقة، فعندما تتحدث عن
الأكثرية العددية، تجمع بحساباتك كل القوميات، لتأتي النتيجة كما تريد،
وهذا هو الصحيح، ولكنك عندما تريد أن تحسب نسبة أعضاء مجلس الحكم
الانتقالي، فلا تجمع إلا قومية واحدة، فتقول، بأن النسبة (12 بالمئة
فقط)، ما لكم كيف تحكمون ؟ وأين العدالة في طريقة تفكيرك وحساباتك ؟.
كنت أتمنى أن أظل على قناعتي، بأن الذي يتحدث
بنفس طائفي، هم الجهلة والأميون، أما أن يتحدث بهذا النفس، أعضاء في
مجلس الحكم الانتقالي، فيرد أحدهم مثلا، وفي اجتماع رسمي للمجلس، على
دعوة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني،
لإجراء الانتخابات المبكرة، بقوله، (أنه إيراني لا يحق له التدخل في
شؤون العراق)، فهذا يعني، أن جهلاء القوم بدأوا يؤثرون على عقلائهم
وقادتهم وزعمائهم، والذين بدأوا يرددون ما يقوله الجهلة والأميون، وهذا
يعني أنهم انجروا إلى مستنقع الطائفية، وإن كانوا أحيانا ن يسعون إلى
إبعاد هذه التهمة عنهم، كما أن ذلك يعني أنهم سقطوا في حبائل المجانين،
شاءوا أم أبوا.
قد ترد علي بالقول، إن نمو الشعور الطائفي عندنا،
هو ردة فعل على نفس طائفي موجود بالفعل في الساحة.
وأقول:
على العكس من ذلك، فان النفس الطائفي الشيعي
الذي يتفوه به أحيانا جهلة القوم او متطرفيهم، إنما هو رد فعل على
الظلم والكبت والقمع والقهر الطائفي الذي تعرضوا له طوال أكثر من ثلاثة
عقود من الزمن، من دون أن يسمعوا حتى كلمة تعاطف معهم وإدانة للنظام
القمعي من الآخرين، الذين اصطفوا مع النظام الطائفي بشكل او بآخر، سواء
كانوا قادة رأي وجماعات في داخل العراق، أو أنظمة عربية، أو وسائل
إعلام عربية، كان آخرها التقرير الذي رفعه وفد جامعة الدول العربية
لتقصي الحقائق، الذي زار العراق مؤخرا، فيما لا زال المثقفون
والإعلاميون الطائفيون، يتباكون على (القائد الضرورة) حتى بعد إخراجه
من الحفرة، خائفا مرعوبا ذليلا، بمشيئة الله تعالى، ليذل به الجبابرة،
وينتقم منه لضحاياه.
ولو كنتم قد تعرضتم إلى معشار ما تعرض له
الآخرون، لأقمتم الدنيا ولم تقعدوها، ولنصبتم (هولوكوستا) جديدا،
ولسقتم ذلك دليلا على أحقيتكم في الاستفراد بالسلطة بلا منازع.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، أتحداك أن تذكر لي
جملة طائفية واحدة، تفوه بها عقلاء الشيعة، بل إن كل ما يدعون إليه، هو
الاحتكام إلى رأي الشعب، من خلال صندوق الاقتراع، حتى:
أولا: نعرف من هم الأكثرية، ومن هم الأقلية، من
دون أن يظلم أحد.
ثانيا: يشترك الناس بالعملية السياسية برمتها،
ومنذ اليوم الأول، ليأتي البناء الديمقراطي الجديد، سليما معافا من
الأمراض المزمنة.
ثالثا: نلغي طريقة التوافق التي تكرس الطائفية
والعرقية بشكل مرعب، والتي قبل بها العراقيون أيام النضال السلبي،
كأفضل الميسور، أما الانتخابات، فلا تكرس سوى الروح الوطنية، لان
التوافق يحول دون انتخاب المواطن، للآخر، بغض النظر عن انتمائه الديني
او المذهبي او العرقي، بسبب محكوميته بالنسب والمحاصصة، أما الانتخابات،
فتمنحه فرصة انتخاب الآخر مهما كان انتماؤه، ولذلك رفض قادة الشيعة
وزعماءهم مشروع الهيئة الرئاسية الثلاثية، لأنها تقنن الطائفية وتحرم
الآخرين، دستوريا، من تسنم المنصب الأول في البلاد.
وبعد كل هذا، تتهمهم بالطائفية ؟.
إن الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، هي الطريقة
الأكثر عدالة في تمثيل الناس، ولذلك لا اعتقد أن عاقلا يرفضها، إلا إذا
كان يخشى النتائج سلفا، او أن يكون طائفيا.
أغرب ما سمعته، قولك، بأن الاميركيين هم الذين
يساعدون ويساهمون في صناعة الدور الشيعي في العراق الجديد، والذي سيأتي
ـ بزعمك ـ على حساب دور الآخر الذي بدأ يهمش دوره في الحياة العامة.
أعتقد أن في كلامك هذا، إجحاف وظلم كبيرين،
وكأنك تنسى بان الاميركيين هم الذين مكنوا نظام الطاغية الذليل من قمع
الانتفاضة في العام (1991)، وإنهم شاركوه في حفر المقابر الجماعية التي
ترقد فيها عظام أكثر من (600) ألف ضحية، دفنت احياءا.
إن الدور الشيعي لم يصنعه أحد أبدا، إنما صنعه
الشيعة بأنفسهم، بتضحياتهم السخية من جانب، وبعقلانيتهم من جانب آخر.
لقد ساهم في صنع دورهم، المراجع والعلماء
والفقهاء الذين قتلهم الطاغية الذليل، وفيهم العبقري، كالصدر الأول،
والثائر في زمن الجبن والخوف والاستسلام، كالصدر الثاني، والموسوعة
العلمية النادرة في التاريخ ن كالشيرازي، والسياسي المحنك والمضحي،
كالحكيم، وغيرهم الآلاف.
كما ساهم في صناعته، ضحايا المقابر الجماعية،
وضحايا السجون والمعتقلات والشهداء، الذين صمدوا تحت أقسى أنواع
التعذيب النفسي والجسدي، من دون أن يقدموا أدنى تنازل للنظام البائد،
الذي ظلت كلمة (آه) حسرة في قلبه، من دون أن يسمعها من أحدهم.
صنعته الحرائر اللاتي إعتدى عليهن النظام البائد
في طوامير السجون، وعددهن أكثر من (50) ألفا حسب اقل التقديرات،
بالإضافة إلى الأطفال الذين قتلهم النظام أمام أعين ذويهم لانتزاع
الاعتراف.
وساهم في صناعته كذلك الملايين الذين هجرهم
النظام، أو الذين اضطرتهم الظروف السياسية والأمنية القاسية، للهجرة
إلى المنافي، ما فسح لهم المجال لأداء رسالتهم العراقية الوطنية.
كما أن آلاف الحسينيات والمساجد التي هدمها
النظام البائد، وعشرات المدن التي استباحها طوال ثلاثة عقود من الزمن،
وخاصة إبان الانتفاضة الشعبانية الباسلة عام (1991) ساهمت في صناعة هذا
الدور، ـ وكمثال على ذلك، وصف مراسل ألماني حالة مدينة كربلاء، التي
زارها بعيد قمع النظام للانتفاضة مباشرة، بأنها تشبه إلى حد بعيد،
مدينة خرجت للتو من زلزال ـ.
أضف إلى ذلك، فان الانتفاضة الباسلة التي تفجرت
ضد النظام، إبان حرب تحرير الكويت، والتي راح ضحيتها، بعد أن تمكن
النظام من قمعها، وبتلك الصورة القاسية والبشعة والمرعبة والدموية،
أكثر من مليون مواطن، بين رجل وامرأة، كبير وصغير، فيما كان الآخرون
يتفرجون عليها، إن لم يكونوا يدعمون النظام بجريمته، ساهمت بشكل كبير
في صناعة هذا الدور الريادي، وتوجتهم بأمانة وإنصاف،على رأس القوى
السياسية الأكثر تأثيرا في العراق الجديد، كقوة لا يمكن تجاوزها، بأي
شكل من الأشكال، بعد أن فضحت النظام وسياساته وأعوانه، من مختلف
الاتجاهات.
إن الدور الشيعي في الحياة السياسية العراقية
الجديدة، انتزع انتزاعا، وبكل جدارة وصبر وتأني وصمود، ولم يمنحه أحد
لأحد أبدا، بل على العكس، فلازالت المؤامرات تحاك للنيل من هذا الدور،
لدرجة أن بعضها يسعى لإجهاضه وإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، من خلال
نظرية (الأكثرية المؤهلة)، مثلا، بدلا من الأكثرية العددية، وكأننا لم
نشهد ما فعلته هذه الأكثرية المزعومة بالعراق والعراقيين، إنتهت بتسليم
البلاد والعباد إلى الاحتلال، بعد تدميره نهائيا وعلى مختلف الأصعدة،
ولا ادري كيف يمكن التأكد من أهلية أية أكثرية، إذا لم تأت إلى السلطة
عن طريق صندوق الاقتراع، وقبل أن نجربها لنعرف ما إذا كانت بالفعل
مؤهلة للتصدي للمسؤولية ؟ أم أنها تشبه إلى حد بعيد الطاغية الذليل
وعصابته، بالاستراتيجية العامة، إن لم تكن بالتفاصيل ؟.
عموما، فلقد رسمت هذا الدور الجديد، أنهار
الدماء والدموع الغزيرة التي غطت أرض العراق من أقصى شماله إلى أقصى
جنوبه.
ومع كل ذلك، فان شيعة العراق، لم ولن يخطر على
بالهم، أن يستفردوا بالسلطة أبدا، فلا هم يريدون ذلك، لأنهم يؤمنون
إيمانا جازما وعن قناعة تامة، بأن العراق الجديد يجب أن يبنى على أساس
الشراكة بين جميع أبنائه، من دون تمييز بين المواطنين، لا على أساس
العرق، ولا على أساس الدين أو الطائفة، وان العراق لكل العراقيين من
دون استثناء، ولا الظروف الواقعية تسمح لهم ـ أو لغيرهم ـ بالاستفراد
بالسلطة، فلقد ولى زمن التسلط بالقهر والإرهاب، وحل محله زمن التعاون
على الخير والتقوى، والتعايش والشراكة السياسية.
لقد أكد هذا المعنى، وبكل وضوح، الشهيد الصدر
الأول، عندما وجه نداء الأخوة إلى كل العراقيين ومن دون استثناء وذلك
في العام (1979)، كما أوضحه اليوم المرجع السيستاني، عندما قال في كلمة
له بضيوفه قبل عدة أيام ؛ بأن المهم عنده هو أن يأتي الزعيم في العراق
الجديد، عن طريق صندوق الاقتراع، وليس مهما عنده، بعد ذلك، هويته،
شيعيا كان أم سنيا، مسلما أم مسيحيا، عربيا كان أم كرديا أم تركمانيا
أم آشوريا.
فهل سمعت من غيرهم مثل هذه النوعية من الكلام ؟
أم سمعت أحدهم يقول، وهو يعود إلى العراق بعد قضائه حياة الرفاه يلحس
قصاع العربان في بلاد العربان مدة نيف وثلاثين عاما، (إنه يعود إلى
العراق، لإنقاذ السنة من الخطر الشيعي) ؟.
أو قول آخر، بأن الشيعة قدموا خدمة كبيرة
للاميركان، بتهدئة زعمائهم الشارع العراقي من الانفجار بوجه الاحتلال.
نعم، إنهم يوفرون تضحياتهم للمستقبل، إذا ما رفض
المحتل الوفاء بالتزاماته، ألا يكفيهم ما قدموا من التضحيات على مدى
(35) عاما ؟.
لا نريد أن تتكرر التجارب الفاشلة الماضية،
فيضيع الوطن بشعار الوطنية، فيضحي قوم ليتسلط آخرون، لتبدأ من جديد
طاحونة الموت، تطحنهم طحنا.
والأسوأ في كل القصة، موقفين غريبين:
الأول، جاء على لسان التقرير الذي رفعه وفد
الجامعة العربية الذي زار العراق مؤخرا لتقصي الحقائق بشأن جرائم نظام
صدام حسين، وبالذات المقابر الجماعية، فبدلا من أن ينقل للعالم تصوره
ورأيه بشأن المهمة التي ذهب من اجلها، إذا به يعود إلى مقر عمله، ليحذر
من مغبة الحرب الأهلية المتوقعة بين العراقيين، بدعوى أن الشيعة والكرد،
يهيمنون على اللعبة السياسية، مع تهميش متعمد للسنة ــ على حد زعمه ــ.
والجامعة العربية ـ بالمناسبة ـ لم تنبس ببنت
شفة طوال (35) عاما من حكم نظام الطاغية الذليل الاستبدادي الشمولي (فهل
يا ترى أرادت أن تنطق كفرا، بعد أن صمتت دهرا ؟).
الثاني، جاء على لسان مبعوث الأمين العام للأمم
المتحدة، السيد الأخضر الإبراهيمي إلى العراق، والذي راح إلى هناك،
لدراسة إمكانية إجراء الانتخابات المبكرة، وإذا به يعود ليحذر، هو
الآخر كذلك، من احتمالات اشتعال حرب طائفية وشيكة في العراق، وهو الذي
كان قد أسر لعدد من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي من الشيعة، بقوله (إن
إجراء الانتخابات المبكرة، عملية ممكنة من الناحية التقنية والفنية،
إلا أنها غير ممكنة من الناحية السياسية).
وإذا جمعنا كلامه هذا، وتحذيره من الحرب
الطائفية، إلى جانب كلام تقرير وفد الجامعة العربية، لتبين لنا، أن
الأمم المتحدة والجامعة العربية، وجهتا تحذيرا (مزدوجا) لشيعة العراق،
يخيرهم بين أمرين، فإما التنازل عن الإصرار على المطالبة بالانتخابات
المبكرة، أو مواجهة استحقاقات الحرب الأهلية.
وهل بعد كل هذا، كلاما أكثر طائفية ؟.
أشير هنا، إلى أن الإبراهيمي نفسه، قال في
تصريحات صحفية علنية، بأن الانتخابات المبكرة عملية ممكنة خلال (6 ـ 9)
أشهر القادمة، هذا يعني، لو أن مجلس الحكم الانتقالي كان قد بذل الجهد
اللازم لإجرائها، لحظة تشكيله قبل سبعة اشهر ـ وبالتعاون مع سلطة
التحالف، لأمكن إجرائها قبل حلول موعد نقل السلطة في نهاية حزيران
القادم، ما يؤكد أن كل التسويف الذي أبداه كل من عارض الانتخابات
المبكرة والحجج التي ساقوها المعارضون، لم تكن حقيقية أبدا، وان السبب
الوحيد، هو خوفهم المسبق من نتائجها، والذي انتزع عنهم الإرادة
السياسية المطلوبة، لتنفيذ مثل هذه الخطوة الاستراتيجية الديمقراطية
الهامة.
كما يعني ذلك، بأن من أصر عليها، كان على صواب
من الناحية القانونية والتقنية، بل وحتى الواقعية، كما يدل الأمر على
تمتعه بالحرص الوطني والصدق المشهود مع شعبه، وثقته الكبيرة بالعراقيين
وخياراتهم وإرادتهم ورأيهم.
ومع كل ذلك، تبين اليوم، لكل ذي عين بصيرة أو
ألقى السمع وهو شهيد، بأن موضوع الانتخابات حجة، استغلها المغرضون
للطعن بهوية من يتبناها، والتشكيك بنواياه ودوافعه، وأحيانا بارتباطاته،
ولإثارة الغبار بوجه البناء الديمقراطي الجديد.
كما يشير، من جانب آخر، إلى أن الانتخابات
المبكرة، هي أفضل الميسور بالفعل.
بعضهم يقول، بأن الذين يصرون على مطلب
الانتخابات المبكرة، هم مجموعات صغيرة ومحصورة في المجتمع العراقي،
وإنهم أقلية صاخبة، فلماذا لا تجري الانتخابات بأسرع فرصة ممكنة، لعزل
هذه المجموعات، وفضح نواياها، وإسكات صراخها ؟.
استغرب، كيف يعتبر البعض، أن التوافق هو البديل
عن الانتخابات المبكرة للقضاء على المحاصصة والطائفية ؟ وهل تكرست
الطائفية، ولا زالت تتكرس، إلا من خلال مبدأ التوافق ؟.
لقد رأينا كيف قسم مجلس الحكم الانتقالي وكلاء
الوزارات بأسوأ محاصصة، حضر فيها كل شئ إلا الحكمة التي تقول ؛ (الرجل
المناسب في المكان المناسب)، لدرجة أن بعض أعضائه ـ وفيهم زعماء لأحزاب
سياسية عريقةـ لم يجد من يملي به حصته، فعين إبنه الذي لم ير العراق في
كل حياته، بل أن بعضهم يجهل حتى التحدث باللغة العربية، ولكن، الحمد
لله، فقد باع السيد بريمر حرصا وطنيا اكبر حتى من العراقيين أنفسهم،
وكفى الله المؤمنين شر المحاصصة.
إنهم يريدون تكريس المحاصصة والطائفية بدعوتهم
إلى تبني مبدأ التوافق والاستمرار عليه، كما أنهم يريدون تعطيل عملية
إعادة البناء والتنمية والاستقرار بذلك، لان التوافق يعني سيطرة زمرة
على القرار السياسي، من خلال التمتع بحق النقض (الفيتو)، فهل سيصدر
قرارا واحدا، بالإجماع، من دون أن يعترض عليه طرف واحد قادر على عرقلة
القرارات بالفيتو الذي يتمتع به، ومن دون وجه حق ؟.
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM |