من بؤس أغلب الأيديولوجيات الوضعية أن جميعها
تدعي بأفضليتها على غيرها حتى أن بنود مبادئها التي تكتب بعناية الكلام
الداعِ للاقتناع بها تفتقر إلى التطبيق المترجم لها حين تحين الفرصة
لأولئك القائمين على تلك الايديولوجيات كأن يكون قد أصبحوا على رأس
سلطة سياسية في بلد ما.
ومما يلاحظ في معظم الأنظمة الداخلية للحركات
الفكرية السياسية أن هناك شبهاً في أكثر النصوص التي تدعوا إلى الحصانة
والعدل وما إلى ذلك من المصطلحات والمفردات التي تشكل المعاني الدالة
على تفكير كل تجمع معني في مخاطبة الناس، فمثلاً أن (الماركسية) ودولها
المتمثلة في الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية السائرة بركابه
كانت تجمعاتها السياسية قد أسقطت نفسها بنفسها أمام مجتمعاتها بعد أن
خلقت تلك التجمعات اصطفافاً متعالياً لم تطبق منه الشيء الكثير المطلوب
الذي كان الناس يأملون لمسه على الأرض وبذاك خلقت طبقة جديدة معزولة عن
المجتمع سايكولوجياً في بلدانها وهي طبقة السلطة الحاكمة وتوابعها
الذين كانت لهم امتيازات ممارسة السطوة والاستفادة المادية والمعنوية
أيضاً من النفوذ الرسمي الذي يتمتعون به.
وإذ كان العالم بتلك الفترة يمر بصراع الحرب
البادرة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية فقد كانت المادة هي القاسم
المشترك، بين الكتلتين فالكتلة الاشتراكية – الشرقية قد رفعت مبدأ
المادة أولاً وسمتها بـ(المادية التاريخية) وادعت بأن تحقيق مجتمع
المادة سيتيح لذاك المجتمع التمتع بالقضايا الروحية كناتج مؤكد لذاك
التوجه وبذلك يمكن الحكم أن التوجه الأساسي للحكم الاشتراكي عن الكتلة
الشرقية كان المادة وتحقيق المجتمع المادي وفقاً لشطر (المادية
التاريخية) في نظرية الماركسية.
أما المجتمع الغربي فأستطاع بكتلته الرأسمالية
أن يقدم (نموذجاً مادياً آخراً) ولكن بفلسفة مختلفة ففي دول الكتلة
الاشتراكية كانت القيادة السياسية هي التي تتحكم بالأمور عبر ممثلو
طبقة ما سموه بالطبقات الفقيرة أي العمال والفلاحين لكن تلك الطبقة
سرعان ما وجدت نفسها قد تحولت إلى طبقة متعالية على جذورها الاجتماعية
السابقة وعزلت نفسها أيضاً عن تطلعات ناسها في العيش بحرية حقيقية
وكرامة محفوظة وبذاك فقد سقطت في نظر المجتمعات الاشتراكية قبل أن يسقط
التاريخ تجربتها المدعاة في حين لوحظ أن الكتلة الغربية الرأسمالية
امتازت قيادتها باختيار من يمثلها لقيادة دولها من الطبقة البرجوازية
وذيولها من (ذوي الياقات البيض) والتي كانت في الأساس طبقة متعالية على
المجتمع إلا أن ظهور منافس لها في الشرق الاشتراكي قد حث المفكرون
الإتباع للنظام الرأسمالي أن يفكروا بخلق البديل الأيديولوجي المطبق
على الأفهم الغربية كي تكون المنافسة ناكدة بكتلة الشرقية فمثلاً أن
المفكرين البرجوازيين الغربيين حين عرفوا أن لسان حال حكومات الشرق
الاشتراكي يوعد بتحقيق منح بيت وسيارة وتأمين صحي وراتب محترم يكفل
العيش الكريم للعمال والفلاحين وخصوصاً المسحوقين منهم فقد استفاد
الغرب من هذه التوجهات الاشتراكية الحالمة وخففوا ذلك عبر شركات ومصانع
ومزارع عديدة إذ شيدت البيوت للعمال أولاً ثم منحتهم سيارات بأسعار
تشجيعية أو مجانية حسنت من أوضاعهم الثقافية عبر فتح النوادي والمكتبات
وغيرها من وسائل قتل وقت الفراغ كما منحهم رواتب معقولة وبذلك حيدت
تطلعهم الى النظرية الاشتراكية.
بيد أن رخص معظم أسعار السيارات المنتجة في
الغرب قياساً لمستوى إسعاد المعيشة في أي بلد غربي منذ الأربعينيات من
القرن العشرين الماضي وحتى الآن كي يكون بامكان الجميع اقتناء سيارة
لأي فرد، وبذاك فقد فاز المجتمع الغربي الرأسمالي بما كان يمنحه من تلك
الامتيازات التي كان قد طمح بها التطلع عند الكتلة الشرقية بصورة أسبق
لذلك فلا غرابة أن أصبح الأمل لدى طبقة العمال في الدول الاشتراكية
آنذاك أن يحصلوا على فرصة عمل بأي بلد رأسمالي غربي تعويضاً عن الحرمان
الذي كانوا يعيشون فيه وقد يجدوه في الغرب!
وبذا فإن البناء النفسي والاجتماعي لدى الكتلتين
الشرقية والغربية لم يكن على هداية إنسانية كاملة وعاقلة رغم أن
الاعتقاد بـ(المصير التاريخي) قد أدى بهزيمة كتلة مادية على كتلة مادية
أخرى إذ كانت المنافسة بينهما (مادية بحتة) وهكذا استفرد (الغرب
الرأسمالي المادي) في الساحة الآن والعالم اليوم منشغل تماماً كيف
يتعامل مع صعود هذه الكتلة إلى سطح السياسة الدولية في حين أن البحاثة
في علوم الإيديولوجيات منشغلون في توضيح أمور ما لكن الفرص غير متاحة
لكي يعيد الناس أيامهم السابقة ويستعدوا للاستماع إلى ما تقوله نظرية
وضعية جديدة ربما ستظهر لاحقاً.
وبعيداً عن الشعور بالخيبة أمام النمط الغربي
المسيطر الآن على أجراء عمليات التطور التاريخي (على كيفه) وفقاً
لمقاسات نظامه الرأسمالي المادي فإن ما في الميدان الغربي بهذا الصدد
ما يكفي للغرب الحديث إذا أراد استثمار توجهاته بصورة تحظى باحترام
البشرية أن يتنازل عن حقيقة تحكماته بسيادة البلدان الأخرى وتقيم
علاقات تكافؤ مع تلك البلدان وعلى كل الصعد. وإلا ليس هناك أي معنى
لـ(أستاذية) الغرب بالقرار على غيره من البلدان فمعالم النضال وإن كانت
خاملة بهذه المرحلة المعاصرة، عند المجتمعات الأخرى ولا ينبغي
الاستهانة بها (غربياً) مرة أخرى.
صحيح أن للغرب اليوم ثقل الأولوية في الساحة
السياسية العالمية لكن ذلك لا يجيز له استمرار التقول بأفضلية الحضارة
المادية على ما سواها قبل أن يدرك أن العالم لا يسير إلا بخطوة المادة
وخطوة الروح معاً. |