يرى البعض أن الوضع في العراق في ظل غياب سلطة
مركزية قوية أقرب الى الفوضى ، وربما نجمت هذه الرؤية عن اعتياد دول
الشرق سيما العراق على الأنظمة المستبدة، فحين ينزوي شرطة السيطرات في
دول العالم المدمن على الاستبداد ،على بعد خطوات من الرصيف ويكتفون
بإيماءة من رؤوسهم كعلامة على فتح الطريق أمام السيارات دون تفتيش ،
يهمس بعض الركاب مستخفاً بـ( هذه الفوضى).. لقد اعتاد كثير منا على
شرطي مفتول الذراع وبشاربين غليظين يقيس وجوه الركاب بنظراته الحادة
ويستعرض تجاعيد وجوههم عله يقرأ ما خلف الظاهر، ويكاد يبصق في وجه كل
من يمر من امامه..
إنه شرطي من نوع خاص لأنه يمثل أنظمة استثنائية
تريد من أجهزة الأمن أن تكون كلاب حراسة لها وليس عناصر تكفل امن
المواطن وتصون كرامته .. والواقع أن الذي حدث في العراق بعد سقوط
السلطة البائدة هو انهيار نوع من الحكم قائم على الاستبداد والقبضة
الحديدية التي تعد على الناس أنفاسهم وتحسب خطواتهم وتتقصى حلّهم
وترحالهم، ولاحت بشائر نوع آخر من الحكم يقوم على أسس تختلف عن تلك
التي قام عليها سابقه، فالنظام القادم لا يهتم بلون الإنسان أو قوميته
والمدينة التي وُلد فيها ، بل يهتم بالدرجة الأولى بضمان حقوقه وحرياته
وأمنه، وينمي فيه الشعور بالمسؤولية ويريد أن يبني في داخله (شرطياً)
ذاتياً يرافقه في خلوته ونومه ويقظته، وحين يخرج الإنسان عن دائرة
حقوقه فيمس حقوق الآخرين يكون عرضة للمساءلة، فالقانون لايحاسب على
النوايا بل على الأفعال ..
الذي يحدث في العراق اليوم هو مرحلة انتقالية
لابد منها كي ننتقل من مرحلة الرقيب السلطوي الى مرحلة الرقيب الذاتي
او الداخلي وهي مرحلة مهمة تضع المرء أمام حقيقة نفسه وما يحمله من قيم
وأخلاق وأهداف وطموحات.. فبان نبل وشهامة الكثيرين بينما بان ضعف نفوس
البعض ودناءة مقاصدهم..
ولكن على العموم سجل العراقيون حضوراً متميزاً
في هذه المرحلة حيث كان معظمهم على قدر عال من المسؤولية ، ولعل وسائل
الإعلام لا تسلط الضوء إلا على ما تبتغي تسليط الضوء عليه فتصنع من
حادث سلبي هنا أو هناك مادة إعلامية تصور العراق وكأنه يقبع في مستنقع
خطير، بينما الحقيقة عكس ذلك تماما، فحركة المرور والمارة في الشوارع
وحركة التسوق تسير بشكل طبيعي ، والناس يتعاملون فيما بينهم بطريقة
متحضرة تكشف المعدن الأصيل لإنسان ما بين النهرين، ولا يعدو بروز بعض
الحالات السلبية معبرا عن حالة احتقان سابقة تحتاج لبعض الوقت كي تنتهي
مع تطور الحركة الاقتصادية واتساع دائرة الخدمات العامة واختفاء
الأزمات التي يعاني منها الناس كانقطاع التيار الكهربائي...
لا أدعي أن الأمر برداً وسلاماً ولكن لست
متشائما كما البعض ، فما حدث في العراق لو قدر له الحدوث في مكان آخر
لجرى ما لم يجر في العراق...
العراقيون يحتاجون الى أن تتسع مدنهم لتواكب
الانفتاح الاقتصادي فتستوعب حركة المسافرين والسيارات التي دخلتهم
بالمئات، كما يحتاجون لتعبيد طرقاتهم والاهتمام بالأماكن العامة
والمتنزهات ، ويحتاجون لاستقرار التيار الكهربائي وتحسين شبكة المياه
وتوفير فرص عمل للعاطلين... هذه كلها أزمات بالفعل ولكنها غير مستعصية
على الحل، فالأزمة الحقيقية هي في أن يكون الإنسان أزمة بذاته، وهذه
لاتوجد في العراق إلا على نطاق محدود جداً لذا فنحن لسنا في أزمة على
الأطلاق بل نحن بخير.. |