لن يشهد العراق إستقرارا تاما، ما لم يؤخذ بنظر
الاعتبار رأي المرجعية الدينية، خاصة في القضايا الحساسة والمصيرية،
كقضية المجلس التأسيسي، ومشروع نقل السلطة، وكتابة الدستور الجديد،
وغير ذلك، لما يمثل، هذا الرأي، من حضور شعبي واسع، وثقل سياسي كبير،
لا أبالغ إذا قلت، إنه يفوق تمثيل وتأثير كل القوى الأخرى مجتمعة.
هذه الحقيقة، يفترض أن لا يغفل عنها عاقل،
فالتجربة التاريخية، والواقع الفعلي، شاهدان حيان عليها، خاصة منذ
تأسيس الدولة العراقية الحديثة، مطلع القرن الماضي، وما سبقها من
الاحتلال البريطاني للعراق، ولحد الآن.
وإذا كان النظام الشمولي البائد، قد حاول غض
الطرف عن هذه الحقيقة وتجاوزها، فسعى إلى تمرير سياساته التدميرية
بعيدا عن تأثير المرجعية الدينية، ففشل، فإن من يحاول تكرار تجربته تلك،
سيكتب له الفشل مسبقا، لأنه سيصطدم بصخرة صماء، لا تساوم على الوطن،
وهي الجهة الوحيدة، التي قد تتنازل عن كل شئ، إلا المصالح العليا للدين
والوطن والشعب، الدين بما يمثل، من تاريخ وحضارة وتربية وثقافة وقيم
ومناقبيات، والوطن بما يمثل، من وحدة وسيادة وثروات طبيعية وأمن،
والشعب بما يمثل، من إرادة وصوت ورأي ومصالح ومنافع حياتية وكرامة وعرض
وناموس وحقوق.
على من يسعى، من الساسة العراقيين، لتجاوز رأي
المرجعية في القضايا الاستراتيجية، فيرفض الإصغاء إلى ما تقول، عليه أن
يعود قليلا إلى الوراء، ليقرأ تجربة النظام البائد، الذي سخر، تارة، كل
وسائل القمع الدموية لإسكات صوت المرجعية، ففشل، كما حاول استغلالها
كجسر يعبر عليه لتنفيذ سياساته المهلكة، تارة أخرى،ففشل كذلك.
كما أن على الولايات المتحدة الاميركية
وحليفاتها الغربيات، أن تستعير ملف المرجعية الدينية، من أرشيف وزارة
المستعمرات البريطانية ـ سابقا ـ لتقرأ ما بين أسطره جيدا، قبل أن تتخذ
قرارها النهائي، وتختار طريقة التعامل مع هذا الملف المعقد والشائك،
حتى لا تكرر خطأ البريطانيين، الذي ارتكبوه في العشرينيات من القرن
الماضي، ليوفروا على أنفسهم الزمن والتضحيات والسمعة، التي لا يحسدون
عليها الآن، خاصة في عالمنا الإسلامي والعربي، بسبب ارتكابها لأكبر حجم
من الأخطاء بحق شعوبها، خاصة في مجال صناعة الديكتاتوريات ودعمها، وسحق
حقوق الإنسان.
لقد قرأنا في كتب العلوم والفلسفة وحياة الحيوان،
أن القرود لا تتعلم من تجاربها، ولذلك يحاول كل جيل جديد منها، أن يمر
بنفس تجارب الجيل الذي سبقه، بحلوها ومرها، ولكننا لم نقرأ أن بعض
فصائل ـ الإنسان ـ تشبه القرود في هذا الصدد، إلى حد بعيد، فلا تقرأ
تاريخها، وإذا قرأته فللتسلية فقط، من دون أن تتعلم منه، فتحاول أن
تجرب الحياة بكل تفاصيلها المملة، من دون أن تحمل نفسها عناء الإصغاء
إلى الآباء والأجداد، أو إلى كتب التاريخ، إذا كانت غضة طرية، حديثة
عهد بالحياة وتجاربها.
لا أحد يريد أن تتكرر تجربة ثورة العشرين
الإسلامية التحررية، ولا أحد يريد أن يعود بعقارب الزمن إلى الوراء،
ولذلك أتمنى على كل الأطراف، بمن فيهم الاحتلال والسادة أعضاء مجلس
الحكم الانتقالي، أن يدرسوا التاريخ جيدا، ليستحضروا مفرداته واحدة
فواحدة، ليستفيدوا من نجاحاته، مع الأخذ بنظر الاعتبار الواقع الجديد،
ويتجنبوا أخطائه،فلا يكررونها بأي شكل من الأشكال، خاصة وأن بعض تلك
الأخطاء، كانت قاتلة، حملت العراقيين، في بعض المراحل، ما لا يطيقون من
التضحيات الجسام، والثمن الباهض، الذي دفعوه من أجل تصحيحها، وتعديل
المعوج من السياسات الهوجاء التي انتهجها ـ أبو ناجي، بريطانيا العظمى
آنذاك، وعدد من الساسة العراقيين الذين كانوا إما يقدمون مصالحه على
مصالح بلادهم وشعبهم، أو كانوا يقدمون مصالحهم الطائفية والحزبية،
وأحيانا العشائرية، على المصالح العليا للعراق وشعبه.
قد أعذر الولايات المتحدة الاميركية، إذا لم
تفهم مواقف المرجعية الدينية، أو لم تقدر بشكل صحيح، حجمها الحقيقي
وقدرتها الواقعية وتأثيرها المباشر في الشارع العراقي، لأنها حديثة عهد
في التعامل مع هذا الملف الحساس، ولكنني لا أعذر مطلقا، الساسة
العراقيين، إذا فشلوا في التعامل معه، إذ يفترض بهم أنهم درسوا تاريخ
بلادهم الحديث واستوعبوا دروسه، هذا إذا لم يسمعوا عنه من آبائهم
وأجدادهم الذين صنعوا هذا التاريخ، أو كانوا عليه من الشاهدين، أما إذا
كان بعض هؤلاء من أبناء الجيل الجديد، الذي لم تتح له الفرصة بعد
لدراسة تاريخ بلادهم،أو كانوا بعيدين عنه في بلاد المهجر، فتراهم مثلا
قرأوا عن تاريخ أوروبا وأميركا وإستراليا أكثر مما قرأوا عن العراق
وماضيه القريب، فان بامكانهم أن يسألوا ويقرأوا، ليعرفوا الحقائق التي
غابت عنهم، ليتعلموا كيف يتعاملون مع الواقع، وكيف يفهمون القوى
العراقية الحقيقية، الدينية منها والاجتماعية والسياسية.
فكما أن البيت الأبيض قرر أخيرا أن يعيد قراءة
المشهد العراقي من جديد، ليسلط الضوء على المناطق المعتمة فيه أو
المساحات المجهولة بالنسبة إليه، لدرجة انه أبدى كامل إستعداده لإعادة
النظر في بعض خططه الحالية، ليأخذ بنظر الاعتبار، رأي المرجعية الدينية
وعلى وجه الخصوص،رأي السيستاني، كذلك فإن من اللازم بمكان، على الساسة
العراقيين المتصدين الآن للمشهد السياسي العراقي،أن لا يكابروا، فلا
يقولوا ما لا يعلمون، وإن قل ما يعلمون، وإذا جهلوا تعلموا، وإذا نسوا
تذكروا، ليتصرفوا بحكمة أكبر وبمسؤولية مشهودة، تتناسب وحجم التحديات
السيادية الضخمة التي يواجهها العراق.
لقد كدت أن أنفجر من الضحك، وأنا أقرأ تصريحات
نسبت إلى متحدث بلسان مجلس الحكم الانتقالي، ـ لم أتأكد بعد ما إذا
كانت رسمية، أم أنها شخصية لا تعبر إلا عن وجهة نظر صاحبها، يقول فيها،
أن المجلس رفض الأخذ بنظر الاعتبار رأي المرجعية الدينية ـ ويقصد
السيستاني على وجه التحديد الذي يصر على مطلبه بتشكيل المجلس التأسيسي
من خلال إجراء إنتخابات عامة، لإشراك العراقيين في العملية السياسية،
رافضا بشكل قاطع أي شكل من أشكال التوافق السري أو التعيين بالفرض
والإكراه، في خطته التي كان قد وقعها مع سلطة التحالف، والرامية إلى
نقل السلطة نهاية حزيران القادم.
أتمنى أن لا تكون هذه التصريحات رسمية تعبر
بالفعل عن الموقف الرسمي لمجلس الحكم الانتقالي، وإلا فإن ذلك يعني أن
أعضاءه بدأوا يلعبون بالنار، وأنهم بدأوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي
المؤمنين، خاصة وأنهم لا زالوا يعيشون عقدة الشرعية التي تؤرقهم ليل
نهار، كونهم غير منتخبين من قبل الشعب العراقي، من جانب، وبسبب أنهم
يئنون تحت ضغط الاحتلال والمتمثل بحق النقض ـ الفيتو ـ الذي يتمتع به
الرئيس الفعلي والحقيقي للمجلس، السيد بول بريمر الحاكم المدني
الاميركي.
إن من مصلحة المجلس، أن يقترب أكثر فأكثر من
الشارع العراقي، من خلال إحترام رأي المرجعية الدينية، وأخذه بنظر
الاعتبار في كل القضايا المصيرية، ليكتسب شرعية واقعية وفعلية، خاصة
وأن المرجعية الدينية، لم تطالبه حتى الآن بالمعجزة، أو بما لا يقدر
على إنجازه، إذ أن كل ما تدعو إليه، وتطالب به، هو إشراك العراقيين
مباشرة في إنتخاب المجلس التأسيسي، الذي ستنتقل إليه السيادة والسلطة
من المحتل، وبالطريقة المناسبة التي يراها ويشخص إمكانيتها الأخصائيون،
وأصحاب الخبرة، فأين الخلل في هذا الموقف ؟ ولماذا لا يأخذ به المحتل
ومجلسه ؟ فظل يتحجج بأعذار واهية وعلى مدى أشهر طويلة من الزمن، قضاها
بالنقاش العقيم، بدلا من أن يبدي جدية أكبر للبحث في ألآليات البديلة
لتحقيق المشاركة الشعبية المباشرة في العملية السياسية، والتي تعتبر ـ
المشاركة ـ المصداق الحقيقي للديمقراطية التي نبشر بها العراقيين،
والطريق الأسلم والأسلوب الأفضل لبناء الشرعية الوطنية، ونحن نؤسس
لعراق جديد ؟.
كذلك، فإن من مصلحته أن لا يتحمل ثقل المسؤولية
التاريخية على عاتقه لوحده، فمن الأفضل له أن يتقاسمها مع القوى الأخرى
الفاعلة في المجتمع العراقي وعلى رأسها المرجعية الدينية، حتى لا يلام
على خطأ يرتكبه، أو تقصير لا يقدر على مواجهة تبعاته واستحقاقاته.
ولقد ثبت للعراقيين حتى الآن، أن المرجعية
الدينية تفكر باستقلالية أكبر، وحرص وطني أشد، على عكس مجلس الحكم الذي
باتت مواقفه محصورة بين مطرقة الاحتلال وسندان متطلبات واقع العراق
الجديد، ففي الوقت الذي لم يغير فيه السيستاني آراءه ومواقفه أزاء
القضايا الاستراتيجية المطروحة للبحث والنقاش،فطالب منذ اليوم الأول،
وقبل ستة أشهر ربما، بالانتخابات لتشكيل المجلس التأسيسي مثلا، ما يعني
معرفته الجيدة بما يقول، ووعيه الكامل وتفهمه الشامل للأمور، من دون أن
يتورط بشئ يجهله أبدا، غير مجلس الحكم وبدل وتناقض أعضاؤه في مواقفهم،
إذ نسمع عنه في كل يوم رأي وموقف أزاء الأمر الواحد، بالرغم من تعيينه
لمتحدث رسمي باسمه لتوحيد الخطاب الإعلامي العلني على الأقل، وهذا دليل
على أن المرجعية الدينية تنطلق بمواقفها من أرضية صلبة، تعي الواقع
وتفهم الأمور وتستوعب التجربة، فيما يبني المجلس مواقفه، إما على أساس
منطلقات الاحتلال وأجندته السياسية، أو على أساس مصالح فئوية ضيقة، لا
تأخذ بنظر الاعتبار استحقاقات المرحلة والظرف، والتحديات الخطيرة.
ولا أدري لماذا لا يتحلى أعضاء المجلس بالشجاعة
الكافية، ليقولوا ما يعتقدون به ويرونه صائبا ؟، فترى أحدهم يدلي
بتصريح ما بعد كل زيارة إلى المرجعية الدينية في مدينة النجف الاشرف،
وكأنه يوافق رأيها، بإنتظار أن يعود إلى بغداد، ليدلي بتصريح يتناقض
تماما مع تصريحه الأول، فأيهما، يا ترى، هو الذي يعبر عن وجهة نظره
الحقيقية ؟، وأيهما الذي يؤمن به السادة الأعضاء ؟، هل يتصورون أن
بامكانهم توظيف عامل الزمن للتقليل من أهمية رأي المرجعية ومواقفها ؟
أم يظنون أنها ستنسى اليوم ما قالته بالأمس، فيقللوا، بهذه الطريقة
الملتوية، من تأثير مواقفها في الشارع العراقي ؟.
يخطئ من يظن أن بإمكانه أن يبتز المرجعية، أو
يقلل من أثر مواقفها في الساحة، أو يروضها بمرور الوقت، لأنه، وبصراحة،
ليس هناك ما تخسره على الصعيد الشخصي، وليس عندها ما تساوم عليه، لأنها،
وببساطة، لا تفكر بطريقة المحاصصة، ولا تنوي اقتسام الكعكة مع بقية
الأطراف، خاصة مرجعية دينية كالسيد السيستاني الذي يعرف ألقاصي والداني،
أنه مرجعية محافظة ومعتدلة ووسطية وزاهدة في الدنيا وملذاتها وزبرجها،
وغير متهالكة على شئ من حطام الدنيا التي طلقتها ثلاثا من غير رجعة،
فدعا أنصاره من العلماء وطلبة العلوم الدينية، ومنذ اليوم الأول، إلى
عدم التدخل في الأمور التنفيذية للبلد، والاكتفاء بتحمل مسؤولية
التبليغ والتوجيه والمراقبة، واكتفى هو بتسخير قوة الكلمة الطيبة
والمنطق الحسن والحكمة والموعظة الحسنة، للحفاظ على، وصيانة المصالح
العليا للعراق والعراقيين، بعيدا عن حسابات الربح والخسارة الضيقة
الأفق، كما أنه لم ينو الدخول في العمل الحزبي والسياسي المباشر، فضلا
عن أنه لا يمتلك أية أجندات سياسية للوصول إلى السلطة، ولذلك، مثلا، ظل
يراقب الساحة وتطوراتها لمدة زادت على ثمانية أشهر، قبل أن يحدد
الأسبوع الماضي موقفه من مجلس الحكم الانتقالي، عندما قال أنه لا يمتلك
الشرعية اللازمة، التي تؤهله لاتخاذ القرارات السيادية، لأنه غير منتخب
من قبل الشعب العراقي.
ولمن لم يفهم دور المرجعية الدينية، خاصة خلال
القرن الماضي من الزمن، أو لم يستوعب بعد حجمها الحقيقي وثقلها الواقعي
في الشارع العراقي، أذكره بتاريخها ألجهادي والنضالي الطويل، المعمد
بالدم والمعاناة المستمرة، والذي يثبت لكل ذي بصيرة أو ألقى السمع وهو
شهيد، أنها لا تطمع بحصة، ولا تطمح لمنصب، ولا تنتظر من أي أحد، أجرا
على موقف أو رأي، ولذلك اصطبغ تاريخها بالتضحيات والدماء والهجرة
والملاحقة والاغتيالات، وكل ذلك بسبب مواقفها المبدئية الثابتة، أزاء
القضايا المصيرية التي تخص الدين والوطن والشعب، بدءا من تصديها
ألجهادي للغزو البريطاني للعراق عام 1917، بقيادة العديد من رموزها
الثورية من أمثال ألحبوبي واليزدي، مرورا بقادة ثورة العشرين الإسلامية
التحررية، وعلى رأسهم الشيرازي ومن بعده الاصفهاني، ثم دفاعها ووقوفها
إلى جانب حقوق الشعب العراقي، والضغوط التي مارستها لانتزاعها من
المحتل آنئذ ـ بريطانيا العظمى ـ بقيادة ألخالصي وزملاءه، بالرغم من كل
ما تحملت بسببها ومن أجلها، كان آخرها تهجيرهم إلى خارج العراق بحجج
وأعذار واهية، وبالتنسيق بين الوزارة العراقية وسلطة الاحتلال، وحتى
تصديها للغزو البريطاني الثاني للعراق في الأربعينيات من القرن الماضي،
مرورا بكل التضحيات الجسام التي قدمتها المرجعية الدينية من أمثال
الشهيد الصدر الأول، والقافلة التي تبدأ ولا تنتهي، من شهداء المرجعية
الدينية التي ضمت الآلاف من العلماء والفقهاء والمفكرين وكبار أساتذة
الحوزة العلمية وطلبة العلوم الدينية، والهجرة والمطاردة والاغتيال
الذي تعرضت له العديد منها، من أمثال المرجع الشيرازي والشهيد السيد
مهدي الحكيم والشهيد السيد حسن الشيرازي، وأخيرا التصدي الحازم والشجاع
والنادر للنظام الديكتاتوري البائد، من قبل المرجع الشهيد الصدر الثاني،
الذي قاد ثورة عارمة ضد الطاغية الذليل صدام حسين، وإنتهاءا بالدم
المسفوك ظلما وعدوانا في محراب الصلاة في مرقد الإمام علي بن أبي طالب
ـ ع ـ في مدينة النجف الاشرف قبل مئة وخمسين يوما تقريبا، عندما أغتيل
الشهيد السيد محمد باقر الحكيم والمئات من المؤمنين المصلين.
وبعد كل هذا التاريخ ألجهادي والنضالي الحافل
للمرجعية الدينية، يأتي من يستكثر عليها رأيا تدلي به في قضايا العراق،
أو موقفا تبديه أزاء تطوراته، فيطالبها بعدم التدخل في السياسية، أو
يطالبها بالتوقف عن الإدلاء بالتصريحات ذات الشأن العام، فيما تطرف
آخرون عندما دعوا الاحتلال لعدم منحها حق الممارسة السياسية والتعاطي
بالشأن العام، وكأن المشاركة السياسية ليست حق مكفول لكل مواطن من دون
تمييز، لا يحق لأحد سلبه من أحد مهما كانت الظروف والأعذار.
لو لم يكن من حق المرجعية الدينية أن تقول ما
تراه صحيحا ومناسبا في هذه القضايا الاستراتيجية والمصيرية، فمن له
الحق إذن في إبداء رأيه ؟.
إن السيستاني وأمثاله من المرجعيات الدينية، هم
ورثة تاريخ جهادي عريق مصبوغ بالدم والدموع والآلام والمعاناة اليومية،
ولذلك، فهو أول من يحق له أن يتدخل في كل القضايا ذات الشأن العام ومن
دون منازع، وهو أول من له الحق في أن يتحدث بصوت عال ومرتفع، ويبدي
رأيه في الأحداث، ويعبر عن مواقفه في التطورات، أما أولئك الذين قضوا
نصف عمرهم أو أكثر منعمون في بلاط الملوك والأمراء والرؤساء، يلحسون
قصاعهم، ويفترشون رياشهم، أولئك الذين لم يضحوا، ـ لا هم ولا عوائلهم
أو حتى عشائرهم، بقطرة دم واحدة، ولم يذرفوا دمعة على صورة من صور
المأساة الرهيبة التي عاشها العراق، طوال حكم النظام البائد، أما أولئك،
فهم آخر من يحق له أن يتحدث أو يبدي رأيا أو موقفا، فقبلهم يقف ملايين
العراقيين الذين ضحوا بدمائهم وأرواحهم وأعمارهم وبكل ما يملكون، من
أجل التصدي للنظام الشمولي البائد.
فهمنا مصدر شرعية تدخل المرجعية الدينية في
الشأن العام، إنه تاريخها ألجهادي ومواقفها البطولية المسؤولة والشعب
الذي أثبت الواقع الحالي إلتفافه حول طروحاتها، والتزامه بنهجها
ومدرستها، فمن أين اكتسب أولئك مشروعية تدخلهم ؟ وهم الذين لم يشهد لهم
التاريخ بموقف مسؤول واحد لصالح الشعب العراقي، فضلا عن أنهم غير
منتخبين أو مفوضين من قبل العراقيين للتحدث باسمهم أو التدخل بشؤونهم
؟.
عجبا لأمر بعضهم، كيف يهرولون إلى المرجعية
لاستصدار مواقفها الشرعية والوطنية أزاء المخاطر التي يتعرضون لها
كونها تمسهم في الصميم، وتهدد مشروعهم، ولكنهم يرفضون منها رأيا إذا لم
يأت منسجما مع طريقة تفكيرهم، أو لا يخدم طموحاتهم الشخصية والحزبية.
إن لم يكن من حق المرجعية الدينية أن تتعاطى
السياسة، فلماذا يؤمها القادة وزعماء الأحزاب السياسية كلما داهمهم خطر
أو واجهتهم مشكلة أو اختلفوا حول قضية ؟، أترى أنهم يسألونها عن دينهم
وعباداتهم ؟ أم كيف يتطهرون من رجسهم ؟، أم يستخيرون الله عندها ؟ أم
أنهم يزورونها للإصغاء إلى آرائها في القضايا السياسية ؟ حقا أنهم
يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيهرعون إليها متى ما أرادوا،
ويطالبونها بالكف عن تعاطي السياسة متى ما أغاضهم رأيها، وكأنها مطية
لأغراضهم وجسرا لأهدافهم، يمتدحونها ويحسنوا تدخلها بالسياسة، إذا
أحبوا رأيها، ويتهجمون عليها ويستنكرون تدخلها في السياسة ويطالبونها
بالكف عن ذلك، إذا كرهوا رأيها السياسي.
ليس عند المرجعية الدينية فتاوى جاهزة تحت الطلب،
ليستصدرها السياسيون متى ما أرادوا أو رغبوا في ذلك، أو متى ما شاءت
ظروفهم لخدمة أجندتهم السياسية.
إن لم تكونوا تعلمون علم اليقين، بأهمية رأيها
وثقل وزنها في الساحة، فلماذا كل هذا الاهتمام الذي تبدونه أزاء آرائها
؟، وإذا كان موقفها مهما لهذه الدرجة، فلماذا تحاولون تجاهله ؟، دعوها
تدلي برأيها، وقولوا ما ترونه مناسبا من آراء ومواقف، ثم ليقض الشعب
بينكم وبينها، فهو أصدق تعبيرعن الحقيقة، وأدق الموازين التي يمكن أن
نقرأ فيها التأثير الحقيقي والواقعي لما يقال ويطرح من آراء ومواقف
ومشاريع.
أقول بصراحة، أن أي موقف سلبي من المرجعية
الدينية المعتدلة، سيشجع المتطرفين على التمسك بمواقفهم المتطرفة،
ولذلك يلزم التصرف بحكمة بعيدا عن الاستعجال والاندفاع الأعمى وراء
المتشبعين بالكراهية والعدوانية لكل ما يمت إلى الدين وأهله بصلة، ما
يدفع باتجاه تأزيم وتعقيد الأمور أكثر فأكثر، فتخيم من جديد أجواء ثورة
العشرين الإسلامية التحررية في سماء العراق، وليس في ذلك أية مصلحة
لأية شريحة من شرائح المجتمع العراقي.
إن المرجعية الدينية فخر العراق وعزه، وأن
العراق مدين لها بمواقفها وتضحياتها الجسام، إلى جانب تضحيات العراقيين
بكل شرائحهم، فهي التي تصدت لاحتلال العراق مرتين، الأولى في العام
1917، والثانية في العام 1944، وها هي تتصدى للاحتلال الثالث بكل حكمة
وسعة صدر، وبالمقاومة السلمية والسياسية ما لم تستنفذ أغراضها، فنجحت
حتى الآن في حقن الدماء التي كادت أن تراق أنهارا غزيرة من جديد بسبب
التطرف الذي حاول توظيفها لخدمة أغراضه العدوانية وأهدافه الظلامية، من
خلال مساعيه الكبيرة التي بذلها لجر شريحة كبيرة من العراقيين، إلى
ممارسة العنف، لولا الموقف العاقل والحكيم الذي وقفته المرجعية الدينية.
لا أحد يريد أن تتكرر تجربة ثورة العشرين
الإسلامية التحررية، ونحن على أبواب شهري الثورة والحرية والتحرر، ـ
محرم وصفر، ولكن لكل صبر حدود، فلا تدعوا الكيل يطفح من إنائه.
أسمع همسا وكأن بعضهم يسألني، كيف؟.
أجيبه همسا كذلك في أذنيه،اسألوا أبو ناجي إن
كنتم لا تعلمون، فعنده الخبر اليقين و... كل التجربة.
[email protected] |