بماذا يغار المرء إذا كان أحادياً بتفكيره على
خلفية الاعتداد الزائد عن اللزوم فيما يحمله من قناعات ذاتية؟ ألا يقود
ذلك لو صادف مرءٌ آخر من شاكلة اهتمامه ولكنه ذو تفكير عمومي وغير
متعصب بآرائه لدرجة التزمت؟ أليس النفور ممكن أن يحدث بينهما وإذا ما
حدث وهذا متوقع فبذاك سيكون كل منهما على مفترق طريق كل سيذهب إلى
غايته و تكون الحياة قد فقدت آصرة كان ينبغي أن تبدع إيجاباً في مجال
الاختلاف بالرأي.
من ظاهرة الخلاف والاختلاف في الوسط الثقافي
يمكن إعطاء تصور أولي عن الانتماء الثقافي الفكري في حالة متابعة الطرح
بين متحاورين أو أكثر ولكن مع إكمال مشوار الحوار تنجلي الخلفيات
الثقافية لكل محاور فيبان وضع الانتماء لديه وبهذا يمكن الاستدلال
السريع على كون التعرّف إلى المثقف المنتمي ممكن معرفة خط انتماؤه
أحياناً بما لا يعرف لذلك أي جهد خاصة إذا تم الأخذ بالاعتبار الموضوعي
أن بين جمل كلامه ما يشير لذلك ناهيك أن شكل الملبس يوحية لذاتية
الهوية الثقافية الشخصية أحياناً فعلى سبيل المثال أن مجرد ظهور رجل
إسلامي مرتد زي الإسلام مثلاً على شاشة تلفزة لا يوحي ذلك أن المتكلم
يحمل وجهة نظر غير إسلامية إلا ما ندر، في حين أن المثقف الأفندي
الظاهرة على شاشة التلفزة لا يوحي مظهره الخارجي عن انتمائه الثقافي
تماماً ولنقل معتقده الفكري أيضاً.. وعلى أساس.. من هذا الانطباع العام
يمكن القول أن ما خلف الكلمات من معانٍ هي التي تومئ للانتماء الثقافي
عند المتكلم وطبيعي ففي هذه الحال ينبغي اليقظة أن شرح نظرية ما أو
توضيح موقف ما من قبل المتكلم لا ينبغي أن يدفع لتقييمه عليه وتنسيبه
له لأول وهلة ولعل إحدى تحديات الثقافة المعاصرة هو الوقوع بخطأ الحكم
المسبق الذي يمتاز بالعجالة أحياناً عند من يحاول إطلاق الكلام على
عواهنه عند المقابل قبل أن يتأكد عن يقين تام من مقاصد المتكلم وأما
بالنسبة للكلام المدون سواء ضمن كتاب أو مقال أو ما شابه فإن التقييم
النقدي يكون أيسر من حيث أن وضوح التعابير المدونة هي التي تمثل لسان
حال المؤلف أو الكاتب على اعتبارها قد دونت على مثل تفكير وبصورة لا
يكتنفها أي إبهام.
والانتماء الثقافي (أي انتماء منه) بقدر ما يبدو
كونه انتماء فيه شيء من المغامرة الطوعية إلا أن من الثابت أن أبعاد
الهاجس يبقى متحفزاً لدى الآخر من أن صاحب الكلام المسموع من خطبة له
خاصة أو عامة، أو منقولة قراءة كلامه من قبل غير صاحب الكلام توحي أن
ما قيل لا يمثل كل الأسباب التي تدور في خاطر صاحب الكلام وعادة ما
يكون ذلك نتيجة لحالة الإحباط التي يعاني منها كل مثقف ولو بصورة نسبية،
من أفاعيل ومكائد الحياة السياسية القديمة أو الراهنة التي زعزعت
العديد من النفوس الراكزة في الساحة الثقافية المحلية و الإقليمية
والعالمية إذ أن وراء كل كلام ثقافي ضريبة يدفع أحياناً صاحبها دمه من
أجلها.
فالمتكلم موضوعاً حساساً أو الكاتب نقداً محقاً
هو الجندي في معركة قد بدأت لا يعلم متى ستنتهي مادام يعتقد عن يقين
عادل لعقله وقلبه أنه يخدم قول الحقيقة التاريخية ويدعو كل مقابل
للالتزام بها لأنها قانون حي للضمائر الحية. ففي سبيل الصراع الذي
أراده المثقفون بالتوارث كي يبقى في إطار الحوار خسر أغلب أولئك
المثقفين معاركهم الثقافية حين اعتقد الآخر المتسلط هنا أو هناك أن
الثقافة خطرة وهي الشبكة التي سيصطاد بها المثقفون العقل السياسي
السلبي ويميتوه بصب نار الحقيقة عليه كما يفعل العطارون بسكب الماء
الساخن على فأر قد وقع في أسر مصيدة الدكان فيميتوه!
فلأسباب سياسية بحتة يعيش عالم الثقافة حالة من
القلق الذي لا يبدو أن هناك في الأفق انفراجاً قريباً.. سيأتي وهو لحمل
صك الشرعية التي يمنحها التاريخ أحياناً لمجتمع ما كي يقول ما يريد.
لقد اختلفت وسائل التعبير اليوم وصاحب هذا
الاختلاف توسع في النشر وكثر في الترويج فالإيديولوجية الإسلامية التي
كانت (ليس أكثر من ربع قرن) مبهمة في أكثر بقاع العالم أصبح التداول
عنها الآن إيجاباً أو سلباً موضوعاً عادياً وفي هذا نصر مبطن
لديمقراطية أخذت تفرض قياماً لها في بلدان أخرى غير إسلامية والبشرية
اليوم في صورتها المنظورة تعيش مرحلة من التأقلم مع الثقافي القادم
إليها دون أن تمحص ذلك بصورة جادة بعد أن طرأ على الأوضاع الاقتصادية
في كل بلد ما يمكن تسميته بضرورة الانفتاح الخلاق بين الدول (أي
الحاكميات) كي يتم الارتقاء بحياة المجتمعات إلى ما هو أفضل.
ومما لا شك حوله أن أخطر ما يهدد الانتماءات
الثقافية السوية بهذه المرحلة هو التفكير بالدمج بين ثقافتين متناقضتين
وبالذات الثقافة الروحية والثقافة المادية التي ينبغي أن تكونا
محتفظتان كل منهما بالانتماء الخاص بها مع إغناء الآراء حولهما أمام
الرأي العام إينما كان الرأي وكيفما كان حراً أو دون ذلك إذ أن الأجواء
الحقيقية المتوفرة للتعبير الحر لا تنهي فيها أحد الثقافتين بل ستتمحض
عنهما ثقافة جديدة تسمو بالروح ولا تنكر على المادة من حيث النقاط التي
لا تتعارض مع جوهر الروح.. وأكثر من ذلك فإن ميل الإنسان نحو التوازن
بين الروح والمادة هو ميل فطري كفيل بأن يجعل الحياة الثقافية أكثر مدىً
في التأثير على البناء النفسي والتجميلي الحياتي. |