فيما تصر المرجعية الدينية، وعلى رأسها السيد
السيستاني، على رأيها الداعي إلى إجراء الانتخابات الحرة، العامة
والمباشرة، لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي المرتقب، يرفض آخرون ذلك،
داعين إلى إعتماد مبدأ التوافق كطريق للوصول إلى الهدف.
الفريق الأول، يسوق عدد من الأدلة، لإثبات صحة
وشرعية ما يدعو إليه ويتمسك به، فيرى مثلا، إمكانية إجراء الانتخابات،
من خلال إعتماد البطاقة التموينية، فيما يرى الفريق الثاني، إستحالة
ذلك بسبب الظروف الأمنية التي يمر بها العراق، فأي الرأيين أصوب ليأخذ
به العراقيون؟ أو لنقل الأقرب إلى الصواب؟.
تعالوا نناقش أدلة الفريقين، بالعقل والمنطق
والواقع، بعيدا عن مخلفات الماضي، وحسابات الربح والخسارة، الحزبية أو
الفئوية الضيقة، والعناد اللامسؤول، إذ ليس المهم أن أربح أنا أو أخسر،
إنما المهم أن يربح العراقيون، ولا يخسروا شيئا، ليجنوا ثمار تضحياتهم،
نظاما ديمقراطيا، يحترم رأيهم وصوتهم، ولا يتجاوز إرادتهم، أو يسحق
حقوقهم، تحت كل المسميات، وفي كل الظروف.
وقبل ذلك، يلزم الالتفات إلى أمر هام جدا، وهو،
أن الخلاف على مبدأ ألانتخابات المباشرة، محصور فقط بين عدد من أعضاء
مجلس الحكم الانتقالي، تدعمهم مجموعات من فلول ومخلفات تيار الخمسينيات
المنقرض، أما أغلبية الشارع العراقي المطلقة، فمتفقة عليه، باعتباره،
الطريق الوحيد الذي يصون حقوقها في المشاركة، من الضياع، ويضمن رأيها
في الاختيار .
أولا ؛ ـ ضمن خطة مشروع نقل السلطة والسيادة،
الموقع بين المجلس وسلطات الاحتلال، فإن من المفترض أن ينتقلا من
الاحتلال إلى هذا المجلس التأسيسي، الذي من اللازم أن يرى النور نهاية
مايس ـ أيار ـ القادم، كأقصى موعد زمني .
كما أن من مهام هذا المجلس،الإشراف على تدوين
الدستور العراقي الجديد، بالإضافة إلى إشرافه على أداء الحكومة
الانتقالية التي ستنبثق عنه.
هذا يعني أن مهام ومسؤوليات المجلس التأسيسي،
ستكون كبيرة وسيادية وتاريخية بكل معنى الكلمة، فهل يمكن، من الناحية
الشرعية والقانونية، أن يتصدى المجلس لكل هذه المهام الجسيمة من دون أن
يكون أعضاءه منتخبين من قبل الشعب العراقي ؟ فبأي حق شرعي وقانوني،
ستتصرف هذه المجموعة من العراقيين بمقدرات العراق وشعبه، إذا لم يكن
المواطن قد شارك في انتخابها واختيارها، عبر انتخابات حرة ونزيهة ؟ .
إنها طريقة تشبه إلى حد بعيد لعبة الانقلابات
العسكرية، ولكن ربما بوسائل مدنية جديدة .
ثانيا ؛ ـ يسوق المخالفون، موضوع التدهور الأمني،
كأحد أهم العوامل المعرقلة لإجراء الانتخابات .
ولكن ؛
1 ـ إن التدهور الأمني، محصور في منطقة جغرافية
محدودة جدا، فلماذا نحرم كل العراق، من حقه في المشاركة والانتخاب،
بجريرة حفنة من الإرهابيين ؟ .
ألا يمكن إعتماد مبدأ الانتخاب لكل العراق،
وإستثناء المناطق المأزومة أمنيا، من دون أن يعني ذلك تجاهلها بالكامل،
إذ يمكن البحث في آليات إنتخابية أخرى تتلاءم وظرفها الأمني الاستثنائي،
كأن يتم إعتماد الأسلوب المقترح حاليا، والذي عرف بما يسمى بالمؤتمرات
الانتخابية مثلا ؟ .
2 ـ أوليس من المعقول أن تكون الانتخابات، من
العوامل التي ستساهم في نزع فتيل التوتر الأمني، ربما حتى في تلك
المناطق المتمردة المحصورة في بعض المثلث الأسود؟ عندما يشعر الناس،
أنهم بداوا يشاركون بالفعل في صياغة العراق الجديد، من دون إستبعادهم،
أو إحتكار ذلك من قبل حفنة من الساسة الذين لم يساهم المواطن في
إنتخابهم أو حتى تفويضهم؟ فلماذا نحرمها الفرصة بحجج وأعذار واهية ؟ .
ثم، أولا يدعي المحتلون، أن العمليات الإرهابية
قد إنخفضت بدرجة كبيرة منذ إلقاء القبض على الطاغية الذليل ؟ هذا يعني،
أنها قد تختفي وتنتهي نهائيا لحين موعد إجراء الانتخابات بعد ثلاثة أو
أربعة أشهر ؟ .
في ذات الوقت، فإن من المحتمل أن يتصاعد العنف
بشكل كبير جدا مع الزمن، فمن سيضمن الموافقة، في هذه الحالة، على إجراء
الانتخابات، بعد إنقضاء الفترة الانتقالية، أي في نهاية العام 2005 ؟ .
هذا، إذا أحسنا الظن، ولم نتهم أطرافا، يهمها
جدا أن يستمر الوضع الأمني في التدهور، لفرض أجندتها الخاصة في طريقة
تشكيل المجلس التأسيسي، بما يضمن لها، أو لعناصرها، لا فرق، مواقع يعتد
بها، لم تكن لتحصل عليها، لو تم الاتفاق على تشكيله عن طريق الانتخابات
الحرة المباشرة.
3 ـ متى عرقلت الأزمات الأمنية والظروف الطارئة،
العملية الديمقراطية، في بلد من البلدان التي أصر شعبها على طي الخطوات
اللازمة نحو التأسيس لنظام ديمقراطي ؟ .
حتى إسرائيل، هذا الكيان القلق واللامستقر، لم
تعرقل أزماتها الأمنية المستمرة منذ نصف قرن، انتخاباتها البرلمانية،
كلما إستحقتها دستوريا، فلماذا يعرقل الانفلات الأمني في بعض مناطق
العراق، العملية الانتخابية برمتها ؟، ألا يعني ذلك، إستسلاما مخجلا
لمنطق الإرهابيين ؟، وإنبطاحا كاملا أمام أعمالهم الإرهابية ؟،
واعترافا بنجاحهم في ابتزاز العراقيين وسلطات الاحتلال ؟، ما يشجعهم
على الاستمرار في نهجهم، ومواصلة أسلوبهم الابتزازي ؟ .
كذلك، فإن مثل هذا الاستسلام سيدفع، ربما،
بالكثير من العراقيين إلى التفكير بانتهاج أسلوبهم، عندما يشعروا، وكأن
الاحتلال يكافئ الإرهابيين بالاستسلام لمنطقهم، ومساواتهم بالآخرين،
عندما يصادر حقهم في المشاركة بالعملية الانتخابية .
ثالثا ؛ ـ يقولون، ليس في العراق قانون إنتخابي
صحيح، يمكن إعتماده لإجراء الانتخابات، وبهذه العجالة .
إن مجلس الحكم الانتقالي، الذي أجاز لنفسه إتخاذ
قرارت سيادية كثيرة، ألم يكن بإمكانه أن يشرع، على عجل، قانونا جديدا
للانتخابات، يكلف لتدوينه، نخبة من ذوي الاختصاص والخبرة ؟ لو لم يصرف
الستة أشهر الماضية من عمره، بالقيل والقال وكثرة الأسفار ؟ أم أن
السيد بريمر رفض صرف مرتبات أعضاء اللجنة المفترضة، المكلفة بتدوينه،،
فأرجأ المجلس تشكيلها، و ... تكليفها بهذه المهمة الشاقة جدا ؟ .
أما بشأن الإحصاء الذي يتذرع به الرافضون، فلو
إفترضنا استحالة إجرائه بهذه العجالة، ألا يمكن إعتماد البطاقة
التموينية كأساس لإجراء الانتخابات ؟، خاصة وأن قرابة عشرة ملايين
مواطن عراقي يحملون هذه البطاقة، وذلك حسب إحصاءات الأمم المتحدة ولجنة،
ـ النفط مقابل الغذاء ـ ؟ .
يحتجون بعدم إمتلاك كل العراقيين لهذه البطاقة،
إذ أن عراقيي المنفى مثلا لا يمتلكونها، كما أن الشعب في كردستان لا
يمتلكها كذلك، كون المنطقة الشمالية من العراق، كانت خارج سلطة النظام
البائد طوال ألاثنتي عشر سنة الأخيرة، والذي حرمها من البطاقة
التموينية، فكيف سيشارك هؤلاء الملايين بالعملية الانتخابية؟.
1 ـ بالنسبة لشعبنا في كردستان، فإن الإدارتين
المحليتين في أربيل والسليمانية، تمتلكان إحصاءات سكانية رسمية دقيقة،
حصلت عليها ووثقتها بالانتخابات البرلمانية التي أجريت في المحافظات
الشمالية الثلاث عام 1992، يمكن إعتمادها بشكل كامل .
فلو أضفنا أرقام هذه الإحصاءات إلى الملايين
العشرة التي تحمل البطاقات التموينية، فسيكون عدد المسجلين رسميا أكثر
من اثني عشر مليون ناخب، وهو العدد المعقول لمن يحق له الانتخاب في بلد
كالعراق الذي عدد نفوسه قرابة ـ 25 ـ مليون نسمة، كما تشير إلى ذلك
أغلب التقديرات الأولية .
2 ـ لو دار الأمر بين أن نمكن هذه الملايين من
الإدلاء بأصواتها في انتخابات المجلس التأسيسي، مقابل حرمان مليون
عراقي في بلاد المهجر، ـ وهو العدد التقريبي المعقول للعراقيين الذين
يحق لهم الانتخاب ـ، أو أن نحرم كل العراقيين من هذا الحق، فقط بذريعة
إرضاء عراقيي المهجر، كما يحاول أن يتبجح بذلك، عدد من الرافضين، فإن
العاقل سيختار الطريق الأول من دون شك، إذ، ـ لا يسقط الميسور بالمعسور
ـ، وان، ـ ما لا يدرك كله، لا يترك جله ـ، ولا أعتقد أن عراقيي المهجر
سيحتجون على نتائج الانتخابات التشريعية التي سيشارك فيها اثني عشر
مليون مواطن عراقي، لمجرد أن مليونا آخرين، لم يتسن لهم المشاركة فيها،
بسبب إقامتهم خارج القطر، إما لأنهم غير مسجلين، أو لان الظروف الفنية،
ـ وليس أي شئ آخر ـ، لم تسمح لهم بالتمتع بحق الانتخاب هذا .
إنما سيحتج عراقيو المهجر، إذا حرم الملايين من
أبناء شعبهم من الوقوف أمام صندوق الاقتراع ،لاختيار وإنتخاب أعضاء
المجلس التأسيسي، وبحجج واهية، وهم في الحقيقة، قادرون على ذلك، سواء
من الناحية القانونية أو من الناحية الفنية، كما أنهم سيحتجون بكل
تأكيد، إذا تم إختيار أعضاء المجلس ألتأسيسي بالتعيين وليس بالانتخاب،
فليس المهم عندهم، أن يساهموا بهذه العجالة في العملية الانتخابية،
خاصة وأنها في المرة الأولى، لمرحلة إنتقالية لا يتجاوز عمرها السنة
والنصف، حسب الجدول الزمني المحدد في مشروع نقل السلطة الآنف الذكر،
بقدر حرصهم، على أن تضع العملية الديمقراطية، برمتها ،عجلاتها على
السكة الصحيحة، فسيفرحون، ويفخرون، بكل تأكيد، وهم ينظرون إلى أهلهم في
العراق، وقد تمكنوا من الوقوف أمام صندوق الاقتراع بكل حرية، ومن دون
عائق أو مانع من أحد .
رابعا ؛ ـ يحتج بعضهم على مبدأ الانتخابات بقوله،
أن العراقيين بحاجة إلى فترة زمنية أطول للتعرف على قادته الجدد، قبل
أن يختارهم عن طريق صندوق الاقتراع .
شخصيا، أرى أن العراقيين حسموا خياراتهم، وإن
المدة الزمنية الممتدة من التاسع من نيسان المنصرم، ـ وهو تاريخ سقوط
النظام الشمولي البائد ـ، ولحد الآن، كانت كافية للتعرف على هؤلاء
القادة المفترضين، أما بعض هؤلاء، فلو أنهم ظلوا يعرفون بأنفسهم
للعراقيين ليل نهار، أو صرفوا الملايين من أجل شراء أصوات الجياع، فسوف
لن يحصلوا على أكثر من صوت واحد، هو صوتهم الوحيد، حتى مطلقاتهم سوف لن
يعطن أصواتهن لهم، فلماذا إذن يرفضون الانتخابات ؟ .
رابعا ؛ ـ وأخيرا، يتخوف البعض من الانتخابات
التي قد تفرز، برأيه، مجلسا تأسيسيا لا يلبي طموحات المحتل أو أعوانه
من، ـ المفلسين ـ، الذين سوف لن يفوزوا حتى بمقعد واحد عن طريق صندوق
الاقتراع، ولذلك يصرون على القبول بمبدأ التوافق حتى إشعار آخر، أو
يخشى أن تفرز الانتخابات، مجلسا تأسيسيا يرفض تمرير استحقاقات الاحتلال،
وكأن التاريخ يعيد نفسه، إذ يبدو أن لكل محتل إمعات تبيع نفسها له
بابخس الأثمان، فكما كان للمحتل البريطاني مطلع القرن الماضي إمعاته،
كذلك فان للمحتل الاميركي مطلع هذا القرن، إمعاته كذلك .
ولكنني أقول ؛
كما أن للديكتاتورية ثمنها، كذلك فإن
للديمقراطية ثمنها، هذا من جانب، ومن جانب آخر، من قال أننا نريد مجلسا
تأسيسيا يلبي طموحات المحتل وأعوانه ؟ إننا نريد مجلسا يلبي طموحات
العراقيين الذين دفن نصفهم أحياء في المقابر الجماعية، أو قتلوا في
حلبجة بالسلاح الكيمياوي، أو غيبوا في عمليات الأنفال سيئة الصيت، أو
سجنوا وعذبوا ثم أعدموا وقتلوا من خلاف في سجون النظام الشمولي البائد
.
لقد لبى مجلس الحكم الانتقالي، الكثير من طموحات
المحتل، فماذا استفاد الشعب ؟ الذي لا زال، إلى الآن، يعيش أزمات أمنية
واقتصادية ومعيشية خانقة، تتدهور إلى الأسوأ مع مرور الزمن، من دون أن
يخفي العراقيون خشيتهم من أن تصل إلى التراقي،إن عاجلا أم آجلا؟ .
أعتقد، أن من الأفضل أن يصغ المعارضون، إلى رأي
الشارع العراقي الذي بدأ يتظاهر ويجوب الشوارع في مختلف محافظات العراق،
مطالبا بالانتخابات، فلصوته فقط يجب أن ننحني إجلالا وإكبارا، ولرأيه
يجب أن نتقدم بكل فروض الطاعة والولاء، وما سوى ذلك هراء، سوف لن يصمد
أمام الحقيقة والواقع .
على المعنيين بالأمر من قريب أو بعيد، أن
يستغلوا هدوء المرجعية الدينية الذي يسبق العاصفة، قبل أن تضطر
للاستجابة إلى ضغط الشارع، فتجيب على استفتاءاته الدينية بشأن شرعية
مجلس الحكم الانتقالي المعين من قبل الاحتلال، مثلا، إذ يكفي فتوى من
نصف جملة لتقلب الطاولة على رؤوس المعاندين والمغرورين والمتمترسين
بالمحتل .
إنهم لا يؤمنون إلا بالديمقراطية التي تحملهم
إلى المجلس التأسيسي فقط، ولو كره العراقيون رؤيتهم، أما إذا حملت
غيرهم، فتهمهم جاهزة، ونعوتهم حاضرة، لتتهم سواهم، بالجهل تارة،
وبالعمالة أخرى، وبالطموحات الضيقة تارة ثالثة .
وأخيرا قولهم أن السيستاني مرجعا دينيا لا يحق
له تعاطي السياسة، ـ إضحك على عقولهم التي تشبه إلى حد بعيد عقل
الطاغية الذليل، فقولهم هذا لم يتجرأ على قوله حتى المحتل العلماني .
ففي الوقت الذي قال فيه المتحدث باسم الحاكم
المدني الاميركي في العراق، بول بريمر، أن بريمر يكن إحتراما كبيرا
للسيستاني، ويعتقد أنه زعيم كبير، وأضاف دان سينور في مؤتمر صحفي عقده
في بغداد يوم أمس، أن السفير بريمر أكد أنه يكن إحتراما كبيرا جدا
للسيستاني، إنه زعيم كبير، يمثل قسما كبيرا من العراقيين، على حد قوله،
في ذات الوقت، يقول الناعقون، أنه مرجعا دينيا لا يحق له التدخل في
السياسة، فهل يعني ذلك، أن بريمر قرأ تاريخ العراق واستوعبه، وأن
الناعقين لم يدرسوا تاريخ بلادهم، وإذا درسوه لم يستوعبوه ؟ .
بصراحة أقول، لا يحق لأحد، كائنا من كان، أن
يمنع المواطن العراقي من الوقوف أمام صندوق الاقتراع، ليدلي برأيه في
كل القضايا المصيرية التي تهمه وتهم بلده، ولينتخب من يراه يلبي طموحه،
لعضوية كل المجالس التي ستتشكل في العراق الجديد،التأسيسي اليوم،
والبرلمان غدا، وغيرها بعد غد، وإلا، فانتظروا الطوفان الذي سيغرقكم،
وينجي الشعب ،الذي قرر صعود سفينة النجاة، للإبحار بها إلى شاطئ الأمان.
فلا تصروا على عنادكم، فتلعبوا بالنار، فتندموا،
فتأكلوا أصابعكم من الندم، وعندها، ـ ولات حين مندم ـ، لان من طبيعة
الإنسان، أنه يندم عادة بعد فوات الأوان، فهل من متعظ ؟.
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM |