عن الإمام علي (عليه السلام): (لا شرفَ كبُعْدِ
الهمّة).
تتضمن الفعالية الإنسانية ميكانيزمات متعددة:
بعضها بسيط، وبعضها معقد.
والفعل المنعكس أبسط هذه الميكانيزمات، وأهونها
شأناً ولكن الفعل المنعكس يتعقد وتنضم بعض أجزائه إلى البعض الآخر،
فيتألف منها في ماضي النوع (الغريزة) وفي ماضي الفرد (العادة) أما
الإرادة فهي تركيب نفسي عال، ولا نجدها إلا في الحياة النفسية الناضجة.
مهما تكن الإرادة في نظر العلماء إلا أنهم وجدوا
أن الفعل الإرادي يجتاز أربع مراحل متميزة هي: تصور الغاية، ومناقشتها،
وتقدير ما في موضوعها، وأخيراً تنفيذها.
وإن نوقش هذه المراحل إلا أن المرجح أن عمل
الإرادة الرئيسي هو في إثارة المناقشة، وإيضاح حدودها. وإذا أنت فصلت
المناقشة عن العزم، جعلت من الإرادة قوة حرة، مستقلة عن الأفكار
والعواطف، بل جعلتها قادرة على الخلق من عدم، وهكذا يبدو أن من الأفضل
أن نجعل للإرادة أثراً في مناقشة الأسباب والبواعث وقدرة خائفة على
التدخل في توجيهها.
وخلاصة القول هي: أننا نجد أن الإرادة تعمل
كالعقل، فالعزم الذي توحي به الرغبة هو أول شيء في العمل الإرادي إلا
أن الإرادة توقف هذا العزم، وتغري الفكر بالبحث في الأسباب التي قد
تبرر هذا العزم، وإذا لم يلحّ أن المبررات كافية، عدّلت اتجاه الفعل أو
امتنعت عنه.
ويبدو لنا أن الناس يفهمون من الإرادة شيئاً
واحداً متجانساً دوماً والحق أن هنالك صوراً مختلفة فيها المريض وفيها
الصحيح، وأكمل هذه الصور ما توازنت فيه قوة الدفع التي تحمل على العزم
مع قوة المنع التي توقف العزم، مادامت المناقشة غير حاسمة، وإذ نقص هذا
التوازن أو أصابه الاختلال فسنجد أنفسنا أمام أشكال إرادية ناقصة أو
مشوهة أو مضطربة أو باثولوجية: وتظهر في الحالات العصابية على شكل
إرادة مرتبطة بالواقع ولكنها عاجزة عن تحقيق ذاتها. أما في الحالات
الذهانية فتظهر الإرادة منفصلة نهائياً عن الواقع وعاجزة عن تحقيق
ذاتها، وتتعدد حالات الضعف في الإرادة ومن أبرز تلك الصور الضعيفة، هذه
الإرادة التي تتضاءل فيها قوة المنع، فتراها تصل إلى العزم دون أن تقف
على مناقشة مبرراته وقوفاً كافياً فهي عموماً إرادة طائشة جامحة يغلب
عليها الطابع العشوائي. ومنها أيضاً هذه الإرادة التي تتضاءل فيها قوة
الدفع، فتراها غارقة في الشكليات والروتينات تائهة في المناقشات
المجردة لا تنتهي منها.
وهناك صورة ثالثة باثولوجية أيضاً للإرادة
تتضاءل فيها قوتا الدفع والمنع معاً ويصبح ضعف الإرادة وضعف الثقة
بالذات وجهان لعملة واحدة، وأفراد هذه الفئة يجعلون الآخرين أولياء
لأمورهم ويسيرون في الحياة على هدى ما يريده الآخرون.
الحاصل: إن الإرادة ليست وراثية، بل التعليم
والتربية يمكن أن تساهم في تقوية الإرادة وتدعيمها. وهناك طرق كثيرة
لذلك تتعلق بالإنسان من الناحية الصحية والنفسية والعقلية لأن الإنسان
مادة وروح وكل منهما يؤثر في الآخر.
وفي الإسلام تعاليم وعبادات كثيرة ومختلفة تنمي
القدرات الإرادية وتقويها، وترسخ الإرادة في نفسية الإنسان.
فالإرادة هي إحدى الملكات والمواهب الطبيعية
التي أهلت الإنسان ليكون خليفة الله على الأرض وسيد المخلوقات، ولولا
أن الله الذي خلقه مسلّحة بتلك الميزة الفطرية، لما أوكل إليه تلك
المهام الجسام، وتحدث إليه بين الحين والحين عبر الرسالات بالتقدير،
وشمله بالعطف والمساندة ثقة بملكاته وقدراته على اجتياز الصعاب.
الإرادة تدفع صاحبها للإقدام على الفعل، وتهوّن
من حجم العقبات وتبتدع الأساليب والوسائل لتذليلها وتري أن المستحيل لم
يُخلق بعد، وتوحي للإنسان بأن تحقيق المنجزات الكبيرة والصغيرة بل
والمعجزات من الأمور تدخل في حيزّ الإمكانات البشرية.
الإرادة تلك الطاقة الداخلية التي صهرت المعادن
الصلبة، ودفعت لاختراع كل جديد، وأقامت الثورات وأيقظت الشعوب وقاومت
الظلم والقهر وعمرّت الأرض وطورت الفنون والآداب، ووضعت نهاية لكل
الأمراض والأوبئة الفتاكة. وأما التي توعز للطغاة إشعال الحروب وقتل
الحريات سعياً صوب أهدافهم التسلطية فليست إرادة بل نزوع وطيش هوى.
والإرادة تتمخض وتبلور بالمعرفة، فكل شيء
كالديمقراطية ونشر أحكام الإسلام العادلة والسمحة وتطوير التعليم
وتحديث البلاد والصلاة والزكاة والصوم والحج والزواج وعمل الخير
والهجرة وممارسة الهوايات والتمتع بالمباهج هذه كلها تحتاج إلى إرادة
ومعرفة، على أن المعرفة وحدها لا تحقق هدفاً ولا تؤتي ثمراً، ولا تحدث
تطويراً بلا إرادة، لأنها وحدها مجرد عمل قعيد وطموح بليد، والإرادة
دون معرفة طاقة عشوائية وحماقة...
وهما معاً جناحا الحياة والحرية، فيهما تكمن كل
الأسرار... وهما معاً الأدوات اللازمة للانطلاق الجاد والفاعل نحو
مستقبل أفضل سواء للفرد أو الجماعة. |