المحكمة الجنائية الدولية هي الكيان الدولي
الدائم الذي نشأ بموجب معاهدة متعددة الأطراف أتفقوا بموجبها على ضرورة
التحقيق ومحاكمة مرتكبي أشد الجرائم خطورة وأكثرها اهتماماً من جانب
المجتمع الدولي، وهي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم
الحرب.
وفي المحكمة الجنائية الدولية، لأول مرة يفكر
العالم في وجود آلية قضائية دولية دائمة لنظر الجرائم التي تشكل خطورة
على الجنس البشري، تلك الجرائم التي يعتبر مرتكبوها مسئولين مسئولية
جنائية دولية، ولو كان مجرد أفراد عاديين – ليسوا دولاً – أو كانوا
مسئولين ذوى حصانات. هذه فكرة المحكمة الجنائية الدولية، التي وصل
إليها العالم بعد أن تطور القانون الجنائي الدولي ليصل إلى فكرة
المسئولية الجنائية الدولية.
وبناء عليه، فإن المحكمة الجنائية الدولية لم
تأت بجرائم جديدة، بل هي الجرائم الأكثر استقراراً، فإن نظرنا إلى
جرائم الحرب لوجدنا أنها ترتكز على اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949،
وهي الاتفاقيات التي صدقت عليها دول العالم بأسره، والبروتوكولين
الإضافيين الذين بلغ عدد الدول المصدقة عليها 155 دولة، ومن ثم فلا
مجال للحديث عن جرائم الحرب إذ أنها معروفة وسارية على المجتمع الدولي
بأسره، أما فيما يتعلق بجرائم إبادة الجنس البشري فقد بلغت من
الاستقرار حداً ارتقت معه إلى مرتبة المبادئ القانونية المستقرة
والمعترف بها من قبل الدول أعضاء المجتمع الدولي جميعاً، وهو الأمر
الذي ينطبق على الجرائم ضد الإنسانية، بيد أن المادة 7 من النظام
الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية توسعت في وصف الجرائم ضد الإنسانية
بما يزيد على ما هو متعارف عليه في العرف الدولي، إلا أن الفيصل هو ما
ورد بعناصر وأركان الجرائم.
وباستقراء النصوص الخاصة بالجرائم التي تدخل ضمن
اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، سوف نركز على المادة رقم 8 التي
تناولت جرائم الحرب، حيث تناولت المخالفات الجسيمة لمعاهدات جنيف لعام
1949، والتي تسرى على النزاعات الدولية دون غيرها، وبما أن أغلب فقرات
المادة سابقة الذكر أخذت حرفياً عن هذه المعاهدات وعلى الأخص اتفاقية
جنيف الرابعة لعام 1949 المتعلقة بأوقات الحرب إضافة إلى البروتوكولين
الخاصين بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية لعام 1977
موضوع بحثنا في هذه الدراسة.
وإنطلاقاً من هذه التوجه سوف نسلط الضوء على محل
التنظيم القانوني للمحكمة الجنائية الدولية واقتصارها على المسؤولية
الجنائية الدولية للأفراد(1)، ثم محاولة شرح أهمية مبدأ التمييز بين
المقاتلين وغير المقاتلين من الجانب التاريخي وتطوره(2)، ثم نبين
الأوضاع القانونية التي قررها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
للمقاتلين(3) وغير المقاتلين(4).
أولاً: المسئولية الجنائية الدولية الفردية
إذا كان القانون الدولي لم يعرف من طريق الإجبار
والامتثال لأحكامه سوى ما كانت تمارسه الدول حيال بعضها البعض، سواء
باللجوء إلى الحرب أو القيام بأعمال القمع أو المعاملة بالمثل أو
التدخل، وهي صور للجزاءات التي كانت سائدة في ظل القانون الدولي، وكله
يرجع إلى افتقاد المجتمع الدولي إلى سلطة عليا يمكن يناط بها توقيع
الجزاء على المخالفات الدولية، ومن ثم فقد كانت تلك الجزاءات تتفق
وتتلاءم مع طبيعة المجتمع الدولي ذاته باعتباره مجتمع دول متساوية في
السيادة وليس مجتمع أفراد، وتحت تأثير الفقه الدولي فقد ظل الفرد بعيداً
عن الالتزام بقواعد القانون الدولي، ومن ثم فلم يكن بالإمكان تحميله
أية مسئولية مادام القانون الدولي لم يعترف أصلاً بخضوعه لأحكامه، كما
أنه لم يكن من بين المخاطبين بقواعده، ولهذا السبب نجد القانون الدولي
لم يتصدى أصلاً للأفراد.
غير أن مثل هذا الوضع لم يكن ليستمر طويلاً، لأن
الإنسان هو غاية كل تنظيم قانوني، وما وجدت الدول ولا المجتمعات ولا
الحكومات ولا المنظمات إلا لتحقق للإنسان أهدافه وتوفير سبل العيش
الآمن له، ولكي تكفل له أفضل السبل لحياته المعيشية، وبل وتقضي الحكمة
أن تتواءم القواعد القانونية – في كل الأنظمة القانونية – مع الطبيعة
الإنسانية، وأن تساير الجانب الملائم الذي يناسبه.
من هنا كان لا بد أن يهتم النظام الدولي بصفة
عامة بالإنسان إينما وجد، وحيثما كان ومهما كان صفته، وأن تتجه قواعده
لتتقصى حاجاته الأساسية، وأن يكون إشباع تلك الحاجات من بين الغايات
المستهدفة في نطاق متطلبات الروابط الإنسانية، وقد جاء بداية هذا
الاهتمام قبل الحرب العالمية الأولى، عندما تمكنت الدول الغربية من
إبرام مجموعة من المعاهدات لحماية الأقليات الدينية والعنصرية واللغوية
المتوطنين في بعض الدول، وعلى الأخص في الدول العثمانية، وكان الهدف من
تلك المعاهدات الالتزام بتطبيق العدالة والمساواة في معاملة هؤلاء
الأقليات، وواكب ذلك إبرام العديد من الاتفاقيات التي تساعد على تكريم
إنسانية الفرد وحمايته ضد الانتهاكات الموجهة لشخصه وإنسانيته، أو تلك
التي تهدر كرامته، مثل معاهدات تحريم تجارة الرقيق والقرصنة والمخدرات
واعتبار ممارسة تلك الأفعال بمثابة جرائم دولية يعاقب عليها.
وبعد الحرب العالمية الأولى بدأ القانون الدولي
يتقدم بخطوات واسعة نحو الاهتمام بحقوق الفرد وحرياته، فقد تضمن النظام
الأساسي لعصبة الأمم تعهد الدول الأعضاء بالسعي نحو توفير وضمان ظروف
عادلة وإنسانية لعمل الرجال والنساء والأطفال في بلادهم وفي جميع
البلدان الأخرى التي تمتد إليها أنشطتها التجارية والصناعية سواء بسواء،
كما نصت منظمة العمل الدولي هي الأخرى على أن من بين أهدافها الأساسية
القيام بتهيئة مجال التعاون بين الأمم بقصد تحسين ظروف العمل والحياة
بالنسبة للعمال.
ثم جاء ميثاق الأمم المتحدة – بعد الحرب
العالمية الثانية – متبنياً على المستوى الدولي الدعوة إلى تدعيم
احترام حقوق الإنسان بصورة تكاد تجعل من حماية تلك الحقوق غاية ضمن
الغايات المستهدفة التي تسعى الأمم المتحدة لتحقيقها واستمر هذا
الاهتمام في التطور إلى أن تجلى بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي
أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر عام 1948م
والذي تضمن قائمة كاملة بالحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية
والاجتماعية للإنسان، وقد صاحب هذا التطور اتجاه قانوني جديد بدأ ينظر
إلى الإنسان على أنه المحور الذي تدور حوله التشريعات القانونية، وبأن
الفرد دائماً وأبداً هو الشخص الطبيعي لكل قانون.
وبعدما أستقر الأمر وتم الاعتراف ببعض الحقوق
للفرد، فقد بدأت فكرة الالتزامات تظهر إلى حيز الوجود، وذلك نظراً
للارتباط الوثيق بين الحقوق والالتزامات في كل الأنظمة القانونية،
وبمعنى أوضح فإن السماح للفرد باكتساب الحقوق في ظل النظام القانوني
الدولي، كان لا بد وأن يستتبعه إمكانية نحمله بالالتزامات في ظل هذا
النظام، ذلك أن الفرد عندما يمارس حقوقه الجديدة على النطاق الدولي،
فمن المؤكد أن تلك التصرفات أنما تلعب دوراً هاماً ومباشراً في تقرير
الأمور الدولية، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة أثناء الحروب، قد كشفت حوادث
الحرب العالمية الأولى والثانية وخطورة تصرفات بعض الأفراد في مجال
التأثير على السلم والأمن الدولي ففي إمكان الفرد تهديد السلم والأمن
الدولي، كما أنه في إمكانه ارتكاب جرائم دولية تدخل ضم ولاية المحكمة
الجنائية الدولية كجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة
البشرية.
ثانياً: أهمية التمييز بين المقاتلين وغير
المقاتلين في الحرب
إن فكرة التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين
في الحرب بما يؤمن حصانة غير المقاتلين من أن يكونوا أهداف مشروعة في
القتال، جاء نتيجة لتصور الحرب على أنها نزاع مسلح بين قوات عسكرية
متحاربة وليس بين أمم بأكملها، وقد وجد هذا المبدأ تسييره في تصريح
سانت باسبورغ عام 1868 عندما نص على أن الهدف المشروع الوحيد الذي تسعى
الدول إلى تحقيقه في الحرب، هو إضعاف القدرات العسكرية للعدو، ويمكن أن
تطالع وثائق دولية جاءت إعمالاً لهذه المبدأ بأن اخترقت حصانة المواقع
والمنشآت ذات الصبغة المدنية والتي لا تستخدم لأغراض حربية، إذ من
المحظور قصف أو مهاجمة المدن والقرى، والمنشآت غير المدافع عنها بأية
وسيلة كانت. كما أنها غالباً ما أضفت على بعض المواقع امتيازاً خاصاً،
فلا يجوز قصف أو مهاجمة المنشآت المعدة للأغراض العلمية، الفنية،
الدينية، أو الخيرية، أو المستشفيات أو أماكن تجمع الجرحى والمرضى،
شريطة ألا تستخدم للأغراض الحربية خلال النزاع المسلح، وقد أظهرت الحرب
العالمية الأولى تمسك الدول بهذا المبدأ على أنه مبدأ قانوني ملزم،
والدولة التي تنتهكه تبرر تصرفها على أنها من قبيل الرد بالمثل على عمل
غير مشروع وليس انتهاكاً عمدياً له.
وجاء العمل اللاحق للحرب مؤكداً أهمية هذا
المبدأ ومشيراً إلى وجوب الالتزام والتقيد به، فقد أكد المشروع الذي
وضعته لجنة الفقهاء باجتماعها في لاهاي عام 1923، هذا المبدأ خاصة في
المواد 2 – 22 من المشروع.
فقد جاء في المادة 22 من المشروع أن: (أن القصف
الجوي بنية إرهاب السكان المدنيين من خلال تدمير أو الإضرار بالممتلكات
الخاصة التي ليس لها طابع عسكري، يعتبر عملاً محظوراً)، وعلى الرغم من
أن قواعد لاهاي لم يكتب لها أن تكون أساساً لاتفاقية دولية، إلا أنها
بدون شك عكست اليقين القانوني السائد، فهي لم تأت بقواعد جديدة، وإنما
جاءت كنتيجة لمحاولة تكييف قواعد القانون الدولي النافذة بغية تطبيقها
على الحرب الجوية.
وقد بقى هذا المبدأ موضوع تأكيد دائم خلال
الفترة ما بين الحربين، ففي عام 1932 تبنت اللجنة العامة لمؤتمر السلام،
الذي عقد في ظل عصبة الأمم، قراراً يقضي بأن أي هجوم أو قصف يقع ضد
السكان المدنيين، يعتبر تصرفاً محظوراً إتيانه على وجه الإطلاق، وأعلنت
جمعية عصبة الأمم، في قرار لها اتخذته عام 1938، أنه على الرغم من أن م
مهاجمة السكان المدنيين بصفتهم هذه يعتبر عملاً محظوراً طبقاً للمبادئ
العامة للقانون الدولي إلا أنها تود تأكيد المبادئ التالية:
1- حظر قصف السكان المدنيين.
2- إن الأهداف المسموح بمهاجمتها هي الأهداف
العسكرية فقط والتي يجب تحديدها بدقة.
3- يجب عدم التسبب بأضرار للسكان المدنيين في
حالة قصف المواقع العسكرية القاطنين بجوارها.
وبالرغم مما تعرض له هذا المبدأ من انتهاك خلال
المنازعات والحروب التي حصلت في الفترة ما بين 1919 حتى 1939 إلا أن
هذه الانتهاكات قوبلت بمعارضة قوية من قبل عصبة الأمم والدول الكبرى
الأمر الذي يظهر لنا أن هذه الانتهاكات لم تنشئ حيالها قاعدة جديدة
ألغت المبدأ السابق من جهة، كما أنها تؤكد لنا سريان مفعول هذا المبدأ
وديمومته من جهة أخرى، فقد شجب مجلس العصبة في 29 مارس 1937، قصف المدن
المفتوحة في أسبانيا واعتبره عملاً مخالفاً للمبادئ العامة للقانون
الدولي، كما أن جمعية العصبة في قرارها أنف الذكر شجبت تلك الانتهاكات
عقب الحرب الصينية اليابانية والحرب الأهلية الأسبانية وأكدت حصانة
السكان المدنيين.
ثم برزت دعوات على صعيد الفقه الدولي، نتيجة لما
تعرضت له قوانين وأعراف الحرب خلال الحرب العالمية الثانية من انتهاكات
خطيرة نادت بعدم جدوى التمسك بنظام قانوني يحكم تصرفات المقاتلين خلال
الحرب، محبذين خضوع تلك التصرفات إلى ما تمليه قواعد الأخلاق واعتدوا
بذلك على عدة وقائع لتبرير وجهة نظرهم منها:
1- ظهور الحرب الشاملة Total war وما ينجم عنها
من حتمية استقطاب جميع السكان في الجهود الحربية بسبب ضرورات الحرب
الحديثة، وإزاء هذا الوضع يغدو التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين
أمراً مستحيلاً.
2- ظهور الأسلحة الحديثة ذات الطابع غير المميز
أزال عن قوانين الحرب أساسها، إذ يستحيل من الناحية العملية التمسك
بمبدأ التمييز حيال أسلحة لا تبقى ولا تذر. واعتمدوا على عمل الدول
خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها للقول بزوال هذا المبدأ، وأشاروا
كدلالة لانتفائه إلى أن دول الحلفاء لم تدفع بنظرية الاقتصاص Reprisals
لتبرير ما قامت به من انتهاكات خطيرة له، واعتمدوا في آرائهم على
الاتفاقيات الدولية التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية قائلين بأن
مبادئها بنيت على تصور مواجهة حرب شبه شاملة Quasi – Total وعلى القضاء
الوطني لكونه لم يشر صراحة إلى ذلك المبدأ.
ويمكننا مجاراة وجهة النظر السابقة لتقودنا
للقول بأن تطور الظروف التقنية والاجتماعية وما رافقها من إنشاء جيوش
ضخمة تمتلك أسلحة فتاكة، أثر بالتأكيد على الأسس التي بنى عليها قانون
لاهاي، لكن هل رافق هذا التطور نشوء عرف دولي جديد قوض المبدأ السابق؟
إن الحقائق المتقدمة، لا تؤثر على نفاذ ذلك
المبدأ وإن كانت تؤثر في فاعليته، ويمكن دعم هذا القول بالإشارة إلى ما
جرى عليه العمل والقضاء الدوليان خلال الحرب العالمية وبعدها.
ولم تنكر أي من الأطراف خلال الحرب على هذا
المبدأ شرعيته ونفاذه، بل أنها غالباً ما دفعت بحجة الرد بالمثل
Reprisal لتبرير انتهاكها لهذا المبدأ أو بحجة أن انتهاكه كان إجراء
استثنائياً بررته مصلحة عموم الجنس البشري لوضع حد للحرب بأسرع فرصة
ممكنة، كالذي جرى باستخدام القنبلة الذرية عام 1945م.
وقد صدرت تصريحات رسمية عديدة أكدت مبدأ التمييز
بين المقاتلين وغير المقاتلين مشيرة إلى وجوب الالتزام الدقيق به، وذلك
خلال المنازعات الدموية التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية خاصة في
الحرب الكورية والحرب الفيتنامية.
كما أن الاتفاقيات التي عقدت بعد الحرب والتي
أهمها اتفاقيات حماية ضحايا الحرب الموقعة في جنيف عام 1949، لا يمكن
أن يستشف باستقراء نصوصها تجاهل هذا المبدأ بل بالعكس جاءت لتؤكد وتعزز
فاعليته، وتأكد بشكل واضح وجلي في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية مبدأ التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين بالنص عليه في
المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والخاصة بجرائم
الحرب والأفعال المكونة لها.
ثالثاً: الوضع القانوني للمقاتلين في ظل النظام
الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
في هذا الموضع من الدراسة سوف نتطرق إلى الوضع
القانوني العام للمقاتلين او أفراد القوات المسلحة حسب ما نظمته
اتفاقيات جنيف وأكده النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث سوف
نتطرق للجرائم الواقعة على مرضى وجرحى المقاتلين في الحرب (1)، ثم
الجرائم التي تقع بصفة خاصة على المقاتلين في حالة الأسر (2).
1- الجرائم الواقعة ضد مرضى وجرحى الحرب
عنيت بهذا الموضوع بصفة رئيسية اتفاقية جنيف
الأولى بشأن تحسين حالة الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة في
ميدان القتال لعام 1949 والمعدلة لاتفاقية جنيف الخاصة بتحسين حالة
الجرحى والمرضى في الميدان لعام 1929، وكذلك اتفاقية جنيف الثانية بشأن
تحسين حالة الجرحى والمرضى والغرقى بالقوات المسلحة في البحار لعام
1949 المعدلة لاتفاقية لاهاي العاشرة لعام 1907 والخاصة بتطبيق مبادئ
اتفاقية جنيف لعام 1906 على الحرب البحرية.
وقد جاء في الفصل الثاني من اتفاقيتي جنيف الأول
والثانية لعام 1949، والخاص (بالجرحى والمرضى) يمثل مبرر وجودها، حيث
كرس لغرض ضمان حسن معاملة مرضى وجرحى الحرب من المقاتلين والعناية،
وتهيمن عليه الفكرة القاضية بأن مرضى وجرحى الحرب يجب أن يكونوا موضع
قدسية واحترام وعناية بدون تمييز في الحالة التي يكونون فيها عاجزين عن
القتال بسبب المرض أو الجرح.
ولم يجر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية ولا الاتفاقيات المنظمة أي محاولة لتحديد مفهوم (الجرحى
والمرضى) من المقاتلين ولا حتى تحديد درجة قسوة أو خطورة المرض أو
الجرح الذي بموجبه يتمتعون بالعناية والاحترام وبالتالي الشمول بحماية
الاتفاقية، إذ جاءت عبارة الجرحى والمرضى بصيغة مطلقة فهل تشمل
المقاتلين الذين يسقطون بسبب المرض أو الجرح مهما كان سببه أو الذين
يتوقفون عن القتال ويلقون أسلحتهم نتيجة لشعورهم بخلل في صحتهم.
ورغم أن الأفعال الواقعة ضد جرحى ومرضى الحرب
فيما يعتبر انتهاكاً للحماية التي يوفرها النظام الأساسي للمحكمة
الجنائية الدولية والتي تشكل جرائم تثير المسئولية الجنائية، وهذه
الجرائم جاء ذكرها في اتفاقية جنيف الأولى وكذلك اتفاقية جنيف الثانية
جاءت صورة طبق الأصل للاتفاقية الأولى مع فارق بسيط هو اختلاف ظروف
القتال في البر عنه في البحر.
وذكرت اتفاقية جنيف الأولى: (الخروق الخطيرة هي
التي تتضمن أحد الأعمال التالية إذ اقترفت ضد أشخاص أو ممتلكات تحميها
الاتفاقية: القتل العمد، التعذيب أو المعاملة اللإنسانية، والتسبب عمداً
في إحداث الآلام شديدة أو أضرار خطيرة للجسم أو الصحة أو التدمير
الشامل للممتلكات الذي تبرره ضرورة عسكرية والذي يجري بصورة عمدية وغير
مشروعة)
واستناداً إلى نص المادة المتقدم فالجرائم التي
تقع على المقاتلين الجرحى أو المرضى كالتالي:
- القتل العمد
- المعاملة اللاإنسانية
- التسبب عمداً في إحداث آلام شديدة أو أضرار
خطيرة للجسم أو الصحة
- تدمير الممتلكات بالشكل الذي لا تسوغه ضرورة
عسكرية
2- الجرائم الواقعة على أسرى الحرب
ليس هناك تعريف محدد (لأسير الحرب) في نطاق
القانون والتشريعات الدولية، منذ اتفاقية لاهاي لعام 1907 ومروراً
باتفاقيات جنيف لعام 1929، واتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 التي خصصت
تماماً لتناول الأحكام المختلفة ذات الصلة بأوضاع أسرى الحرب والتي تعد
جزء من الاتفاقيات التي أخذ بها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية والتي نظم بها أوضاع المقاتلين في وقت الحرب.
فبموجب المادة 4 من الاتفاقية الثالثة لعام 1949
فإن اصطلاح أسير الحرب لا ينطبق على فئة واحدة بذاتها من الأفراد،
وإنما ينطبق على كل الأفراد الذين ينتمون إلى واحدة أو أكثر من الفئات
الآتية:
- (أفراد القوات المسلحة التابعين لأحد أطراف
النزاع وكذلك أفراد الميليشيا أو الوحدات المتطوعة التي تعتبر جزءاً من
هذه القوات المسلحة).
ويصدق وصف الأسير على أي فرد ينتمي إلى هذه
الفئة إذا ما توافر فيه شرطان:
الشرط الأول: يتمثل في وجوب أن يلتزم هذا الفرد
أن يلتزم بارتداء الزي العسكري المقرر في دولته طوال الفترة التي تستمر
فيها الاشتباكات المسلحة، أو بعبارة أدق، طوال الفترة التي يوجد بها في
منطقة القتال أو في إقليم العدو.
الشرط الثاني: يتمثل في التزام الفرد المذكور
وكل أفراد الفئة التي ينتمي إليها أثناء قتالهم للعدو بعدم الخروج على
القواعد القانونية الدولية التي تنظم سير الأعمال القتالية، ذلك لأن أي
خروج على مجمل هذه القواعد يسقط عن الفرد الأسير حقه في التمتع
بالحماية المقرر لأسرى الحرب.
- (أفراد الميلشيا الأخرى وأفراد الوحدات الأخرى
بما في ذلك الذين يقومون بحركات مقاومة نظامية ويتبعون أحد طرفي النزاع
ويعملون داخل أو خارج أوطانهم، حتى ولو كانت هذه الأراضي محتلة، وبشرط
أن تتوافر في هذه الميلشيا أو الوحدات المتطوعة – بما فيها تلك
المقاومات المنظمة – الشروط التالية:
1- أن تكون تحت قيادة شخص مسئول عن مرؤوسيه
2- أن تكون لها علامة مميزة، يمكن تميزها عن بعد
3- أن تحمل أسلحتها بشكل ظاهر
4- أن تقوم بعمليات الحربية طبقاً لقوانين الحرب
وتقاليدها.
- (أفراد القوات النظامية الذين يعلنون ولاءهم
لحكومة أو لسلطة لا تعترف بها الدولة الحاجزة).
- (الأشخاص الذين يرافقون القوات المسلحة دون أن
يكونوا في الواقع جزء منها، مثل الأشخاص المدنيين المرافقين لملاحي
طائرة حربية والمراسلين الحربيين، ومتعهدي التموين، وأفراد وحدات
العمال أو الخدمات المختصة بالترفيه عن القوات المسلحة، بشرط أن يكون
لديهم تصريح من القوات التي يرافقونها، والتي تزودهم لهذا الغرض ببطاقة
شخصية مماثلة للنموذج الملحق بالاتفاقية).
- أفراد طاقم البواخر، بما فيها القادة
والملاحون ومساعدوهم في البحرية التجارية، والملاحون في الطائرات
المدنية التابعون لأطراف النزاع، والذين لا حق لهم في معاملة أكثر
ملائمة بمقتضى أية أحكام في القانون الدولي).
- (سكان الأراضي غير المحتلة الذين يحملون
السلاح باختيارهم – عند اقتراب العدو – لمقاومة القوات الغازية، دون أن
يكون لديهم الوقت الكافي لتشكيل أنفسهم في وحدة نظامية مسلحة، بشرط أن
يحملوا السلاح بشكل واضح، وأن يحترموا قوانين الحرب وتقاليدها).
- (مجموعة الأشخاص الذين يتبعون أو كانوا تابعين
للقوات المسلحة الخاصة بالأراضي المحتلة، إذا رأت دولة الاحتلال ضرورة
اعتقالهم بسبب ولائهم لقوات دولتهم، وعلى الأخص في حالة ما إذا قام
هؤلاء الأشخاص بمحاولة فاشلة للانضمام إلى القوات المسلحة التي
يتبعونها والمشتبكة في القتال).
- (الأشخاص الذين يتبعون أية فئة من الفئات
السابقة، عدا الأخيرة منها، والذين يصلون إلى أراضي دولة محايدة أو
دولة ليست طرفاً في العمليات القتالية، والذين يطلب إلى هذا الدولة
اعتقالهم وفقاً لأحكام القانون الدولي ذات الصلة، وذلك من دون الإخلال
بأية معاملة مناسبة ترى هذه الدولة توفيرها لهم ومع مراعاة الأحكام
الخاصة الواردة في الاتفاقية ذاتها).
- (إلى جانب الفئات السالفة الذكر، جرى العمل من
جانب بعض الباحثين على إضافة فئة أخيرة تتمثل في كبار مسؤولي الدول
المتحاربة، كرئيس الدولة ورئيس حكومتها ووزرائها وكبار موظفيها الذين
يضطلعون بمهام أساسية ذات صلة بالنشاطات الحربية، وذلك شريطة أن يعثر
على الواحد منهم في ميدان القتال أو في نطاق دائرته.
وواضح مما تقدم، أن اتفاقية جنيف الثالثة لعام
1949 بشأن أسرى الحرب قد توسعت في ذكر الفئات التي يصدق عليها على
أفرادها وصف (أسرى الحرب) وهو أمر يمكن تفسيره بالرغبة في توفير أكبر
قدر من الحماية للأفراد في ظل حالة النزاع المسلح وكذلك الخاضعين
لاحتلال دولة معادية، كما أن هذا التوسع يأتي أيضاً متمشياً مع
التطورات الإيجابية في مجال الحماية الدولية لحقوق الإنسان في وقت
السلم وفي وقت الحرب وهو مما أكده النظام الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية.
والواقع، أنه بصرف النظر عن الفئة التي ينتمي
إليها من يسوقه سوء حظه إلى الوقوع في قبضة القوات التابعة للدولة
العدو، فإن اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 بشأن أسرى الحرب، وقد فصلت
في بيان الحقوق التي يجب أن تكفل للأسرى فرصة التمتع بها، والتي تشكل
واجبات أساسية تقع على عاتق الدولة التي تحتجز هؤلاء الأسرى بحيث إن
الخروج على مقتضياتها يرتب مسئولية دولية تجاهها.
ويمكننا إجمال هذه الحقوق على النحو التالي:
- الحق في إبقاء الأسير على قيد الحياة. فقد
حرمت الاتفاقية على أي طرف من الأطراف المتنازعة قتل قوات العدو في
حالة توقفهم عن القتال بسبب ما يكون قد أصابهم من المرض أو الجروح أو
بسبب أي نوع من أنواع العجز البدني والعقلي أو كنتيجة لإلقائهم السلاح
بإرادتهم.
- الحق في عدم احتجاز الأسير في معسكرات أو في
مناطق قريبة من العمليات العسكرية، ومؤدي ذلك، أن الدولة العدو التي
يقع الأسرى في قبضتها عليها التزام بترحيلهم في أسرع وقت ممكن إلى
مناطق آمنة، وعليها كذلك أن تراعي إتمام عملية الترحيل هذه بطريقة
إنسانية وأن تمدهم بوسائل الإعاشة والرعاية الصحية اللازمة.
- كذلك، فإن من حقوق الأسير، الاحتفاظ بمتعلقاته
الشخصية وعدم الاستيلاء عليها أو اعتبارها من غنائم الحرب، ويدخل ضمن
هذه المتعلقات الشخصية: (النقود والأشياء الثمينة)
- الحق في عدم تجريد الأسير من العلامات أو
الشارات الخاصة برتبته وجنسيته ونياشينه، وكل ما قد يكون ذا قيمة خاصة
بالنسبة إليه.
- كما يثبت للأسير عند وقوعه في الأسر الحق في
فرض الإجابة عن أي أسئلة قد توجه إليه من جانب السلطات التابعة لقوات
العدو، طالما أن هذه الأسئلة لا تتعلق باسمه الكامل أو برتبته العسكرية
أو بتاريخ ميلاده. ويثبت للأسير هذا الحق حتى ولو كانت المعلومات
المطلوبة منه لا تنطوي على أي ضرر بأمن دولته، وفي جميع الأحوال، ليس
هناك ما يسمح بممارسة أي نوع من أنواع التهديد أو الإهانة ضد الأسير
الذي يصر على رفض الإجابة عن الأسئلة التي توجه إليه.
- وحق الأسير في أن يعامل طيلة فترة بقائه في
الأسر معاملة إنسانية. ومن ذلك مثلاً، أنه يحظر على الدولة المعادية
القيام بأي عمل يتسبب عنه موت أي أسير أو تعريض حياته وصحته للخطر.
- الحق في احترام الشرف والشخصية، بمعنى إلزام
الدولة المعادية التي وقع الأسير في قبضتها، بعدم المساس بمقتضيات
الاحترام والواجب لأشخاص الأسرى وشرفهم، وبأن تعامل النساء المعاملة
الإنسانية المناسبة التي تقتضيها الظروف الخاصة بجنسهن.
- الحق في كفالة التمتع بالرعاية الصحية والطبية،
فالدولة التي تحتجز الأسرى ملزمة في كل الأوقات بتوفير الرعاية في حدود
الإمكانيات.
- الحق في المساواة في المعاملة وبدون أدنى
تمييز لأسباب تتعلق باعتبارات خاصة بالنوع أو الجنس أو الرأي السياسي
أو المعتقد الديني.
- كما يدخل في نطاق الحقوق التي أقرتها اتفاقية
جنيف الثالثة لعام 1949 والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بشأن
أسرى الحرب، حق الأسرى في ممارسة الشعائر الدينية، وهي من الحقوق التي
تلتزم الدولة المعادية بوجوب احترامه وإتاحة الفرصة للتمتع به بحرية
كاملة.
- الحق في الاتصال بالخارج، وبصفة خاصة حق
الأسرى في الاتصال بذويهم وأهاليهم، كما يندرج ضمن هذا الحق أيضاً حق
الأسير في تلقي الرسائل والطرود الفردية والجماعية التي ترسل إليه سواء
من أهله أو من أية جهة أخرى في الخارج.
على أهم الحقوق التي تثبت للأسير منذ لحظة وقوعه
في الأسر حقه في الإفراج عنه وإطلاق سراحه أو إنهاء أسره، ويأخذ
الإفراج عن الأسرى صوراً عدة:
أولاً: الإفراج عن الأسير مقابل وعد بالا يعود
إلى حمل السلاح مرة ثانية ضد الدولة الحاجزة.
ثانياً: الإفراج لاعتبارات صحية فالدولة الحاجزة
ملزمة في جميع الأحوال بالإفراج الفوري عن الأسرى المصابين بأمراض
شديدة أو بجروح خطيرة، وذلك بعد أن توفر لهم العناية الطبية التي
تمكنهم من تحمل عناء السفر ومشقته.
ثالثاً: الصورة المألوفة من الإفراج عن الأسرى
ونعني بها حالة الإفراج عنهم ثور انتهاء العمليات القتالية، ويسرى
التزام الدول المتقاتلة بوجوب الإفراج النهائي عن الأسرى فور الانتهاء
من العمليات القتالية الفعلية، بصرف النظر عما إذا كان لدى الدولة أو
الدول التي ينتمي إليها هؤلاء الأسرى، أسرى تابعون للدولة الحاجزة.
رابعاً: الوضع القانوني لغير المقاتلين في ظلم
النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
جاء في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
بأحكام تفصيلية لغرض حماية السكان المدنيين وغير المقاتلين خلال
المنازعات الدولية المسلحة، وتم أخذ هذه الأحكام من اتفاقية جنيف
الرابعة عام 1949 والقسمين الثاني والثالث من التعليمات الملحقة
باتفاقيات لاهاي الخاصة بقوانين وأعراف الحرب البرية عام 1899 وعام
1907، وقد حددت اتفاقية جنيف الرابعة الأشخاص المحميون من الأشخاص
المدنيين غير المقاتلين بأنهم: (الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في لحظة ما
وفي أي ظرف كيفما كان، عند قيام حرب أو احتلال، في أيدي إحدى الأطراف
المتحاربة أو دولة محتلة ليسوا من مواطنيها).
وتأتي التصرفات التي تقع ضد السكان المدنيين غير
المقاتلين يعد خرقاً لأحكام اتفاقية جنيف الرابعة، وتشكل جرائم تثير
المسئولية الجنائية طبقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وقد أورد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية عدد من الجرائم الخطيرة التي تقع ضد المدنين غير المقاتلين دون
أن تشمل كافة الجرائم، فهنالك جرائم كثيرة ترتكب ضد المدنيين، مثل
تجويع الشعب المحتل، فرض رسوم أو ضرائب مفرطة، تخفيض قيمة العملة أو
الإصدار غير القانوني لها.
إلا سنقتصر في هذه الدراسة على ذكر الجرائم التي
ترتكب ضد المدنيين غير المقاتلين الواردة في النظام الأساسي للمحكمة
الجنائية الدولية.
أولاً: القتل العمد
يعني القتل العمد، بهذا الشأن أي شكل من أشكال
إزهاق الروح غير ناجم عن حكم قانوني صادر بالإعداد من محكمة مختصة طبقاً
لنصوص اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949، والقتل العمد للأشخاص المحمين
أمر محرم سواء كان فردياً أو جماعياً، فبينما يكون القتل الفردي إنكار
لحق الحياة على الفرد، تأتي الإبادة إنكاراً لحق الحياة على جماعية
معينة، وهذا أمر أكدته اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
ثانياً: المعاملة اللاإنسانية والتعذيب
ضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 للمدنين خلال المنازعات المسلحة،
معاملة إنسانية تؤمن لهم حماية الحقوق والحريات الأساسية، وباستقراء
النص الوارد في النظام الأساسي واتفاقية جنيف يلوح لنا أن تلك المقاصد
جاءت لتشكل مبرر وجودها، إذ أن أغلب النصوص جاءت لتحفظ للإنسان حقه في
الحياة، في السلامة البدنية وفي الحرية وفي الملكية والتنقل... الخ.
وقد تضمنت اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 حقوقاً
طبيعية لا تتعرض لأي انتهاك مهما كانت المبررات، ليتوجها التزام أساسي
وهو ضمان معاملة المدنيين (معاملة إنسانية في كافة الأحوال) ذلك
الالتزام المقتبس من تعليمات لاهاي الملحقة باتفاقية لاهاي الرابعة عام
1907 ومن اتفاقيات جنيف عام 1929، ويجب أن تفهم هنا عبارة معاملة
إنسانية بمعناها الأعم الشامل لتشمل كافة مظاهر حياة الإنسان.
ولغرض ضمان معاملة إنسانية للأشخاص المحميين،
ينبني مراعاة واحترام المبادئ الواردة في المادة رقم 27 من جهة، كما
يستلزم الامتناع عن إتيان التصرفات التي تتسم بالطابع اللاإنساني والتي
وردت في المواد رقم 32، 31، من جهة أخرى.
تتجسد المعاملة الإنسانية باحترام الحقوق
العائلية، ويعني احترام الحقوق العائلية، الامتناع عن أي تصرف يؤدي إلى
تفكيك الروابط العائلية وإفناء وحدة الأسرة التي هي الوحدة الطبيعية
الأساسية للمجتمع، ويتجسد أيضاً باحترام المعتقدات الدينية وممارستها
لأن احترام المعتقدات الدينية يعد جزءاً متمماً لحرية الفكر، إذ ينطوي
على الحرية في الاعتقاد وعدم الاعتقاد وعلى حرية الشخص في تغيير دينه
أو معتقده.
وبذلك يتجسد ضمان معاملة إنسانية للأشخاص
المحميين في احترام كافة الحقوق الأساسية اللصيقة بالكائن الإنساني، أو
بمعنى آخر احترام الوجوه المادية والمعنوية لشخصه، والتي ضمنت في نصوص
عديدة من اتفاقية جنيف الرابعة.
والمعاملة الإنسانية تستلزم أيضاً معاملة خاصة
للنساء تبررها اعتبارات عديدة، منها تعرض المرأة خلال الحرب العالمية
الثانية وحروب جمهورية يوغسلافيا السابقة ورواندا إلى شتى ضروب
الاعتداء المشين على شرفها وكرامتها الإنسانية، كالاغتصاب والمعاملات
القاسية وإدخال النساء في المباغي الإجبارية... الخ. وكان هذا من جملة
العوامل الرئيسة التي حفزت مؤتمر جنيف الدبلوماسي عام 1949 لإفراد
معاملة خاصة للنساء.
ثالثاً: التسبب عمداً في إحداث آلام شديدة أو
أضرار خطيرة للجسم أو الصحة
وتشكل هذه التصرفات اعتداءاً صارخاً على شخص
الإنسان إضافة إلى أنها تنم عن وحشية وهمجية، وتمارس بباعث أو بدون
باعث، فقد تمارس لأجل التشفي أو الانتقام، أو بدون باعث كمظهر من مظاهر
السادية، ويشمل الحظر في نطاقه الآلام المادية والمعنوية على حد سواء،
إذ لا داعي لتقييد النص إزاء إطلاقه سيما وأن السبب في الآم معنوية حظر
بمواقع أخرى من اتفاقية جنيف الرابعة 1949.
رابعاً: الاعتقال غير القانوني
تعاقب التشريعات الوطنية على التصرفات التي تقضي
إلى مصادرة الحرية الشخصية بصورة غير مشروعة، وتعتبرها من جرائم
القانون العام، وفي الوقت الذي خولت فيه الاتفاقية دولة الاحتلال
اعتقال مواطني الدولة لأسباب أمنية، وكذلك الدولة المحاربة في اعتقال
مواطني العدو أو الأجانب المقيمين على إقليمها لنفس الأسباب، فإن من
الصعوبة بمكان إثبات وقوع هذه الجريمة إزاء السلالات الواسعة التي
منحتها الاتفاقية لتلك الدول، لكن اعتقال سلطات الاحتلال لمواطني
الدولة المحتلة بدوافع يمكن أن يدخل ضمن الخرق الخطير.
خامساً: الترحيل أو النقل غير القانوني
جريمة الترحيل أو النقل غير القانوني جاء
تفصيلها في المادة رقم 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي نصت:
(النقل الإجباري الفردي أو الجماعي، وكذلك ترحيل الأشخاص المحمين من
أراضي محتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو أراضي أية دولة أخرى، محتلة أو
غير محتلة، محظور بغض النظر عن دواعيه لا ترحل دولة الاحتلال أو تنقل
بعض سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها).
وتحوز الفقرة الأولى من المادة أنفة الذكر أهمية
خاصة بهذا الشأن، حينما حظرت النقل أو ترحيل الإجباري للأشخاص المسمين
من الإقليم المحتل، وقد جاء إيراد هذا النص كرد فعل لما تعرض له ملايين
من الناس خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تعرضوا إلى الترحيل الجماعي
بظروف قاسية دون التقيد بأي اعتبار، وعزلوا من عوائلهم ورحلوا خارج
أوطانهم، وقد شمل هذا الترحيل لأسباب عديدة كان أهمها نقلهم إلى مراكز
العمل الإجباري.
والحظر الوارد في الفقرة الأولى جاء بصيغة مطلقة
لا تسمح بأي استثناء رغم القيود الواردة في الفقرة الثانية، فقد جاءت
هذه القيود لمصلحة السكان المدنيين غير المقاتلين وليس غير ذلك، ويمكن
القول بأن الحظر الوارد في الفقرة الأولى قد دخل ضمن القواعد العامة
للقانون الجنائي الدولي، ذلك لأن النص المادة رقم 49 من اتفاقية جنيف
الرابعة جاء مؤكداً في نص المادة الثامنة الفقرة السابعة من النظام
الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتبرت الإبعاد أو النقل غير
المشروعين ضمن جرائم الحرب، واعتبر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية
الدولية تلك التصرفات ضمن التصرفات الإجرامية التي تثير المسئولية
الجنائية.
سادساً: إرغام الشخص المحمي على الخدمة في قوات
الدولة المعادية
إن هذا الخرق الخطير يعتبر أيضاً انتهاكاً لنص
المادة 51 فقرة 1 التي جرمت على دولة الاحتلال إرغام الأشخاص المحميين
على الخدمة في قواتها المسلحة أو الاحتياطية، وعدم ممارسة أي ضغط أو
دعاية بقصد تطوعهم وقد جاء الحظر الوارد في النصوص تأكيداً لمبدأ من
مبادئ قانون الحرب يجرم على دولة الاحتلال إرغام سكان الإقليم المحتل
على حمل السلاح ضد بلدهم، حيث ثبت ذلك في المادة رقم 3 فقرة 2 من
تعليمات لاهاي لعام 1907، عندما نصت على أن: (لا يجوز للدولة المحاربة
إكراه وطني الطرف العادي للاشتراك في العمليات الحربية الموجهة ضد
بلدهم، حتى ولو كانوا في خدمة الدولة المحاربة قبل بدء الحرب. وجاء
تأكيد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 تعرضت لهذا
المبدأ كنتيجة لتعرضه إلى الانتهاك الذي أفضى خلال الحربين العالميتين،
إضافة إلى أنها حرمت ممارسة الدعاية أو أي شكل من أشكال الضغط للتشجيع
على التجنيد الاختياري Enlistment، ولا يمكن أن يرد أي استثناء أو تحفظ
على الحظر المتقدم إزاء إطلاق النص، إذ أن هدفه حماية الوطنين من
التصرفات الإجرامية التي تمارس ضد شعورهم الوطني، أو المحاولات الهادفة
لتشويه وإفساد ولائهم لبلدهم.
سابعاً: الحرمان المتعمد للشخص المحمي من حقه في
محاكمة قانونية
يعتبر توفير الضمانات القضائية التي تحفظ للمتهم
حقوقه في أن تنظر قضيته نظراً عادلاً وأصولياً، من مبادئ العدالة التي
أقرتها الأمم المتمدنة في نظمها قانونية، ونص عليه النظام الأساسي
للمحكمة الجنائية الدولية وتأكد هذا المبدأ في مواقع كثيرة من اتفاقيات
جنيف الأربع حيث اعتبرت إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون محاكمة
سابقة تكفل جميع الضمانات القضائية التي تعتبر في نظر الشعوب المتمدنة
عملاً محظوراً في أي زمان ومكان، كما لا يجوز للمحاكم المختصة في دولة
الاحتلال أن تصدر حكماً إلا بعد محاكمة قانونية.
ويستتبع ذلك وجوب الالتزام بقواعد الإجراءات
الجنائية والمحاكمات، كعدم اللجوء إلى التعذيب أو المعاملات القاسية
لحمل المتهم على الاعتراف أو على الإدلاء بإفادة وإتاحة الفرصة له في
تعيين دفاع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المتهم بريء حتى يثبت العكس.
ثامناً: أخذ الرهائن
يعتبر أخذ الرهائن مصادرة غير مشروعة للحرية
الشخصية، لهذا السبب اعتبر تصرفاً إجرامياً بموجب التشريعات الجنائية
الوطنية المقارنة ويلجأ إلى هذا التصرف في المنازعات المسلحة لتحقيق
أغراض مختلفة، وقد تلجأ إليه دولة الاحتلال لغرض إضعاف روح المقاومة
عند الأهالي، أو لغرض ضمان احترام تشريعات دولة الاحتلال وعدم القيام
بأعمال معادية، أو أن تلجأ إليه دولة طرف في النزاع لغرض ضمان حياة
أشخاص محتجزين عن الطرف المعادي. وجدير بالذكر أن هذا التصرف يعد شكلاً
من أشكال المسؤولية الجماعية، إذ يسأل بموجبه شخص عن ذنب لم يرتكبه أو
يشترك في ارتكابه وقد اعتبرت هذه التصرفات محظورة بموجب النظام الأساسي
للمحكمة الجنائية الدولية واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
تاسعاً: التدمير الشامل للممتلكات أو الاستيلاء
عليها دون ضرورة حربية
تضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
أيضاً جريمتين ترتكب بحق المدنيين غير المقاتلين الجريمة الأولى هي
التدمير غير المشروع للأموال، والجريمة الثانية الاستيلاء غير المشروع
عليها.
1- تدمير الأموال
جرمت الاتفاقية الرابعة تدمير المستشفيات
المدنية وقوافل السيارات وقطارات والبواخر والطائرات المخصصة لنقل
الجرحى والمرضى من المدنيين.
كما جرمت ذات الاتفاقية تدمير أي ممتلكات عقارية
أو منقولة خاصة بالأفراد أو الجماعات، أو للحكومة وغيرها من السلطات
العامة، أو لمنظمات اجتماعية أو تعاونية، إلا إذا كانت العمليات
الحربية تقتضي حتماً ضرورة هذا التخريب، ومما تجدر الإشارة إليه أن
النص الأخير جاء تأكيداً لنص المادة 23 من تعليمات لاهاي الملحقة
باتفاقية لاهاي الرابعة، التي نصت على حظر تدمير أو الاستيلاء على
أموال العدو، ما لم تبرر هذا التدمير أو الاستيلاء مقتضيات الضرورة
الحربية الملحة.
وبالرغم من نص تعليمات لاهاي جاءت مطلقة، إذ قد
يشمل الأموال العامة والخاصة على السواء، إلا أن اتفاقية جنيف الرابعة
جاءت أكثر وضوحاً وشمولاً حينما جرمت تدمير الممتلكات أيا كانت طبيعتها
(منقولة أو عقارية) وسواء كانت أموال خاصة مملوكة لأفراد أو جماعات على
هيئة جمعيات تعاونية أو اجتماعية، أو أموال عامة تعود للسلطات المركزية
أو السلطات المحلية.
2- الاستيلاء غير المشروع
يعتبر الاستيلاء غير المشروع على أموال غير
المقاتلين مهما كانت صفتها عملاً محظوراً طبقاً لقواعد القانون الدولي
العرفي. فقد أشارت إلى تجريمه تعليمات لاهاي، حينما نصت على أن: (سلب
المدن والمواقع، حتى ولو تم الاستيلاء عليها بالهجوم، يعتبر عملاً
محظوراً).
وجاءت اتفاقية جنيف الرابعة لتؤكد هذا الحظر،
وقد جاء هذا الحظر بصيغة مطلقة، وإزاء إطلاقه فإن شموله لا يقتصر على
السلب الذي يقع بمبادرة شخصية من أفراد القوات المسلحة فحسب، بل يشمل
السلب المنظم الذي ملأ تاريخ الحروب الماضية والذي يقع بناء على تفويض
أو أمر صادر من الجهات الرسمية، حيث كانت الغنائم في الماضي تجمع لكي
توزع على أفراد الجيش وتعتبر جزء من مرتباتهم، وبذلك فالنص يلزم
الأطراف المتعاقدة بعدم تفويض أوامر قواتها المسلحة للقيام بأعمال السب،
وهي كذلك ملزمة باتخاذ الإجراءات التشريعية لمنع ومعاقبة أعمال السلب
الفردي.
الخاتمة
وهكذا نحن نخلص إلى القول بأن المادة الثامنة من
النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كانت النص الاتفاقي الذي يعرف
بقدر من التفصيل والشمولية جرائم الحرب والأفعال والمكونة لها والواقعة
على المقاتلين وغير المقاتلين والتي سبق وأكدته ونصت عليه اتفاقية جنيف
الرابعة لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977، وهذه التعاريف
تم الاستفادة منها من قبل في النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا السابقة
ورواندا، وسوف تساهم بلا شك في مجموعها بحماية الأفراد والجماعات
والفئات من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان الأساسية وتكريس مفهوم
العدالة الجنائية الدولية.
جامعة الكويت – كلية الحقوق
الندوة العلمية الرابعة
المحكمة الجنائية الدولية
13 – 14 ديسمبر 2003م دمشق |