أول ما أثار السخرية من (صدام) حين ألقى خطاباً
ارتجالياً في ملعب الكشافة بمنطقة الكرنتينة ببغداد حين بدأ يتلكأ
بكلامه ولم يستطع الربط بين كلماته في جمله اللغوية الركيكة وإذ كان
عدد من الفريق السياسي الحاكم يقفون خلفه بأحد الاحتفالات سنة 1969 كان
المجتمع العراقي يلغي الزمن الذي أتاح لمثل هذا الجاهل صدام أن يصبح
سياسياً عليه!
الذي يملك درجة بسيطة من الفراسة يستطيع أن يعرف
الكثير من تركيبة شخصية (صدام) الناقصة وأول ذلك هو عدم صلاحيته للعمل
في المجال السياسي وكان صدام يعرف ذلك تماماً لذلك فقد استمات بكل طرق
الاحتيال حتى حصل على شهادة الحقوق – بصورة كيفية من إحدى جامعات
العراق – بأوائل سنين السبعينيات سداً لذاك النقص العميق في نفسه التي
لم تفهم من السياسة شيء سوى السلوك الإجرامي كوسيلة لحكم الشعب.
والشهادات التي يدلي بها أناس يعرفون كل شيء عنه من أصله إلى فصله.
فلو تم تطبيق السمات السياسية المطلوبة لصلاحية
أشغال منصب رئيس دولة كما هو متعارف عليه دبلوماسياً لما نال (صدام) أي
درجة تذكر لكن صلافته هي التي جعلت من أعضاء فريقه السياسي أن يقبلوا
بتقدمه عليهم فهم أكثر السياسيين المتطلعين إلى استبداده بجاهلية رأيه.
ولعل المعادلة كانت واضحة منذ النشأة السياسية
الأولى لصدام حيث كان يعتقد أن هذه هي إحدى الفرص الممكن أن تمنحه
راتباً يعين به نفسه بعد أن وصل إلى عمر من الوعي الناقص أن ينظر إلى
مصلحته الشخصية قبل أي شيء آخر وبذاك فإن فطرته المشوهة كانت تحمل شيئاً
من مبادئ الميكافيلية ولكن بطريقة تخجل حتى بند (الغاية تبرر الوسيلة)
التي قالها قديماً ميكافيلي فقد طوّر صدام مفهوم هذا البند وطبقه عملياً
وفقاً لصيغة (أي غاية تبرر أي وسيلة).
لقد نكث صدام حتى بأقرب أعضاء فريقه السياسي
واغتالهم فراداً أو جمعاً لأنه وجد في كل من هؤلاء منافساً له في الحكم
وبذاك فقد برز صدام كـ(رئيس عصابة) من طراز مفضوح فماذا يهمه عما يقال
أو سيقال عنه فقد كان هو الوحيد الذي استفاد أكثر من غيره في اصفافه
السياسي الذي كان يضم على سبيل العجب بعض حملة الشهادات الجامعية ممن
يملكون نفساً لنسبة معقولة من التحاور مع الآخرين لكن صدام لم يكن
يتمتع بمثل هذه الصفات إذا كان المسدس لغته المتواضعة في التحاور مع من
لديه فكرة تناقض أفكاره السقيمة.
لقد كانت استعراضات (صدام) وبوزاته حين كان
نائباً وحين أصبح رئيساً ما يثير الانتباه والسخرية وخصوصاً عنترياته
التي كان يبديها في خطبه المكتوبة أو حمقه الذي كان يبديه نتيجة لحدث
معين يمر به البلد وهذا خلق أزمة فوق أزمات البلد الذي أصبح يحكمه شخص
مثل صدام المفتقر للحدود الأدنى من أصول الدبلوماسية المألوفة في
المجتمعات الحكومية إن صح التعبير بذلك فلقد كانت عنترياته هي الغالبة
في صياغات عباراته إذ مرت فترة طويلة كانت عبارة: (فليخسأ الخاسئون) هي
عبارة ختام أي خطاب له.
لقد تغيرت أمور كثيرة في بلدان العالم خلال
الربع الأخير من القرن العشرين الماضي وأوائل هذا القرن الحادي
والعشرون لكن صدام لم يرغب حتى أن يعرف ذلك فقد بقي تعامله كتعامل
الذئب المفترس مع ضحيته المباغتة! بحيث أبقى صدام العراق في حالة نفير
عام وهاجسه الكبير من كل ذلك كان محصوراً في انطباعه الثابت أن كل
الشعب العراقي هم أعداء له ولنظامه لكنه ومن باب مجاراة مثل هذا
الانطباع إذا كان الأمر كذلك فلماذا عداء الشعب له... أليس هناك سبباً
يمكن التصريح به. أليس صدام هو ذاته الذي سحق كل حقوق الشعب العراقي
بحيث لم يتجرأ ولا محامي واحد في العراق من تقديم دعوى أو توسط لإطلاق
سراح سجين ليس سياسي قد تم إلقاء القبض عليه وأودعوه داخل سجن سياسي.
وإذا لم يكن هناك مفر من كون صدام يحكم بلداً
فيه شعب لكنه لم يفكر أنه لا بد وأن يأتي اليوم الذي سيجبر فيه على
إيقاف سلوك عنترياته التي قد تؤدي بمصيره وكان من أكبر أخطاؤه وهو في
الحكم أنه كان يشعر أن أسلوب الاستمرار بتخويف الشعب سيضمن له راحة
البال حتى من معارضيه بعد أن أطمأن قلبه المريض أن تحويله لعيشة الشعب
العراقي من الرفاهية إلى المجاعة كافٍ لإلهائهم في كيفية استحصال
مستلزمات عيشهم وكم وكم فات صدام أن ألعابه التي كان يطلقها عليه بعض
المرتزقة في مجال الأدب والشعر والفن قد أصبحت موضع سخرية فمثلاً أن
لقب (القائد التاريخي) الذي كان يطلقه عليه أولئك المرتزقة لا يتناسب
من قريب أو بعيد مع تركيبة صدام الجرمية وخيانته لكل ما هو عراقي أصيل
فلقد خان شعبه بنفس القدر الذي خان به وطنه وأمته لكن إعلام دولته
الظالمة والأصوات والأقلام التي استطاع أن يشتري ذممها خارج العراق
كانت على أشد ما تكون لصالح اسمه ونظامه لدرجة أمسى بعض العروبيون
المزيفون لا يستحون من شيء وهم يريدون تعريف شخص صدام إلى الرأي العام
العراقي وهذه أول مفارقة بهذا الحجم المتحدي للأصول أن يعرف فيه
الغرباء المتأثرين بما يقول الإعلام الخارجي غير العراقي أو الداخلي
العراقي الرسمي المزيفان للحقائق ولا يعيرون أي أهمية لتجربة المجتمع
العراقي ذاته مع هذا الحاكم السيء في كل شيء فما فعله (صدام) ضد
العراقيين لم يفعله أي رئيس دولة آخر في العالم ضد شعبه. |