بعد سنوات طويلة من تبنيها سياسة
(الغموض النووي)
والخداع بشأن قدرتها وبرامجها المتطورة من أسلحة الدمار الشامل
والأسلحة النووية، أعلنت إسرائيل يوم 12/10/2003 نفسها كدولة نووية، في
الوقت الذي كشفت فيه وسائل الإعلام الغربية عن اتجاهها لتزويد ثلاث من
غواصاتها بصواريخ حاملة للرؤوس النووية بشكل يعطيها القدرة على ضرب أية
دولة من جيرانها ويعزز هيمنتها النووية على المنطقة، الأمر الذي يطرح
عدة تساؤلات مهمة حول الهدف من الإعلان عن القدرات النووية الإسرائيلية
في الوقت الراهن وتأثير ذلك على التوازن الاستراتيجي في المنطقة
والجهود المبذولة للحد من التسلح فيها، ومدى مصداقية المجتمع الدولي في
التعامل مع هذه القضية وطبيعة التحرك العربي المطلوب.
ففي تطور لافت، كشفت بعض وسائل الإعلام الغربية
الصادرة يوم 12/10/2003 عن تعاون إسرائيلي - أمريكي لتطوير صواريخ
(كروز) الأمريكية
الصنع بهدف تحميلها برؤوس نووية يمكن إطلاقها من الغواصات الإسرائيلية
تجاه أي من دول المنطقة، حيث أكدت صحيفة (لوس
أنجلوس تايمز) الأمريكية أن مسؤولين
إسرائيليين وأمريكيين اعترفوا بالتعاون في تطوير هذه الصواريخ لتكون
صالحة للعمل في الأسطول الإسرائيلي، ونقلت الصحيفة عن هذه المصادر
قولها: إن القدرة على إطلاق صواريخ طويلة المدى من الغواصات سوف يمكن
إسرائيل من استهداف إيران بصورة أسهل في حال قيامها بتطوير أسلحة
نووية، في تهديد ضمني بإمكانية قيام إسرائيل باستخدامها في توجيه ضربة
إجهاضية للمنشآت النووية الإيرانية. كما أكدت صحيفة
(الأوبرزفر) البريطانية يوم
12/10/2003 أن التعاون بين واشنطن وتل أبيب لنشر صواريخ مزودة برؤوس
نووية في غواصات (دولفين)
التي استوردتها الأخيرة من ألمانيا في أواخر التسعينيات، جاء في أعقاب
تهديد إسرائيل بتوجيه ضربات عسكرية لمن وصفتهم بالدول التي ترعى
الإرهاب في الشرق الأوسط، وبعد إعلان سوريا أن من حقها أن تدافع عن
نفسها حيال قيام إسرائيل بقصف أراضيها مجددًا، مشيرة إلى أن
الاستراتيجية العسكرية البحرية لإسرائيل تقضى بنشر إحدى الغواصات
الثلاث التي تمتلكها في الخليج العربي والثانية في البحر المتوسط بينما
تظل الثالثة في وضع استعداد دائم.
ورغم أن إسرائيل كانت معروفة على مدار فترات
طويلة بحيازتها أسلحة نووية، إلا أنها كانت مقيدة في الماضي باتفاق مع
الرئيس الأمريكي السابق (ريتشارد نيكسون)
يتم تجديده مع وصول أي رئيس أمريكي إلى السلطة، ينص على أنه بمقدورها
أن تمضي قدمًا في برنامجها النووي كيف تشاء ما دام أنه يبقى في طي
الكتمان أو ما عرف بسياسة (الغموض النووي).
ورغم اتباعها لهذه السياسة فإنها لم تتمكن من
إخفاء ترسانتها النووية المتطورة، حيث كشفت التقارير الصادرة عن مراكز
الأبحاث الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية أن إسرائيل تعتبر القوة
النووية السادسة في العالم وأنها تمتلك ترسانة كاملة مكونة من نحو 200
رأس نووية متنوعة أو أكثر، ومفاعل نووي عسكري في ديمونة بصحراء النقب،
كما تمتلك كل وسائل إطلاق تلك الرؤوس من طائرات وقاذفات وصواريخ متوسطة
وبعيدة المدى وأخيرًا من الغواصات، وهو ما أكدته صحيفة
(التليجراف)
البريطانية في عددها الصادر يوم 13/10/2003 بقولها:
(إن امتلاك إسرائيل غواصات محملة برؤوس نووية يضعها بين الدول
ذات القدرة على إطلاق أسلحة ذرية من الأرض والبحر والجو)،
مشيرة إلى أن تل أبيب تمتلك بالفعل سادس أكبر ترسانة نووية في العالم
تضم نحو 200 رأس نووية مقارنة ببريطانيا التي تمتلك 185 رأسًا فقط. كما
كشف تقرير بثه تلفزيون (بي. بي. سي)
البريطاني في يونيو الماضي تحت عنوان (سلاح
إسرائيل السري) (رغم الضغوط القوية التي
مارسها اللوبي الصهيوني لمنع إذاعته)، أن إسرائيل تمتلك ما لا يقل عن
200 قنبلة نووية وكميات كبيرة من اليورانيوم البلوتونيوم تسمح لها
بإنتاج 100 قنبلة أخرى، وأكد التقرير أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في
المنطقة التي تمتلك مختلف أنواع أسلحة الدمار الشامل التي تكفي لتدمير
الشرق الأوسط بأكمله ولا تخضع للتفتيش الخارجي أو الرقابة الدولية. كما
تملك إسرائيل مختبرات عسكرية لإنتاج غازات الأعصاب وقنابل جرثومية
وصواريخ مزودة برؤوس كيماوية وغاز الأنثراكس المسبب لمرض الجمرة
الخبيثة القاتل وغاز التوكسين الذي يستخدمه الموساد في عملية
الاغتيالات السرية، طبقًا لتقريرات المركز الدولي للدراسات
الاستراتيجية في لندن. ويعتقد الكثير من الخبراء الأمريكيين
والأوروبيين أن إسرائيل نجحت في إنتاج رؤوس حربية بيولوجية وكيماوية،
وجهزت طائرات (إف 16)
بهذه الأسلحة. ورغم إنكار المسؤولين الإسرائيليين لصحة التقرير الذي
نشرته صحيفة (لوس أنجلوس تايمز)
بشأن تطوير صواريخ كروز - حيث أكد النائب السابق لوزير الدفاع
(أفرايم سنيه) أن
أي شخص لديه فكرة عن هذه الصواريخ يعلم أنه لا يمكن استخدامها لحمل
رؤوس نووية، وهو نفس ما أوضحه (تيد هوتن)
رئيس مؤسسة جينس للأسلحة البحرية في لندن بقوله: (إن
وزن القذيفة النووية سيخل بتوازن الصاروخ مما يؤثر على مدى دقته)
- رغم ذلك فإن تسريب هذا التقرير والاعتراف بأن واشنطن وتل أبيب
تعاونتا في تسليح الأسطول بقدرة نووية يعد أمرًا ذا مغزى - كما ترى
صحيفة الأوبزرفر - ويثير التساؤل حول الأهداف الحقيقية الكامنة خلفه،
والتي من أبرزها ردع إيران وغيرها من القوى الإقليمية عن تطوير برامجها
النووية، وهو الأمر الذي يكاد يجمع عليه المراقبون الغربيون، فعلى سبيل
المثال أكدت صحيفة (التليجراف)
أن تسريب هذه المعلومات يعد مقصودًا ورسالة لإيران بشأن مخاطر طموحاتها
النووية، حيث تعتقد كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أن طهران على
مقربة من امتلاك أسلحة نووية وهو ما يهدد احتكار إسرائيل لهذه الأسلحة
في المنطقة ويخل بالتوازن الاستراتيجي لغير صالحها، كما أكدت مجلة
(دير شبيجل)
الألمانية أن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) أعد خطة مفصلة
لمهاجمة 6 مواقع نووية في إيران أسوة بالهجوم الذي قامت به لتدمير
المفاعل النووي العراقي عام 1981، كما أكدت صحيفة (واشنطن
بوست) يوم 13/10/2003 أن تزويد إسرائيل
غواصاتها بقدرات نووية يعكس قلقها من البرامج النووية لطهران، ويؤكد
استعدادها لشن غارة جوية وقائية ضد المواقع النووية الإيرانية.
كما كشفت الصحف الإسرائيلية عن خطة تعدها حكومة
شارون لقصف هذه المواقع بصواريخ (كروز)
المعدلة والموجهة بالأقمار الصناعية أو من خلال مجموعة من الكوماندوز
التابعة للموساد، ويؤكد ذلك أيضًا تصريحات شارون التي قال فيها :
(إن إيران تشكل أكبر خطر على إسرائيل وإننا
نتعاون مع الولايات المتحدة للحصول على أدق المعلومات).
وكانت الخلافات بين إيران وإسرائيل قد شهدت
تصعيدًا كبيرًا خلال الأيام القليلة الماضية على خلفية التهديدات
المتبادلة بين البلدين، حيث حذر (موشي
يعالون) رئيس الأركان الإسرائيلي يوم
25/9/2003 مما قد يمثله (اقتناء أسلحة غير
تقليدية من قبل دول غير مسؤولة مثل إيران)
مهددًا بأن إسرائيل ستنظر في الخطوات الواجب اتخاذها في حال فشل
المساعي الدولية للحؤول دون حصول طهران على أسلحة نووية ولاسيما أنها
عدو لإسرائيل، وفي المقابل وجهت إيران تحذيرًا قويًا إلى إسرائيل من
مغبة التعرض لمنشآتها النووية، وشدد العميد «رضا برديس« قائد القوات
الجوية على أن إسرائيل لن ترتكب مثل هذا الخطأ لأن الضربة المحتمل أن
تتلقاها من القوات المسلحة الإيرانية ستكون قوية وقاسية إلى حد لا تقوم
لها قائمة بعدها لفترة طويلة.
كما تهدف هذه الخطوة إلى إبراز مدى قوة إسرائيل
لردع جيرانها و(إخضاعهم للاذعان لها)
- على حد تعبير أحد المراقبين - خاصة وأنها تأتي في الوقت الذي تشهد
فيه المنطقة توترات سريعة ومتصاعدة تضعها على حافة الانفجار بعد إقدام
حكومة شارون على ضرب أحد المواقع قرب العاصمة السورية دمشق بزعم أنه
معسكر تدريب (لإرهابيين فلسطينيين)
وتهديدها بتوجيه ضربات أخرى للدول التي ترعى الإرهاب في الشرق الأوسط
من وجهة نظرها، واعتبار جماعات المقاومة الفلسطينية وزعمائها أهدافًا
مشروعة للهجوم الإسرائيلي في أي مكان، وتأكيد سوريا على حقها في الرد
على أي عدوان جديد قد تقوم به إسرائيل ضدها.
وقد أكدت صحيفة (لوس
أنجلوس تايمز) التي سربت المعلومات هذا
المعنى، حيث أوضحت أن اعتراف المسؤولين الأمريكيين بهذا التعاون النووي
مع إسرائيل يهدف إلى إثناء (أعداء إسرائيل)
عن شن أي هجوم وسط التوترات المتفاقمة بسرعة في المنطقة.
فيما أكد البعض أن الأمر كله لا يزيد عن كونه
مجرد تسريبات تستهدف الضغط على النظام الإيراني وردعه عن السعي لامتلاك
أسلحة نووية.
وبصرف النظر عن مدى صحة المعلومات التي سربتها
وسائل الإعلام الغربية بشأن التعاون النووي الأمريكي - الإسرائيلي
وحقيقة الأهداف الكامنة خلفه، فإن هذه القضية تثير عدة ملاحظات مهمة،
أبرزها:
1) أن هذا التعاون
يعكس الازدواجية الواضحة في التعامل الأمريكي مع ملف الأسلحة النووية
في المنطقة، ففي الوقت الذي ضخمت فيه واشنطن من ملف أسلحة الدمار
الشامل العراقية وقدمت العديد من الوثائق المزورة لتبرير الحرب ضده
واحتلاله ثبت بالفعل عدم صحتها، وفي الوقت الذي تتهم فيه إيران بالسعي
لامتلاك برنامج تسلح نووي متطور وتضغط عليها بقوة للتوقيع على
البروتوكول الإضافي لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية والذي يعطي
مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية صلاحيات واسعة في التفتيش على
المنشآت النووية الإيرانية، نجد أنها تدافع صراحة عن حق إسرائيل في
امتلاك مثل هذه الأسلحة لحماية أمنها، بل وتتعاون معها في تطوير
قدراتها النووية.
وتكشف تصريحات المسؤولين الأمريكيين عن هذه
الازدواجية بشكل واضح، فعلى سبيل المثال نقلت صحيفة
(لوس أنجلوس تايمز) عن أحد هؤلاء
المسؤولين قوله: (إننا نتساهل مع الأسلحة
النووية في إسرائيل لنفس السبب الذي نتساهل من أجله مع بريطانيا
وفرنسا، فنحن لا ننظر إليها كتهديد) ويتطابق
هذا الرأي مع رأي وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون السيطرة على
الأسلحة (جون بولتون)
الذي صرح به للصحفيين البريطانيين قبل أسبوع وقال فيه
(إن أمريكا غير مهتمة بأن تعبر لإسرائيل عن
عدم رضاها إزاء تطويرها المستمر للأسلحة النووية وأيضًا لا تمثل
تهديدًا بالنسبة للولايات المتحدة).
وقد علقت الصحيفة على هذه التصريحات مؤكدة أنها
تعكس مدى عدم اهتمام إدارة بوش حتى بإخفاء مساعدة أمريكا وتشجيعها
للبرنامج النووي الإسرائيلي. الأمر الذي دفع حتى الرئيس الفرنسي شيراك
إلى الشكوى من عجز المجتمع الدولي عن مقاومة (محور
بوش - شارون)
والذي يستهدف في الأساس إعادة رسم هذه المنطقة وفقًا لسيناريوهات محددة.
واللافت أن هذه الازدواجية لا تقترن بالموقف
الأمريكي فحسب، بل تعكس أيضًا مواقف العديد من القوى الدولية الأخرى،
ففي الوقت الذي أقرت فيه دول الاتحاد الأوروبي المبدأ الأمريكي الذي
يرى أن استخدام القوة قد يكون ضروريًا حين تفشل الدبلوماسية في معالجة
التهديدات الناجمة عن أسلحة الدمار الشامل وهددت بتعليق الحوار مع
طهران إذا لم توقع على البروتوكول الإضافي، فإنها تجاهلت البرنامج
النووي الإسرائيلي بل إنها استثنتها من الخطة الأوروبية الموحدة التي
تبنتها مؤخرًا لمواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل في دول المنطقة التي
تحتفظ بهذه الأسلحة أو التي هناك شكوك حول محاولاتها تطوير هذه
الأسلحة، رغم أنها حددت دولاً مثل إيران وسوريا وليبيا بالاسم فحتى
موقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفسه اتسم بهذه الازدواجية، ففي
الوقت الذي رفضت فيه الوكالة التصويت على مشروع قرار تقدمت به الدول
العربية خلال مؤتمرها العام الذي عقد يوم 19/9/2003 ويطالب بتطبيق
ضماناتها على جميع المنشآت والمواد النووية في الشرق الأوسط دون
استثناء بما في ذلك المنشآت النووية الإسرائيلية، اتخذت إجراءات مشددة
تجاه طهران بإمهالها حتى 31 أكتوبر الحالي لإثبات أنها لا تحاول إنتاج
أسلحة نووية وإلا واجهت عقوبات دولية.
2) أن هذا الإعلان غير المسبوق عن التعاون
النووي بين إسرائيل والولايات المتحدة من شأنه أن يشعل سباق التسلح
النووي في المنطقة، حيث سيدفع باقي دول المنطقة إلى السعي من أجل
امتلاك هذه الأسلحة بشكل أو بآخر للدفاع عن نفسها وردع أي قوى أخرى
تهددها ، وخاصة في ظل تصاعد الهجمة الأمريكية - الإسرائيلية على دول
المنطقة. كما أكدت بعض التقارير الغربية أن الكشف عن هذا التعاون من
شأنه أن يؤدي إلى تعقيد المجهودات التي تقودها الأمم المتحدة لإقناع
إيران بالكشف الكامل عن برنامجها النووي لأنها أصبحت في مرمى الاستهداف
المباشر من جانب الدولتين.
3) أن هذا التعاون من شأنه أن يعمق من الخلل
القائم أصلاً في التوازن الاستراتيجي في المنطقة لصالح إسرائيل، ويعزز
من هيمنتها على مجمل الأوضاع بها وخاصة في ظل غياب أي تنسيق دفاعي عربي
أو استراتيجية عربية واضحة للتعامل مع هذا الوضع. وهو ما يشكل تهديدًا
مباشرًا ليس فقط للأمن القومي العربي بل لمستقبل المنطقة ووجودها ذاته.
وعمومًا فإن الإعلان عن هذا التعاون الأمريكي - الإسرائيلي في المجال
النووي في هذا الوقت تحديدًا إنما يمثل رسالة قوية لدول المنطقة
بالخضوع لإملاءات البلدين، ويكشف عن الرغبة الحقيقية لمحور «بوش -
شارون« في تعزيز الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، وهو ما يتطلب تحركًا
عربيًا جادًا لإقناع المجتمع الدولي بضرورة الضغط على إسرائيل بوقف
برامجها التسلحية، وإخضاع أنشطتها النووية لرقابة الوكالة الدولية
باعتبار أن ذلك هو الأساس لنجاح أية جهود لمعالجة ملف أسلحة الدمار
الشامل في المنطقة، وإلا فإن عليها البحث في الوسائل التي يمكن من
خلالها أن تقلص الخلل القائم في موازين القوى في المنطقة بتبني الوسائل
الممكنة. |