سواء أكانت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ذريعة
لتنفذ أميركا مشروعها الجديد في المنطقة, أم أنها كانت تخطط لإعادة رسم
الخريطة السياسية للمنطقة قبل التفجيرات، فإن مجريات الأحداث تشير إلى
أن الحزب الجمهوري الأميركي ماض في تنفيذ مشروع النظام العالمي الجديد
الذي بشر به الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش بعد انهيار الاتحاد
السوفياتي.
وإذا كانت هزيمة بوش الأب في الانتخابات
الرئاسية حالت دون تحقيق حلمه، فها هو الابن يمضي على خطى والده أو
بالأحرى يمضي في تنفيذ مشروع حزبه الذي تأخر ثمانية أعوام نتيجة فوز
الحزب الديمقراطي بالسلطة.
إعادة الخريطة السياسية للمنطقة هو المشروع
المصغر للنظام العالمي الجديد الذي بشر به بوش الأب, ومن أبرز معالمه
الهيمنة على ثروات المنطقة, ولكن بشكل جذاب ومغر وهو إرساء دعائم
الديمقراطية فيها.
وبمعنى آخر فإن أميركا التي دعمت حكومات المنطقة
لعدة عقود بكل ما أوتيت من قوة وتتهمها حاليا بالاستبداد والدكتاتورية،
ترى أن مفعول هذه الأنظمة قد انتهى ولم تعد توفر مصالحها, وتتصور أن
شعوب المنطقة ضاقت ذرعا بحكوماتها, لذلك ستتعاطف مع كل من يأتي
لإنقاذها بل ستنقاد إليه وتسلم له مقاليد أمورها وثرواتها.
موقف الشيعة من السيناريو الأميركي تدهور
العلاقات السعودية الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول يوحي بأن
الحزب الجمهوري غيّر نظرته للمسلمين السنة, فلم يعد ينظر إليهم على
أنهم حلفاءه في مشاريعه.
وبما أنه لا يستطيع فرض الثقافة الغربية على
شعوب المنطقة باعتبارها تتعارض من عدة أوجه مع المبدأ الذي يعتنقونه,
لذلك عليه أن يجد فكرا ومنهجا إسلاميا آخر يمكنه أن ينسجم معه, فوقع
خياره على الشيعة.
وقد استغلت الإدارة الأميركية الظلم والقمع الذي
مارسه صدام طوال حكمه ضد الشيعة, وفي ظنها أن الشيعة سيتلقفون المشروع
الأميركي دون نقاش.
ويمكننا أن نستوحي من تصريحات المسؤولين
الأميركيين توجههم الجديد, فعلى سبيل المثال دعا كولن باول خلال زيارته
الأخيرة لبغداد دول المنطقة إلى اتخاذ العراق نموذجا سياسيا لها.
ولم يكن اختيار إدارة البيت الأبيض للشيعة عبثا,
فبالإضافة إلى العامل الذي أسلفناه فإن المذهب الشيعي يحمل في ذاته
مؤهلات الانسجام مع الشكل الظاهري للمشروع الأميركي (إرساء دعائم
الديمقراطية). فكما هو معروف أن علماء الشيعة لم يغلقوا باب الاجتهاد,
وقد أثمر هذا المبدأ لدى الشيعة تعددية في التيارات الفكرية والسياسية
في الطائفة الشيعية, ينتهي كل واحد منها إلى مرجعية معروفة.
غير أن الإدارة الأميركية ليس بوسعها التعاطي مع
كافة المرجعيات لوجود بون شاسع فيما بينها. وسنتعرف فيما يلي على
مبررات وجود كل مرجعية وتيار لنخلص إلى من لديه الاستعداد للتعامل مع
المشروع الأميركي, وبالتالي يمكن لواشنطن أن تراهن عليه.
السيستانيون
لم يرث المرجع آية الله العظمى السيد علي
السيستاني مرجعية السيد أبي القاسم الخوئي وحسب وإنما ورث اتجاهه
السياسي المحافظ أيضا, غير أن الصمت السياسي بحد ذاته يعد موقفا, وأقل
ما يمكن اعتباره هو عدم تأييد أي طرف سياسي, وحتى سقوط صدام كان
السيستاني مرجع الذين لا يرغبون في التدخل في السياسة ليس في العراق
وحسب وإنما في كافة البلدان الإسلامية.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الشيعة المتنفذين في
البلدان الإسلامية سواء كانوا رجال أعمال أو مسؤولين في السلطات يقلدون
المرجع السيستاني, وغالبا ما تكون هناك علاقة حميمة بينهم وبين السلطات
لأنهم يرفضون التدخل في الشؤون السياسية لحكوماتهم.
وأردت بقولي "حتى سقوط صدام" أن المرجع
السيستاني ومن قبله الخوئي ربما اضطرا إلى عدم التدخل في الشؤون
السياسية والاجتماعية نتيجة الكبت الذي مارسته حكومة صدام ضد كافة
مكونات الشعب العراقي, ولكن بعد أن طوى العراق صفحة الحقبة المظلمة في
تاريخه الحديث فليس من المستبعد أن يلعب السيستاني دورا سياسيا, خاصة
إذا تشكلت حكومة ذات أغلبية شيعية.
وقد ظهرت مؤشرات هذا الدور منذ الأيام الأولى
لسقوط بغداد, وذلك حينما قرر السيستاني الاعتكاف في منزله وعدم استقبال
أحد احتجاجا على الفوضى التي عمت المدن العراقية, غير أنه استثنى من
احتجابه الزعيم الكردي مسعود البرزاني فاستقبله في منزله.
كما ظهر مؤشر على استعداد السيستاني للعب
دور سياسي, وذلك عندما أصدر بياناً حول تدوين الدستور العراقي الجديد
أكد فيه أن الأميركيين لا يصلحون لكتابة هذا الدستور.
وتحدو الأميركيون رغبة جامحة في أن يلعب
السيستاني دورا سياسيا محافظا أو إرشاديا في العراق, وذلك ليسدوا
الطريق أمام بعض التنظيمات الشيعية المتشددة, وكذلك ليكونوا في مأمن من
وجود معارضين أو منافسين أقوياء, إذ لا نبالغ إذا قلنا إن نحو نصف شيعة
العراق يقلدون (يتبعون) السيستاني، كما أنه سيحد النفوذ الإيراني في
العراق الأمر الذي طالما رغبت واشنطن في تحقيقه.
التيار الإيراني
يخطئ من يتصور أن التنافس بين قم والنجف على
زعامة الشيعة سيبلغ ذروته مع العهد العراقي الجديد، إذ إن هذا التنافس
حُسم قبل أكثر من عقدين. فبعد مجيء الجمهورية الإسلامية ظهر تيار سياسي
جديد في الطائفة الشيعية, لذلك فإن من كانت تحدوه الرغبة في التغيير
والحركة والعمل السياسي اتبع ولاية الفقيه أو مرجعية الإمام الخميني
آنذاك, ومن كان لا يرغب في التدخل بالسياسة (سواء بداعي الخشية على
مصالحه أو بسبب ظروف البلد الذي يعيش فيه) فإنه اتبع السيستاني.
وتجدر الإشارة إلى أن الأحزاب الموالية لإيران
كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق, تستمد توجهها السياسي من
المعادلة السياسية التي تعيشها المرجعية الإيرانية. وبما أن هذه
المرجعية محكومة بالانسجام مع المستجدات
الدولية والإقليمية, فمجال المناورة لديها محدود للغاية, الأمر الذي
ينعكس على الأحزاب الموالية لها وينعكس بدوره على شعبية هذه الأحزاب.
الشيرازيون
يوالي تيار الشيرازيين المرجع الديني السيد صادق
الشيرازي الذي تولى قيادة التيار قبل عامين بعد وفاة أخيه
سماحة الإمام السيد محمد
الشيرازي الذي أرسى دعائم هذا التيار منذ الستينات. ومع أن هذا التيار
ظهر كرد فعل على المرجعية الشيعية المحافظة -شأنه شأن المرجع الديني
الراحل الإمام الخميني- فإنه يتميز عن التيار الإيراني
بالدعوة إلى الانفتاح السياسي والاقتصادي
والفكري, ولكن ينبغي أن لا يتعارض هذا الانفتاح مع منهج أهل البيت.
ورغم ريادة الشيرازي في الدعوة إلى التجديد
ومواكبة التطور, فإن تياره ليس ذائع الصيت.
ويعزو الموالون لهذا المرجع عدم نفوذهم القوي في
المجتمع الشيعي العالمي إلى الأسباب التالية:
• استخدم المنافسون في بعض الأحيان أساليب
غير أخلاقية من أجل الحد من نفوذه, فقاموا على سبيل المثال بتشويه صورة
هذا المرجع الديني.
• لم يستخدم التيار الأساليب ذاتها نظرا
لتعارضها مع المبدأ الشيعي.
• دعا الشيرازي وأنصاره إلى علاقات مع بعض
الحكومات ولكنهم رفضوا مداهنتها والانصياع لها, الأمر الذي ترفضه أغلب
الحكومات.
غير أن الانفتاح الذي يعيشه العراق في الوقت
الحالي لو استمر, فليس من المستبعد أن يكون هذا التيار هو الأبرز في
الطائفة الشيعية لأنه لم تتوفر له في السابق الأجواء المفتوحة التي
يطرح فيها أفكاره, وكذلك فإن تاريخ التيار خال من المساومات السياسية,
فعلى سبيل المثال لم يتعاون لحد الآن مع الأميركيين. وبالإضافة إلى
الأفكار الجديدة التي يطرحها كنظرية اللاعنف، فإن أنصاره لديهم نشاط
اجتماعي مكثف على صعيد نشر الوعي وتقديم الخدمات.
كما أن التيار يتمتع بعامل آخر من عوامل القوة,
وهو انتشار أنصاره في أغلب دول العالم فأينما وجدت شيعة
فستجد الموالين للشيرازي بينهم.
وتيار الشيرازي يضم العديد من الأجنحة ومراجع
الدين, كمرجعية آية الله السيد محمد تقي المدرسي الموجود حاليا في
العراق, وكذلك آية الله السيد مرتضى القزويني, كما
تؤيد منهاجه العديد من
الأحزاب السياسية كمنظمة العمل وحركة الوفاق والجبهة الوطنية الإسلامية
وحركة الجماهير, ورغم اختلاف المسميات فإن الجميع ينتهج فكر الشيرازي.
حزب الدعوة
رغم عدم وجود أي غبار على التوجه الإسلامي للحزب
وعلى الالتزام الديني لأعضائه فإنه يغلب عليه الطابع البراغماتي, لذا
لا يمكن القول إنه حزب ديني خاصة أن مرجعيته الدينية غير معروفة, فتارة
يدعو للإمام الخميني ومن ثم للمرشد الخامنئي, وتارة إلى الخوئي ومن ثم
إلى السيستاني، وفي الآونة الأخيرة بدأ يروج لأفكار السيد محمد حسين
فضل الله.
فعدم وضوح مرجعية الحزب يبين أن لديه أطروحة
أوسع من حصر العمل السياسي في إطار المرجعية, الأمر الذي يعارضه أغلب
مراجع الشيعة.
ولا شك أن مستقبل الحزب يتوقف بشكل كبير على مدى
تحركه في الوسط الشعبي، ولو استمر في التغيير السريع لمواقفه كما حدث
خلال تأسيس مجلس الحكم العراقي فقد يفاجأ الشارع العراقي بترؤس إبراهيم
جعفري القيادي في الحزب للمجلس بعدما كان يقاطعه.. لو استمر على ذلك
فإن الشعب سيسحب ثقته به.
الصدريون
وهم أنصار السيد مقتدى الصدر الذي تم تهميشه
بشكل متعمد في أي تشكيلة حكومية, لذلك لا ينبغي أن نستغرب إذا اتخذ
مواقف متشددة إزاء قوات الاحتلال ومجلس الحكم.
فتيار الصدر يرى أن أي حزب في مجلس الحكم لا
يمتلك الشعبية التي يمتلكها, وفي الوقت الذي يستأثر فيه أعضاء المجلس
بالسلطة فإنه لم يمنح أي دور فيها. وبالتأكيد فإنه لا يرضى بدور يضاهي
دور الذين تقل شعبيتهم عن شعبيته, من هنا فالخيار الوحيد المتاح لهذا
التيار هو الاستمرار في المعارضة لحين إجراء الانتخابات العامة.
ومن أبرز ما يأخذه منافسو تيار الصدر على التيار
أنه لا يمتلك إستراتيجية واضحة ولا مرجعية كفأة, إذ لم يبلغ مقتدى
الصدر حتى الدرجات الوسطى في العلوم الدينية, وقد أقر هو في أكثر من
مقابلة بأنه ليس مرجعا للشيعة.
المؤهلون لزعامة الشيعة
اتضح مما سبق أن التيارين الإيراني والسيستاني
جربا حظهما في تزعم الطائفة الشيعية وقد انحسم أمرهما منذ سنوات عديدة,
فمن يريد اتباع النظرية الإيرانية فما عليه إلا أن يقلد مرشد الجمهورية
الإسلامية السيد علي خامنئي, ومن لا يريد التدخل في السياسة فعليه
اللجوء إلى المرجعية البارزة في مدينة النجف الأشرف.
كما اتضح أن حزب الدعوة ومقتدى الصدر لم يطرحا
نفسيهما على أنهما يسعيان إلى تزعم الشيعة, فيبقى التيار الوحيد الذي
لم يجرب حظه في مخاطبة الرأي العام الشيعي بحرية مطلقة هو الشيرازي بما
فيه مرجعية المدرسي والأحزاب المنتمية إلى هذين المرجعين. ومن المرجح
أن يلعب هذا التيار دورا بارزا في المستقبل، ليس في العراق وحسب وإنما
على صعيد الطائفة الشيعية برمتها.
* كاتب إيراني |