لم أستغرب أو أفاجأ بما أنجزه الأستاذ جلال
الطالباني خلال ترؤسه الشهر الماضي مجلس الحكم الانتقالي في العراق.
فالطالباني الذي عرفته عن قرب منذ العام 1987،
وقويت علاقتي به في العام 1992، عندما انتخبت عضوا في المجلس التنفيذي
للمؤتمر الوطني العراقي، الذي انبثق عن اجتماع صلاح الدين الموسع،
يتمتع بثقافة عالية وتجربة سياسية نادرة وعلاقات ايجابية واسعة وقدرة
إدارية قل نظيرها، تؤهله لان يلعب دورا هاما في العراق الجديد، ليس
رئيسا لحكومة أو زعيما لحزب، وإنما كمرجع سياسي بامكانه أن يوفق بين
مواقف مختلف الفرقاء، لقدرته على الإمساك بالعصا من الوسط عند مناقشة
القضايا الاستراتيجية العليا، خاصة المختلف عليها، سواء بين الأحزاب
السياسية أو بين الشرائح الاجتماعية، أو حتى بين التكوينات المذهبية
والعرقية في البلاد، والتي ورثت من النظام الشمولي البائد مشاكل
كثيرة،بحاجة إلى الحكمة والدراية والإطلاع وسعة الصدر لحلها.
لقد أبدى الطالباني خلال ترؤسه الشهر الماضي
مجلس الحكم الانتقالي، أعلى درجات الحرص والمسؤولية والوطنية، حقق فيها
بامتياز إنجازات استراتيجية هامة،فتوصل، بالتعاون مع بقية السادة أعضاء
مجلس الحكم الانتقالي، إلى صيغة مكتوبة بشأن نقل السلطة والسيادة إلى
العراقيين ـ وان كنت أتمنى أن تتم مناقشتها بشفافية أكثر ـ وقعها
بالنيابة عنهم مع ممثلي التحالف في العراق،كما خطا خطوات هامة باتجاه
تخفيف حدة، بل إزالة، التوتر الذي كان سائدا بين العراق الجديد وبين
اثنين من أهم واكبر جيرانه وهما إيران وتركيا، بما يلعب دورا في صيانة
استقلال العراق، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية واستقراره ووضع حد
لتسلل الإرهابيين إليه، فيما بذل جهدا كبيرا مع الجارة الشقيقة سورية
كذلك لذات الغرض، إلا أن دور الحرس القديم، الذي لازال يدفع باتجاه
التصعيد والتأزم مع العراق، كان أكثر تأثيرا من جهد العراقيين، على ما
يبدو.
كما أن زيارته لمحافظات الفرات الأوسط، وبالذات
كربلاء المقدسة، ولقائه بالمرجعية الدينية هناك، وزيارته لممثلية
المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي، توكيد آخر من قبله
على احترامه وتقديره للعلم والعلماء وللمرجعية الدينية، التي قال عنها
الطالباني في أكثر من مناسبة، بأنه ليس في العراق من يفكر في تجاوز
آرائها السديدة ومواقفها الوطنية الأصيلة والحريصة، عند مناقشة القضايا
الاستراتيجية العليا، ومن أبرزها قضية نقل السلطة وتدوين
الدستور،الكلام الذي ترجمه الطالباني موقفا عمليا، عندما هرع لزيارة
المرجع السيستاني في مدينة النجف الاشرف ليصغي إلى آرائه، عندما علم
بموقفه المتحفظ من اتفاق نقل السلطة، خاصة في موضوع طريقة تشكيل المجلس
التأسيسي المرتقب.
بالإضافة إلى مسودة مشروع إعادة اعمار وإزهار
مدينتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف الذي تقدم به الطالباني إلى مجلس
الحكم لدراسته وإقراره، ما يؤكد اهتمامه بالجانب الديني والسياحي
الاستراتيجي لهتين المدينتين اللتين تتمتعان بدور تاريخي ووطني، وثقل
ديني ومرجعي وفقهي وعلمي وثقافي وفكري مشهود.
لقد تصرف الطالباني خلال فترة رئاسته لمجلس
الحكم الانتقالي، كعراقي قبل أن يتصرف ككردي، انه تصرف بأعلى درجات
المسؤولية والحرص على وحدة العراق واستقراره وسيادته وحاكمية شعبه، كما
تصرف بما يصون الديمقراطية الجديدة التي بدأنا نشهد ولادتها في العراق
الجديد بعد سقوط نظام صدام حسين الشمولي البائد، فأين الذين يقولون بان
أكراد العراق يتصرفون كانفصاليين، وأنهم ينوون الانفصال في أول فرصة
مناسبة يقتنصونها بسبب ظرف طارئ يمر به العراق، أو ما أشبه ؟.
إن كل ذلك يؤكد مرة أخرى، لكل من ألقى السمع وهو
شهيد، بان أكراد العراق، كغيرهم، سيتصرفون في العراق الجديد كمواطنين
عراقيين، قبل أن يتصرفوا كأكراد، بالرغم من كل سني القهر والقمع التي
مرت عليهم في ظل النظام الشمولي البائد، والتي سحقت كرامتهم، وكادت أن
تفقدهم شعورهم بالمواطنة.
إنهم مندكون بالعراق الواحد المتحد ـ أرضا وشعبا
ـ ولا يريدون الانفصال أبدا، لازالوا يتمتعون بحقوقهم السياسية كاملة،
ولازال الواحد منهم قادر على أن يصل إلى أعلى المراتب السياسية
والإدارية في العاصمة بغداد.
إن المواطن عادة ـ أي مواطن ـ لا يفكر بطريقة
انفصالية ولا يتصرف بما يوحي إلى رغبته في الانفصال عن وطنه الأم، إلا
عندما تعامله السلطة المركزية كمواطن من الدرجة الثانية فما فوق، وهذا
ما كان يتعامل به النظام البائد مع المواطنين الكرد بالدرجة الأولى،
ومع عموم العراقيين بدرجة أو بأخرى، أما إذا تمتع المواطن في بلاده
بكامل حقوقه وبامتياز، فليس عاقلا من يفكر بالانفصال أو يتصرف بما يوحي
إلى ذلك.
وتلك هي هوية العراق الجديد، فكل العراقيين هم
مواطنين من الدرجة الأولى من دون تمييز، ولكل واحد منهم الحق في أن يصل
إلى ما يشاء من مواقع المسؤولية، بالأمانة والكفاءة، ومن خلال صندوق
الاقتراع على قاعدة ـ صوت واحد لمواطن واحد، فليس المهم هوية الزعيم أو
قوميته أو دينه أو مذهبه أو انتماءه الفكري والسياسي، إنما المهم أداءه،
الذي سيثبت به حرصه على أن يتعامل مع العراقيين كشعب واحد،لا يفضل
شريحة على أخرى، ولا يميل إلى جانب تيار على حساب آخر.
في العراق الجديد، سيتمكن كل مواطن من أن يصل
إلى أهدافه الوطنية النبيلة من دون تمييز عرقي أو طائفي أو سياسي، لان
الميزان، صوت المواطن العراقي الذي سيفرزه صندوق الاقتراع على قاعدة ـ
صوت واحد لمواطن واحد.
لقد خدع صدام حسين المعزول، من استخف بعقولهم،
بفكرة تقول، أن في العراق رجل واحد فقط يفكر بطريقة وطنية صحيحة، وهو
الوحيد القادر على صيانة وحدة العراق، ذلك هو الطاغية المعزول، أما
بقية الناس فهم على صنفين، إما جهلة وأميون لا يفهمون شيئا،وبالتالي
فهم سفهاء أو قاصرون بحاجة إلى قيم يدير شؤونهم حتى حين، أو مواطنون من
الدرجة الثانية، لا يحق لهم أن يعيشوا كبقية البشر يتمتعون بحقوقهم كما
يتمتع الآخرون، إلا أن أداء الطالباني اثبت أن العراق أنجب وينجب
الشرفاء من المواطنين الأكفاء، فليس العيب
في نوعية إنجاب الأم العراقية لمثل هذه النماذج الكفوءة، وإنما المشكلة
كانت تكمن في نوع النظام السياسي الذي حكم العراق مدة 35 سنة عجاف،
والذي كان قائما على التمييز العنصري والطائفي البغيض الذي قاد العراق
إلى الهاوية والهلاك،لولا أن تداركته رحمة ربه الكريم المتعال،ليكتشف
العالم بان في العراق سفيه واحد لا يحرص على شئ، كان يجب أن يحجر عليه
في المصح العقلي بدلا من أن يتسنم السلطة ويجلس على كرسي الحكم،ذلك هو
صدام حسين الفار من وجه العدالة.
ومن المؤكد فان الكفاءات لا تنمو أو تظهر للعلن
في ظل الأنظمة الديكتاتورية المستبدة، من دون أن يعني ذلك انعدامها
وعدم وجودها أصلا، وإنا على ثقة تامة، من أن العراق سيشهد ولادة وظهور
زعامات وقيادات وطنية ديمقراطية كفوءة كثيرة، لا زال النظام الشمولي
اختفى من الحياة السياسية، ولا زالت الديمقراطية تنمو وتكبر بالاتجاه
الصحيح يوما بعد آخر.
في العراق الجديد، سنستمع إلى الأقوال، ولكننا
سنهتم أكثر بالأفعال، فالشعارات كثيرة، والشعاراتيون كثر، ولذلك، سوف
لا يهمنا كثيرا ما سيقوله المتنافسون عند صندوق الاقتراع، إنما سننتظر
لنرى ما سيفعلونه عندما يكونون في موقع المسؤولية، قبل أن نطلق الأحكام،
فحملة الشعارات والأفكار والنظريات يمتحنون عادة عند الأداء وليس عند
الحديث والخطاب والكلام، وفي وقت الأفعال وليس في وقت الأقوال، ولذلك
قيل، عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ومن الواضح، فان وقت الامتحان
ينحصر عند الأفعال وليس عند الأقوال، لان من السهل جدا أن يرفع المرء
شعارا ولكن من الصعب جدا أن يتبناه كمشروع عمل حقيقي، خاصة إذا تعارض
في وسط الطريق مع مصالحه الشخصية، أو مصالح حزبه وعشيرته، ما يعني أن
المهم في العراق الجديد، عمل المسؤول وأداءه، وليس قوله وشعاره، فمثلا
إذا ترك المسؤول موقعه عندما تنتهي مدة صلاحيته لأي سبب كان، فهو يثبت
لنا انه ديمقراطي من الدرجة الأولى، أما إذا تشبث بالموقع رغما عن انف
الجميع، ورفض العودة إلى منزله مواطنا عاديا بعد أن تنتهي مهامه، ـ كما
يسعى إلى ذلك بعض أعضاء مجلس الحكم الانتقالي حاليا ـ فسيثبت للجميع
انه ديكتاتوريا من الطراز الرفيع، مهما رفع من شعارات براقة يصم بها
آذاننا، ليس قوله الذي سيكشف لنا عن حقيقته، إنما فعله السيئ وطريقة
تعامله المريضة مع الواقع.
لا ينتفع المواطن العراقي بصلاة الليل التي
يؤديها المسؤول، إذا كان ظالما للعباد، ولا ينتفع بزيه المدني، إذا
كانت مدنيته لعياله وحيفه للناس، ولا ينتفع بربطة عنقه الليبرالية إذا
كانت سلاسل وأغلالا على العباد، ولا ينتفع بعمامة القائد، إذا كانت حبل
مشنقة يعدم فيها حرية الناس ويصلب عليها الديمقراطية، ولا ينتفع بدينه،
إذا كان دينه لأولاده وظلمه للناس، كما لا تنفعه ديمقراطيته، إذا كانت
لأقاربه وعشيرته، وللمواطن السوط والحديد والنار والاستبداد والقتل
والمطاردة.
ولذلك فسر الفقهاء القول المشهور ـ يدوم الحكم
مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم ـ بقولهم، إن كفر الكافر لنفسه وعدله
للناس ـ وهو المطلوب ـ وان إيمان المؤمن لنفسه وظلمه للناس ـ وهو غير
مطلوب، لان فلسفة الحكم هي إقامة العدل والقسط، وان أي شئ آخر يأتي
بالمرتبة الثانية، أما أن يتقدم كل شئ إلى الأمام سوى العدل، ويتراجع
العدل
إلى الخلف أو يتقهقر،فهذا يعني نفي فلسفة
السلطة،وهذا ما لا نريده في العراق الجديد.
العدل أساس الملك، هذه هي القاعدة الاستراتيجية
في العراق الجديد، فمن يرى في نفسه القدرة والكفاءة على تحقيقها فأهلا
وسهلا ويا مرحبا، بغض النظر عن اسمه ورسمه وزيه وقوميته أو أي شئ آخر،
وان الأداء هو الميزان في إثبات ادعائه، وليس الكلام المعسول والشعار
الرنان والجميل الذي تطرب له آذان الناس ويسحر مشاعرهم، والذي يوظفه
الفرقاء عادة لنيل الحضوة عند صندوق الاقتراع، أما من لا يجد في نفسه
القدرة على تحقيق هذه القاعدة، فمن الأفضل له ولعياله وللعراق
والعراقيين أن لا يتقدم الصفوف، ويظل مكانه حيث هو، محترما نفسه وفي
الحديث الشريف ـ العاقل من عرف قدر نفسه ـ و ـ رحم الله امرءا عرف قدر
نفسه.
أما إذا صادف أن اغتر احد بنفسه، وأعجب بقدراته،
فحاول أن يجرب حظه، ونجح في خداع الناس بشعاراته البراقة، ثم تقدم
الصفوف، فسيكبو في أول اختبار عملي للقدرة والكفاءة، لان الأداء سيفضحه
ويكشف عن حقيقة قدراته ومهاراته ونواياه، وعندها سيعزل أو يطرد، غير
مأسوف على اسمه وسمعته ومستقبله السياسي وموقعه الاجتماعي،
لان من لا يحترم نفسه لا يحترمه الآخرون، كما هو معروف، أم ماذا
؟.
[email protected] |