تهدف هذه الورقة إلى مناقشة دور المنظمات
الأهلية العربية، NGOs في التنمية البشرية المستدامة كما أوضحتها
أدبيات وتقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في العالم (UNDP) فما
الذي نقصده بالمنظمات الأهلية وكيف يمكن لها أن تساهم في العملية
التنموية إلى جانب الدولة والقطاع الخاص؟ ثم ما هي المعيقات التي تحول
دون فاعلية العمل الأهلي العربي، وهل تكمن مشكلته بالقوانين التي تحكم
عمله، أو في ارتباطاته الخارجية وسهولة اختراق منظماته من خلال التمويل
الخارجي وفرض أولويات عمله واهتماماته من قبل الجهات الممولة؟
أولاً: محاولة تعريف
يشير مفهوم المنظمات الأهلية غير الحكومية
المعروفة اختصاراً (NGOs) إلى جملة المبادرات الاجتماعية الطوعية التي
تنشط في مجالات مختلفة مثل: الخدمات الاجتماعية والمساعدات الخيرية
وخدمات التعليم والصحة والثقافة إضافة إلى الاهتمام بشؤون البيئة
والتنمية والتدريب المهني وتأهيل النساء وتنمية المجتمعات المحلية
والدفاع عن حقوق الإنسان والطفل وغيرها.
ويتحدد موقع هذه المنظمات بين الدولة من طرف
والقطاع الخاص الهادف للربح من طرف آخر، وتتكون بناء على اهتمام عام
مشترك لتحقيق منافع جمعية، وتتميز بالسمات الخمس التالية:
الطوعية، الاستقلالية، عدم السعي للربح، عدم
السعي إلى الخدمة الشخصية للأعضاء، المشاركة في الشأن العام.
ثانياً: ملامح القطاع الأهلي في العالم العربي
تشير المعطيات المتوفرة إلى وجود 70000 منظمة
أهلية عربية، أي وجود عدد ضخم من المبادرات الشعبية والتي يمكن تصنيفها،
حسب النشاطات التي تقدمها، إلى أربعة أنواع:
أولاً: الجمعيات الخيرية، وتضم مجمل المنظمات
الأهلية التي تعمل في مجال العمل الخيري بشكله التقليدي الذي يعتمد
صيغة مانح وممنوح، تتراوح نسبة الجميعات الخيرية بين 34% من مجمل
المنظمات الأهلية في مصر، وتصل في سورية إلى نسبة 80% في حين تصل في
الخليج العربي إلى 905 وتتراوح بقية النسب في باقي الدول العربية بين
هاتين النسبتين، إلا أنها وبالمتوسط العام الشكل الأساسي لعمل المنظمات
الأهلية العربية.
ثانياً: منظمات الخدمة والرعاية الاجتماعية. وهي
منظمات أهلية تنشط في مجالات اجتماعية عديدة وتقدم خدمات صحية وخدمات
اقتصادية واجتماعية متنوعة كالأطفال والمرأة والمسنين والأسرة وغيرها.
ثالثاً: منظمات التنمية. وهو نوع جديد من منظمات
العمل الأهلي بدأ يتنامى تدريجياً في المجتمعات العربية، يهدف هذا
النمط من الجمعيات الأهلية إلى تحقيق التنمية في إطار مجتمع محلي محدد.
رابعاً: منظمات دفاعية: أي منظمات التأثير
والرأي (Advocacy) ومن أمثلتها منظمات حقوق الإنسان، والدفاع عن المرأة
وحقوقها، ومنظمات حقوق المعاقين، ومنظمات ظهرت مؤخراً تعنى بالدفاع عن
حقوق الأطفال الذين ليس لهم مأوى، إضافة إلى منظمات الدفاع عن البيئة.
خامساً: منظمات ثقافية متنوعة. كالجمعيات
الأدبية واتحادات الكتاب والفنانين وجمعيات الشعر والقصة والرواية...
الخ، إضافة إلى منظمات تأهيل وتدريب ومحو الأمية للكبار وغيرها.
والمشترك بين المنظمات الأهلية السابقة على
اختلاف أنواعها ونشاطاتها أنها غير هادفة للربح أولاً، وهي منظمات غير
حكومية ثانياً، وثالثاً تقوم بمبادرات أهلية وشعبية طوعية لتلبية حاجات
أو مطالب اجتماعية والمشاركة في عملية التنمية.
ثالثاً: الجمعيات الأهلية في سورية (دراسة حالة)
للجمعيات والمنظمات الأهلية في سورية تاريخاً
مديداً. فأول جمعية تأسست في دمشق تعود إلى عام 1880 وهي جمعية ميتم
قريش الخيرية، أي إلى مرحلة ما قبل الاستقلال بفترة طويلة، حيث بدأت
الجمعيات على شكل نشاطات أهلية يقوم بها الناس بدافع ذاتي وعلى أساس
الشعور بالواجب وعمل الخير.
ومع استقلال تطور عمل المنظمات والهيئات الأهلية
تبعاً للتغيرات السياسية والاقتصادية حيث ظهرت تيارات واتجاهات تنادي
بالإصلاح الاجتماعي ووضع أنظمة التكافل الاجتماعي والخدمة الاجتماعية،
وبعد أن وضعت دراسات عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في سورية سنة
1957 بمساعدة فنية من مكتب العمل الدولي، صدر قانون التأمينات
الاجتماعية رقم (92) لعام 1959، ثم تتالت القرارات والمراسيم التي تنظم
مواضيع التأمين الصحي وتأمين الشيخوخة والعجز والوفاة وقواعد إنشاء
مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وبناءً على تلك الأنظمة تم تأسيس العديد من
الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي قام بها الأهالي وأزداد عددها وتعددت
أدوارها ووظائفها.
أما المرحلة الأخيرة لتطور الجمعيات الأهلية،
فهي مرحلة الإشراف. حيث كلفت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بالإشراف
على مختلف نشاطات وأعمال الجمعيات والمؤسسات الخيرية وتقديم الدعم
المالي والتوجيه لها. وفي عام 1974 تحددت أنظمة الجمعيات ضمن إطار عام
يشمل ثلاثة عشر بنداً يتوجب على الجمعيات الأهلية العمل بموجبها.
وباعتبار أن الجمعيات في سورية تتصف عموماً
بطابع رسمي أو شبه رسمي، فإن العودة إلى الإحصاءات الرسمية لوزارة
الشؤون الاجتماعية والعمل تبين أن عدد الجمعيات بلغ 4089 جمعية سنة
1994 غير أن هذا الرقم يضم كافة الجمعيات والمؤسسات الحكومية وشبه
الحكومية والأهلية، في حين بلغ عدد الجمعيات الأهلية بالمعنى الحصري
والتي تملك استقلال نسبي عن الدولة 625 جمعية سنة 1998 وتنقسم حسب نوع
النشاط والأهداف إلى خمس مجموعات:
أولاً: مجموعة الجمعيات الخيرية ويبلغ عددها 240
جمعية وتضم جمعيات المساعدة الخيرية والجمعيات التعليمية الخيرية.
ثانياً: مجموعة الجمعيات الثقافية ويبلغ عددها
127 جمعية وتضم الجمعيات الفنية والأدبية والجمعيات العلمية.
ثالثاً: مجموعة الجمعيات والروابط والاتحادات
الاجتماعية والنوادي ويبلغ عددها 203 جمعية وتضم: جمعيات كفالة الأيتام،
جمعيات حضانة أطفال الموظفات، جمعيات رعاية المسنين، جمعيات رعاية
المعوقين جسدياً والمكفوفين والمتخلفين عقلياً والصم والبكم والنوادي
الريفية ورعاية الأطفال.
رابعاً: مجموعة الجمعيات الصحية ويبلغ عددها 26
جمعية.
خامساً: مجموعة الجمعيات التعاونية التي تشرف
عليها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ويبلغ عددها 29 جمعية.
ولعل هيئات الرعاية الاجتماعية هي من أكثر
المنظمات الأهلية إسهاماً في عملية التنمية البشرية نظراً لما تقدمه في
حالة سورية من تأهيل وتدريب وخدمات لفئتي الأطفال والنساء، لكن هذه
المساهمة الإيجابية هي أحد وجوه العمل الأهلي في سورية الذي يعاني جملة
من المشكلات التنظيمية والقانونية، كما يشكو من قلة المشاركة وانخفاض
عدد المتطوعين وخصوصاً بين فئات الشباب. وهذا ما دفع عدد من أعضاء مجلس
الشعب (البرلمان) السوري للمطالبة بإعادة النظر في قوانين تشكيل هذه
الجمعيات وتسهيل الترخيص لها بهدف التخفيف من الآثار السلبية الناجمة
عن التطورات الاقتصادية وتعميق المشاركة الشعبية في التنمية، هذا إلى
جانب الصعوبات المالية التي تواجهها هذه الجمعيات.
وتبقى مساهمة التنظيمات الأهلية في سورية في
عملية التنمية البشرية على أهميتها اقل من المأمول وتحتاج إلى المزيد
من التنسيق والتعاون بين كافة الجهات المعنية بالشأن التنموي، ويحتاج
تفعيلها إلى مجموعة إجراءات نعتقد أن أهمها هو:
1- تحديث القوانين الناظمة للعمل الأهلي وبما
يتوافق مع المستجدات الاقتصادية والاجتماعية ويكفل للمنظمات الأهلية
القائمة على المشاركة والتطوع استقلالاً واسعاً في الإدارة والتنظيم
ورسم الاستراتيجيات.
2- توفير الكفاءات البشرية لهذه المنظمات
وتمكينها من تحقيق أهدافها في إطار من الشفافية والوضوح وخصوصاً فيما
يتعلق بالموارد والتمويل وتوزيع الخدمات على المستفيدين لتجسيد
مشاركتها الفعلية في عملية التنمية.
3- التخلص من المعوقات والمشكلات التي تواجه عمل
التنظيمات الأهلية كما بينت المعطيات الميدانية وفي أهمها محاولات
البعض تحقيق الاستفادة الشخصية وتفشي ظاهرة الشللية والمحاباة في تنفيذ
الأعمال عبر الاستعانة بكوادر غير كفؤة اعتماداً على المعارف الشخصية
والقرابة المغلقة التي يجب عدم مناقشتها مع الغير، إضافة إلى ما لمسناه
من اعتبار أعمال الجمعيات من الأسرار.
رابعاً: دور المنظمات الأهلية في معالجة الفقر
نظراً للطبيعة التركيبية والمعقدة لظاهرة الفقر
إن على مستوى الأسباب أو على مستوى النتائج، فإن أي معالجة أو استجابة
فعلية لا بد وأن تكون على مستوى خطورة الظاهرة، لهذا فإنه لا غنى من
الناحية المبدئية عن تضافر كل الجهود المعنية بالشأن التنموي في معالجة
كهذه، سواء اتصلت بمؤسسات الدولة وخططها أو تعلقت بنشاط المنظمات
الأهلية أو بمساهمات القطاع الخاص.
وسنقصر اهتمامنا في هذه الدراسة على الدور الذي
تقوم به المنظمات الأهلية العربية في مواجهة مشكلة الفقر في مختلف
مراحل المعالجة التي تبدأ بالتشخيص والتوصيف وصولاً إلى تحليل الأسباب
وتحديد المعالجات الملائمة وتنفيذها.
وكما لاحظنا عند بحث ملامح القطاع الأهلي في
العالم العربي، أن السمة الأساسية لمعظم المنظمات الأهلية العاملة في
البلدان العربية هي العمل من أجل تحقيق أهداف خيرية تستهدف مساعدة
الفقراء بشكل أساسي.
ففي حالة مصر حيث تصل نسبة السكان تحت خط الفقر
إلى 25% في الريف و23% عموماً، تتعاون الحكومة مع قطاع كبير من
الجمعيات الأهلية في تنفيذ مشروع الأسر المنتجة، وهو مشروع اجتماعي له
صبغة اقتصادية ويهدف إلى استثمار جهود الأسرة بتحويل المنزل إلى وحدة
إنتاج تعين أفرادها على زيادة الدخل واستيعاب العمالة المعطلة، ويتم
تنفيذ المشروع من خلال آلاف الجمعيات المنتشرة في أنحاء البلاد تحت اسم
الجمعية العامة للتدريب المهني والأسر المنتجة) تقوم هذه المنظمة
بإقراض المواطنين لإقامة مشروعاتهم وتوفر لهم المعدات والخامات ورأس
المال، ثم تقوم بتسويق منتجاتهم محلياً وعالمياً، وكما توضح دراسة (أماني
قنديل) تطور هذه المشروع بشكل كبير وحصل على معونات ضخمة من داخل مصر
وخارجها، وبعد أن كان الأسرة المستفيدة حوالي 7001 اسرة فقط وصل عام
1990 إلى أكثر من ربع مليون أسرة وثمن إلى حوالي مليون أسرة سنة 1993م.
في حين يشكل (المشروع الوطني لتطوير الحرف
اليدوية التقليدية) نموذجاً آخر من الأردن، تشرف على تنفيذه مؤسسة
الملكة نور، والتي أنشئت عام 1985 والهدف منه توفير فرص عمل لمواطنين
من ذوي الدخل المحدود مع إحياء الحرف اليدوية والتقليدية. وتأخذ
المؤسسة على عاتقها تسويق منتجات هذا المشروع ملياً وعالمياً، وقد بلغ
عدد المستفيدين من خدماته عام 1992م حوالي 2000 ألف شخص من بينهم 740
سيدة في مختلف أنحاء الأردن.
أما النموذج الثالث فهو من اليمن، حيث تأسست
الجمعية الاجتماعية لتنمية الأسرة عام 1990 وتوجهت بشكل أساسي نحو
الفقراء وسكان الصفيح، اعتمدت المنظمة مساعدة الفقراء من خلال إنشاء
مركز للتأهيل والتدريب أسهمت في تمويل نشاطه منظمات دولية مثل (أوكسفام)
حيث تقوم بتنفيذ برامج تأهيلية وتدريبية لإعداد هذه الشريحة للعمل، كما
قامت بمساعدتهم على الالتحاق بأعمال مختلفة تحتاجها سوق العمل.
توضح النماذج السابقة كفاءة المعالجات غير
التقليدية التي تقوم بها المنظمات الأهلية العاملة في مجال التنمية
لمواجهة مشكلة الفقر، ويمكن لها أن تكون نموذجاً يحتذى لتفعيل عمل بقية
الجمعيات والمنظمات الأهلية التي مازالت تمارس العمل الخيري بشكل
التقليدي.
كما أن نجاح التجارب السابقة يمكن أن يكون عاملاً
محفزاً لبقية المنظمات العاملة في المجال الاجتماعي والتنموي لإدخال
الكثير من معايير الكفاءة والمردودية الاقتصادية والاجتماعية لتقييم
حصيلة نشاطاتها وتوجيه إمكانياتها ومواردها للمساهمة في مواجهة ظاهرة
الفقر بوصفها تحد تنموي لا بد من مواجهته بكافة تمظهراته المتعلقة
بالأسباب والآليات، والنتائج انطلاقاً من تصور استراتيجي يكفل
الاستمرارية بين كافة الجهات المهتمة بهذه الظاهرة ومتعلقاتها.
نظرة نقدية: الصعوبات التي تواجه المنظمات
الأهلية
تواجه المنظمات الأهلية العربية في إطار تعزيز
دورها التنموي الراهن والمستقبلي جملة من الصعوبات والعوائق تحول دون
أدائها لرسالتها المجتمعية أو تعرقل قيامها بالوظائف والأدوار المأمولة
منها، ولعل قضية استقلال المنظمات الأهلية، سواء بالنسبة لعلاقتها
بالدولة وبالقوانين التي تنظم نشاطاتها، او بالنسبة لاستقلالها إزاء
مصادر التمويل والأجنبية منها بشكل خاص، وما تثيره من تحفظات وهواجس،
في طليعة الصعوبات والمشكلات التي تواجه عمل هذه المنظمات.
تنجم مشكلة الاستقلالية في وجهها الأول المرتبط
بالدولة عن فهم ملتبس لمكانة ودور ووظائف التنظيمات الأهلية في المجتمع،
وما يعزز هذا الإشكال ويزيد من سوء الفهم المحتمل، الفصل المبالغ فيه –
في فهم التنمية الشاملة – بين الجانب الاقتصادي والاجتماعي من جهة،
وبين الجانب السياسي من جهة أخرى، بما يشكله من مكون مفصلي وحاسم في
إنجاح الخطط التنموية أو في إخفاقها.
وفي هذا السياق يوجه العديد من الباحثين
انتقادات متزايدة لنزع فكرة التسييس والابتعاد عن كل ما يتصل بالسياسة
في عمل المنظمات الأهلية، ومع أن انخراط تنظيمات العمل الأهلي في العمل
السياسي المباشر ليس ضرورياً وربما لا يكن مطلوباً على أي حال، لكن
العمل في ميدان التنمية والانخراط في القضايا التي تهتم بالشأن العام
هي أعمال سياسية بالمعنى الواسع والمطلوب إذا ما أردنا للنشاط الأهلي
أن يتجاوز القيام بأدوار تنفيذية وفنية بحتة باتجاه المشاركة في رسم
السياسات التنموية والإشراف على سيرها وتنفيذها.
في حين يرتبط استقلال هيئات ومنظمات العمل
الأهلي في وجهها الآخر بمصادر التمويل وما ينجم عنه من التزامات
وتدخلات قد تضعف استقلالية القرار داخل هذه المنظمات وتجعلها ملزمة
بتبني السياسات والخطط والأولويات المقترحة من الجهات المانحة والممولة
لنشاطاتها.
يأخذ بعض الباحثين على العديد من المنظمات
الأهلية، ارتباط التدفق الأجنبي للتمويل والمساعدات بمجالات معينة دون
غيرها، حيث ترتبط هذه المجالات بأولويات المانح الأجنبي لا بحاجات
المجتمع المحلي، من ذلك مثلاً تدفق الملايين من الدولارات في السنوات
القليلة الماضية لدعم مشروعات البيئة دون ارتباط ذلك بقضايا التنمية
التي تهم المجتمعات المحلية.
ورغم ما للبيئة من أهمية فإن تواجدها الكثيف
المتزامن مع اتساع مساحات الفقر والفقراء يثير الكثير من التحفظات
ويحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر.
تصف (مايلا بخاش) المسؤولة التنفيذية في الحركة
الاجتماعية في لبنان، طريقة تخصيص التقديمات والمساعدات بالقول: (عقلية
الاستعراض تحكم آلية عمل الجهة المانحة، المطلوب تغيير العناوين
والمضامين باستمرار بغية لفت الأنظار، والجمعيات المحلية تتلاعب على
هذا المسار الذي يصعب تغييره، فالكل يريد جني التفاحة ولا أحد يهتم
بتمويل نمو الجذع، المؤسسات المانحة الأجنبية تخضع هي أيضاً لضغوط
التمويل والمشكلة الأساسية تكمن لدى الدول والأمم المتحدة التي تحدد
اتجاهات عامة للسياسات التنموية، فالسنة سنة شباب، ثم سنة العجوز...
فتضطر الجمعيات إلى تغيير مشاريعها بحسب الموضة العالمية لتحصل على
التمويل وإلا تقفل أبوابها، والمؤسسات الممولة نفسها قصير، في حين أن
مشاريع التنمية طويلة المدى.
يكثف النص السابق المحاذير الناجمة عن التمويل
الخارجي، وينبه إلى مسألة في غاية الخطورة وهي التغيير المستمر في
أهداف التمويل بشكل سنوي، في حين أن مشاريع تنمية المجتمعات المحلية
تحتاج إلى استمرارية ومتابعة لفترات طويلة نسبياً قبل أن تؤتي نتائجها
المرجوة. من هنا تبرز أهمية تنويع مصادر تمويل المنظمات الأهلية
العربية، وذلك عبر اجتذاب دعم القطاع الخاص وتفعيل المصادر التقليدية
للتمويل كالزكاة والصدقات والأوقاف والتبرعات المختلفة، والأهم من كل
ما سبق إعطاء أولوية لتنمية مصادر التمويل من إمكانيات المجتمعات
المحلية، وقيام المنظمات الأهلية بإجراء دراسات الجدوى الاقتصادية
والاجتماعية لمشروعاتها بما يضفي عليها طابع الشفافية والمصداقية
ويساعد في إقناع الجهات الممولة بجدوى هذه المشاريع ونجاحها، وهذا لا
يعني بطبيعة الحال الاستغناء عن التمويل وتأمين مستلزمات المشاريع
الأساسية لفترات زمنية كافية.
ولا يقل مطلب تحقيق المؤسسية في عمل المنظمات
الأهلية أهمية عن مطلب استقلاليتها. فمن الصعب تصور عمل هذه المنظمات
في أواخر القرن العشرين وفق منطلق النوايا الحسنة والجهود الخيرة على
أهميتها وضرورتها، يعني تحقيق المؤسسية العمل وفق قواعد القوانين
والفصل بين الشخص والوظيفة، إضافة لضمان دوران السلطة وتدوير النخبة
داخل كل منظمة، وما يرتبه ذلك من ضمانات لتحقيق الممارسة الديمقراطية
سواء على مستوى صنع سياسات المنظمات أو على صعيد العمل الميداني
والتنفيذ، أي أن مطلب المؤسسية يتصل بالتحديث الإداري لهيكلية هذه
المنظمات وتغيير في بنائها المؤسسي لتحقيق أفضل من الأداء المهني
وتحقيق غايات المشاركة المجتمعية عبر بناء جسور الثقة والتفاهم بين
كافة الأطراف المعنية بالتنمية.
من هنا يكتسب مفهوم بناء القدرات للمنظمات
الأهلية العربية أبعاداً وفضاءات جديدة. وهذا ما توضحه أماني قنديل في
شرحها لمفهوم بناء القدرات بوصفه عملية تدخل مقصود لتحسين وتطوير أداء
المنظمة، في علاقتها برسالتها وأهدافها، وفي علاقتها بالإطار الثقافي
والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي توجد فيه، وفي توظيف مواردها بما
يحقق لها الاستدامة.
لا تقلل الانتقادات والتحفظات السابقة برأينا من
قيمة العمل الأهلي، بل على العكس فهي ومن خلال تسليط الضوء على نقاط
الضعف، وعبر كشف الثغرات والنواقص التي تعاني منها المنظمات الأهلية
العربية، ترتب عليها الاضطلاع بمهامها وأخذ هذه الانتقادات بعين
الاعتبار، بغية زيادة كفاءة وفعالية هذه المنظمات وتعضيد دورها في
العمل التنموي، لأن نجاحها في أداء مهماتها كسب للمجتمعات العربية
وفسحة أمل واعدة لمواجهة أعقد رهانين تواجههما مجتمعاتنا على أبواب
القرن الحادي والعشرين وهما رهان التنمية ورهان الديمقراطية، بغير ذلك
سيبقى عملها بمثابة خلق جزر من الرفاهية والتنمية في بحر من الحرمان
وفقدان النمو.
* كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية |