إذا عاد التاريخ إلى الوراء في العراق ، وتقهقرت
عقارب الزمن إلى الخلف ـ لا سامح الله ـ ، لدفننا البعثيون أحياء في
المقابر الجماعية ، وسحلنا الشيوعيون في الشوارع ، وصنع القوميون من
أنوفنا وآذاننا والسنتنا قلائد تهدى للثوار ، ولأفتى الفقهاء ما يذبحون
به خصومهم من الوريد إلى الوريد ، ولظل الإسلاميون يمثلون حركات
المعارضة لكل الأنظمة المتعاقبة على مر التاريخ الحديث ، يضحون
بأرواحهم وأنفسهم وبكل ما يملكون، من دون أن ينجزوا ما يؤهلهم لاستلام
السلطة .
ولذلك ، لا نريد أن يعود التاريخ العراقي إلى
الوراء ، بل نطمح إلى أن نبني عراقا جديدا قائما على أساس الحرية
والمشاركة والمساواة والتعددية ومبدأ التداول السلمي للسلطة ، وحكم
الأغلبية عبر صناديق الاقتراع على قاعدة ـ صوت واحد لمواطن واحد ـ ،
وسيادة القانون، وصيانة كرامة الإنسان وحقوقه، حتى لا نرى حاكما أوحدا
على مر الزمن ، أو معارضة مقموعة على طول الوقت .
لأننا ، وبصراحة،لا نريد من يوزع التهم
والافتراءات جزافا ضد كل من يخالفه الرأي .
ولا نريد من ينصب نفسه قاضيا يصدر الأحكام من
دون دليل قضائي ، ضد هذا وذاك .
ولا نريد من يقود المسيرات ويهتف ـ اعدم اعدم
جيش وشعب وياك ـ .
ولا نريد من يحشد الرعاع ليتظاهروا في الشوارع
وهم يصرخون ـ صدام اسمك هز أمريكا ـ .
ولا نريد من يحرض على اعتقال الناس عشوائيا ،
كما لا نريد من يحرض على العنف ، فكلاهما يدعوان إلى التطرف والإرهاب ،
ويهددان السلم الأهلي .
ولا نريد من لا يرى إلا نفسه ، ولا يسمع إلا
صوته ، ولا يلمس إلا إنجازاته .
كما لا نريد أن تتكرر تجارب محكمة المهداوي
ومحكمة الثورة وحوادث الموصل وكركوك ، ومآسي الأنفال وحلبجة ، ومجازر
كربلاء والنجف والبصرة ، وحفلات الإعدام ، وحملات تنظيف السجون .
ولا نريد مثقفا يستحقر رسالته ويستهتر بدوره ،
فيوظف رأيه وقلمه خارج إطار مهامه المقدسة ، فيقترح اعتقال هذا أو سجن
ذاك لمجرد انه سمع من يتهمه ، أو قرأ ما يشير إلى تورطه من دون دليل ،
وكأن الاعتقال في البلدان الديمقراطية يتم على أساس اقتراح مثقف أو
دعوة صحفي أو تهريج كاتب ، وليس الأمر من اختصاص القضاء المستقل
والقانون الذي يسري على الجميع .
ولا نريد من يلجأ إلى الفتوى الدينية ويتحصن
بزيه ، كلما أعيته سبل الحوار مع الآخر ، أو أسقط في يده ، أو أعدم حجة
الحوار بقوة المنطق وبالحكمة والموعظة الحسنة .
ولأننا لا نريد لكل ذلك أن يتكرر في العراق
الجديد ، يلزم ؛
أولا ـ أن نتعامل بحكمة مع الظواهر
الجديدة في العراق ، والتي منها ما يسمى بظاهرة السيد مقتدى الصدر ،
فلا نصب الزيت على النار ، ولا نتصرف حيالها بتشنج وانفعال وبخلفيات
سياسية أكل عليها الدهر وشرب ، ولا نتهم الرجل بما استنكره بنفسه من
أعمال خطيرة قام بها محسوبين على تياره ، ولا نحرض عليه ، ولا نقلل من
شانه ، أو نستخف بما يمثله ، ولا نحول تهمة الانتماء للنظام البائد إلى
شماعة نعلق عليها تهمنا ضد من نختلف معه أو يخالفنا الرأي والخلفية
الثقافية والسياسية .
ثانيا ـ من يرى نفسه قويا بتياره ، يلزمه كذلك
أن يتصرف بحكمة ، فلا يتهور ولا يقلل من شأن الآخرين أو يلغي منافسيه ،
أو يتجاهل الظروف الاستثنائية التي يمر بها العراق ، أو يغتر بما يراه
من انقسام الساحة في الموقف منه ، فمهما توسع هذا التيار أو تضخم ذاك
الآخر ، إلا انه يبقى أقلية صغيرة بالقياس إلى مجموع رأي الشعب العراقي
الذي لم يقل بعد كلمته في القضايا والأمور الاستراتيجية المختلف عليها
بين القادة والزعماء ، لأنه وببساطة لم تسنح له الفرصة بعد ليقف أمام
صندوق الاقتراع ليقول رأيه بحرية من دون ضغط أو إكراه ، ولذلك لا يحق
لأحد أن يصادر رأي الأغلبية المطلقة من الناس فيتحدث باسمها ، ما يعني
أن يتحمل الفرقاء بعضهم البعض الآخر حتى يقف المواطن بقامته أمام صندوق
الاقتراع ليدلي بصوته الذي لا يعلو فوقه أي صوت آخر .
بكلمة ، نريد عراقا لا يسجن فيه المرء بسبب رأيه
أو فكره أو موقفه أو انتمائه ، ولا يعتقل مواطن بمزاج احد أو يعدم
بنزوة غضب الحاكم ، أو يلقى عليه القبض بسبب تحشيد الخصم للجو ضده ، أو
يطالب بالالتزام بقانون غير موجود أصلا .
نريد أن يأخذ القانون مجراه ويسري على الجميع
بالدليل المادي الملموس ، وليس بالتهم والافتراءات والأجواء والضوضاء
وأقاويل الغوغاء أو تحريض ـ المثقفين ـ .
آمل ، أن لا نسمع من يوزع التهم جزافا ، فعند
خصومه الكثير مما يدينه ويدين تاريخه ، خاصة أولئك المتورطون بدماء
رفاقهم من اجل إرضاء السلطان الذي ظلوا يخدمونه ويتسترون على جرائمه
حتى الرمق الأخير ، ولم يفكوا ارتباطهم به إلا بعد أن اشرفوا
على الموت واشرف الحاكم على الهلاك .
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM |