من كربلاء المقدسة، التي تضم رفات سيد الشهداء
الإمام الحسين عليه السلام، كان المجدد الثاني الإمام المرجع السيد
محمد الشيرازي رحمه الله يقود حركة سياسية وثقافية واجتماعية واسعة
بروح جديدة وثّابة هدفها إعادة الإسلام الى الصدارة حضارة وحكما
ومجتمعاً، يعينه في ذلك رجالات عظام، من أبرزهم أخوه المفكر الشهيد آية
الله السيد حسن الشيرازي قدس سره. وبعد استلام حزب البعث المشؤوم
مقاليد الحكم في 1964 بعد مجيء عبد السلام عارف، وتعيين البكر رئيسا
للوزراء، قام الرساليون مباشرة بفضح حزب البعث وتبيان جوهره الإجرامي
من خلال التوعية الثقافية المكتوبة، والتي كانت تنتشر عبر كتيبات توزع
سراً، وعبر الخطباء الذين كانوا يشيرون الى مضامين الخطاب القومي
البعثي المضاد لروح الإسلام. إلا أن أقوى أشكال التوعية وأخطرها على
حزب العفالقة كان يقودها بطل العراق ومنظر الحركة الرسالية الشهيد
السيد حسن الشيرازي ، حيث لم يكن له نظير في شجاعته وجرأته بشهادة
المتابعين والمدققين المنصفين في الوضع العراقي آنذاك، حيث كان يصدع
بكلمة الحق، ويحطم أصنام الفكر الشيوعي والبعثي بخطبه، وبشعره الثوري
الذي كان يلقيه في احتفالات مولد الإمام علي(ع) الجماهيرية في كربلاء
في الحسينية الطهرانية بالقرب من المرقد المطهر للإمام الحسين عليه
السلام، والتي يحضرها عشرات الآلاف من أهالي كربلاء وزوار الإمام
الحسين(ع). وكان رحمه الله يبدأ مشاركته في تلك الاحتفالات من كل عام
بكلمة تتقدم قصيدته الشعرية التي يلقيها بوضوح وشجاعة تُلهب الجماهير،
لتنتشر بعد ذلك في أرض الرافدين.
ولم يكن بطل العراق يداري أو يلمّح الى حزب البعث
كما كان يفعل غيره من أحرار العراق، بل كان يشير إليه بالحرف الواحد،
وبصورة واضحة. ففي الاحتفال السنوي الذي اقيم في كربلاء بعد مجيء حزب
البعث في 1964 أعتلى منصة الاحتفال، وألقى بكلمته عن عظمة الإمام علي
ثم شرع في قراءة قصيدته ونقتطف منها بعض الأبيات التي هاجم فيها حزب
البعث بالاسم ومؤسسه عفلق، والأفكار التي يروجها،. وهنا بعضا من أهم
أبيات القصيدة من دون مراعاة التسلسل للإختصار:
يامن بــنورك قامـــت العــلـيــاء عُد نحونا
لتشــعّ منـــــك سنــأء
"علــــوية" غـراء لا "أموية" غــواء، ينشــد (بعثها)
غوغاء
فالشعب نحن وأنت أنت إمامنــا ورعاتـــنا (العلماء)
لا (العملاء)
كم ذا جنى الأذناب والاحــــزاب فلتسقط الأحــزاب
والأذنــــــــاب
وهنا علا التصفيق ، وطلبوا الإعادة، وتابع
قصيدته فاضحا أحزاب الكفر والنفاق،الى قال:
الحزب حزب الله ليس سواه في الإسلام أحزاب ولا
أنصـــاب
..........
واعمل لتطبيق الكتاب مجـــاهداً إن العقيدة مصـــحف
وحســـام
واسحق جباه الملحــــدين مُرددا لا السجن يُرهبني و
لا الإعدام
دستورنا الإسلام نهتـــف باسمه وشعـــارنا في
العالم الإســـلام
وزعيمــــنا الكرار لا ميشــيل لا ماركس لا القسيس
لا الخاخام
وكان التصفيق الحار وطلب الإعادة يتكرر بين بيت
وآخر ،ثم ذكر مساوئ الحكام الظلمة ومآسي الشعب العراقي، الى قال مشيرا
الى ندمير البعثيين الى العراق والى جرائمهم:
أرض الــعـــراق مجـــازر ومـــآتم والرافدان
مـــدامع ودمــــــــاء
سلب الرفاق ثرى الورى وثراءهم فغدوا حيارى لا ثرى و
ثــــراء
داســـوا عفــاف المحصنـات لأنهم لقطاء لــم
يُعــــرف لهم آبــاء
وهم الشــــــيوعيــــون إلا أنـــــــه
زادتهـــــم الأمويــة النكـــراء
لو لم يكونوا ملحديـــن لما رضــــوا بالمشـــركين
وفيهم دخـــــلاء
لكنهــــم رامـــوا قـيــــادة عـفــلـــق إذ لــم
يكــــن فيهم له أكفـــاء
أو ليــس قد سمـــــاه يعــرب عفلقـا ولديه أحقاد
الصلـيب دمـــــاء
الى أن ختم قصيدته بعدة أبيات كان آخرها مسك
الختام
ويـــل العــــراق فـليـله لا ينقـــضي حتى تقـــوم
حكومة الإسـلام
والبيت الأخير كان نبؤة تحققت، فطوال عهد البعثيين
كان الليل المظلم باستبداده وجبروته مخيما على أنفاس العراقيين قتلاً
وتشريداً وهتكاً للأعراض. إلا إن الشهيد لم يكن ليرضى بغير الحكومة
الإسلامية بديلا وخلاصاً للعراق. هذه القصيدة الثائرة العلنية في ظروف
القمع البعثي كانت شعلة وهاجة في ظل الخوف الرهيب الذي سيطر على العراق،
وكان المرحوم المجاهد يعرف إنه سيدفع ثمن مواقفه البطولية، إلا أنه كان
قد وطّن نفسه لكل الاحتمالات، فالموت غدا رخيصا لديه لتحطيم الصنم الذي
جثم على أرض العراق، وبات"لا السجن يُرهبني و لا الإعدام" شعاراً يردده
العراقيون، حيث أوقد السيد الشهيد فيهم روح المضاء والعزيمة والفداء.
والعديد من أشعار هذه القصيدة العصماء كانت منتشرة في خارج العراق.
وأتذكر أن بعض أبيات تلك القصيدة كانت معلقة في لوحة كبيرة على جامع
جدحفص في البحرين في السبعينيات. وخطط البعثيون لاغتياله، إلا أنه هاجر
الى لبنان، حيث أستقر هناك لفترة، وأسس "دار الصادق" لطبع ونشر الكتب
الإسلامية. ثم رجع الى العراق بعد أن أزاح عبد السلام البعثيين عن
رئاسة الوزراء وعن الحكومة. ولأجل إلقاء الحجة على عبد السلام نظّم
المرجع الشيرازي وفداً إليه ترأسه أخوه السيد حسن بمشاركة عدد من
العلماء، وطالب الوفد من عبد السلام تطبيق الإسلام كاملاً غير منقوص،
وإلغاء كل القوانين التي تخالف الإسلام من كافة الوزارات والدوائر
الرسمية، ووعد عبد السلام بدراسة الموضوع، إلا إنه لم يتحقق شيئاً .
وهنا بدأ بطل العراق مرة أخرى حملته على عبد السلام ثم على أخيه عبد
الرحمن الذي خلفه في الحكم، وأخذ يطلع الشعب على إنحرافات الحكم، وينشر
الوعي السياسي، وضرورة العمل لتطبيق الحكم الإسلامي. وكان الشهيد
الكبير قد لمع أسمه في الأوساط الإسلامية والأدبية، فقد ألف العديد من
الكتب الشهيرة، من أهمها "كلمة الله"، و"الأدب الموجه"، و"التوجيه
الإدبي"، و"كلمة الإسلام"، و"الأقتصاد الإسلامي" وكلها كتب نالت أعجاب
العلماء والأدباء، كما كانت قصائده التي كان يلقيها في الكويت ولبنان
والعراق قد صنعت له شهرة واسعة.
ثم جاء البعثيون مرة أخرى الى الحكم في 1968
بمؤازرة المخابرات الغربية، فكان للشهيد البطل دور هام في الساحة
العراقية، فقد قام بإجراء عدة اتصالات مع العلماء والشخصيات السياسية
هدفها الرئيسي إسقاط نظام البعث. وكانت أجهزة الأمن تتابع بدقة تحركات
السيد الشهيد الذي كان قد فتح عليهم نيران الكلمة الصادقة من قبل،
فبادرت باعتقاله بطريقة جبانة، حيث جاء بعض المسئولين الحكوميين في
كربلاء الى الإمام الشيرازي ببرقية من الرئيس البكر يطلب فيها أن يحضر
السيد حسن الشيرازي الى القصر الجمهوري ببغداد لغرض التشاور معه حول
كيفية حل أزمة شط العرب على ضوء القوانين الإسلامية. وكان ذلك مجرد
خدعة لئلا تتحرك الجماهير المحبة للسيد الشهيد من الحيلولة دون اعتقاله.
إلا أن شيئا من ذلك اللقاء لم يحدث، ولم يرجع السيد الشهيد، بل جرى
اعتقال عشرات العلماء والعاملين في المدن المقدسة. أما الشهيد فقد تم
تعريضه لتعذيب قاس كالضرب الشديد والكي على الظهر والبطن بالمكواة
الكهربائية والكي بالسيجارة في أنحاء عديدة من جسده وحرق لحيته الكريمة
والتعليق بالمروحة السقفية وغيرها من صنوف التعذيب عدا الأهانات
العديدة. وقد زارته والدته بعد أشهر في السجن فلم تصدق أن الذي أمامها
هو أبنها السيد حسن. وعن شمول التعذيب في جسمه، قال الشهيد ذات مرة:
أنه تم تعذيب كل خلية في جسمي. وأحد أسباب التعذيب هو إنتقام البعثيين
منه، كما طلبوا منه أن يعترف على نفسه وعلى العديد من مراجع الدين
والعلماء العاملين بتهم كبرى ثم يُعرض على التلفزيون لإسقاط شعبية
الشهيد، تمهيداً لضرب الحركة الإسلامية برمتها في العراق. إلا أن كل
ألوان التعذيب التي استخدمت لم تفلح في الشهيد، الذي ظل صامداً صمود
الجبال الرواسي. وقد نقل الشهيد الى المستشفى بعد تردي صحته. وفور
اعتقاله بادرت الحركة الرسالية بدور إعلامي واسع في العالم الإسلامي
للمطالبة بإطلاق سراحه حيث نشرت الصحف العربية وبالأخص اللبنانية عن
قضية الشهيد ومواقفه البطولية ومستواه العلمي والأدبي. وفي داخل العراق
جرى توعية الجماهير بالحملة التي قادها حزب البعث لمحاربة الإسلام
والعلماء بعد اتهام البعثيين للعلامة السيد مهدي الحكيم نجل المرجع
الديني الأعلى السيد محسن الحكيم بالتجسس للصهيونية، وقتل العلامة
الشيخ عبد العزيز البدري تحت التعذيب، وهو من كبار مشايخ الطائفة
السنية في بغداد. وتم توزيع كتيبات سرية بين فترة وأخرى، أبرزها "عن
العراق والجرح النازف"، "محنة العراق اليوم"، الإضطهاد الديني في
العراق"، "الفكر الإنساني تحت التعذيب"، "نداء العراق الحزين". وكانت
تلك الكتيبات تحمل زخما من المعلومات عن الحركة الإسلامية وشخصية السيد
الشهيد وخطورة حزب البعث على الأمة.
وتحت الضغط المكثف تم إطلاق سراح السيد حسن
الشيرازي بعد اعتقال دام عدة شهور حيث خرجت الجماهير في كربلاء المقدسة
لاستقباله استقبال الأبطال. ثم هاجر السيد الشهيد من أرض العراق الى
لبنان لينطلق من هناك الى آفاق العالم مؤسسا لنشاطات عالمية واسعة،
تُعد بحق فتوحات في العمل الإسلامي، حتى اختتمت حياة بطل العراق بكرامة
الشهادة حين اغتالته يد الغدر البعثية في الثاني من يونيه 1980وهو في
سيارته، متوجهاً الى مجلس الفاتحة في مدرسة الإمام المهدي حيث كان
الشهيد يقيم الفاتحة لروح المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر. وهكذا
كتب القضاء أن يلتقي الشهيدان في رحاب الله، وتبدأ مرحلة أخرى خاض فيها
العراق الجريح مصائب عظمى حتى قضى الله أن يسقط حزب البعث الجائر بعد
ثلاث وعشرين سنة من اغتيالهما في ذات الفترة التي انتقل فيها هذين
الشهيدين العظيمين الى رحمة الله. |