وضع قلمه على الطاولة بجانب تلك الأوراق، وعلق
نظره على ذلك الكرسي الخشبي الصغير الموضوع في زاوية مكتبه،كانت بقية
حمراء ضئيلة جداً من أشعة شمس الأصيل الأخيرة تلون ذلك الكرسي بلون
برونزي معتق، وترسم في الغرفة بعد أن استطاعت أن تجد كوة صغيرة في جبال
الغيوم السوداء الكثيفة لوحة كئيبة سوداء قاتمة،كانت ليلة شتوية قاسية
لن تنسى أبدا، فقد كانت تمثل بالنسبة لي بداية الجزء الثاني من كابوس
مرهق استمر لمدة سنتين من الزمن، ولكم قصتي مع هذا الكابوس:
يبدأ الجزء الثاني في ساعة متأخرة من إحدى ليالي
تشرين الثاني من شتاء عام 1999م، حيث رن جرس الهاتف،ولم يكن هذا على
غير المعتاد، فقد كنت معتاداً على السهر ومن عادة بعض الأصحاب الاتصال
بي في أي وقت كان، ولكن هذا الاتصال كان مختلفاً...ومخيفاً، فقد كان
المتصل امرأة تصيح بأعلى صوتها وتستغيث، لقد أصبت بصدمة بادئ الأمر ،
وكان ليخفى عليّ هذا الصوت الذي يخنقه البكاء لولا الكلمات غير
المترابطة التي تشوبها ألفاظ عرفت أنها ألفاظ ألمانية، و على أي حال
فقد راودتني منذ أيام أحاسيس غريبة عرفت أنها مؤشر بوقوع ما حدث الآن ،
ولم تكن تلك الأحاسيس قد تولدت فجأة لتكون كما يقولون( أن الإنسان
يستشعر المصيبة قبل وقوعها)،رغم أنني أميل إلى ذلك ولكن الموضوع أنني
في زياراتي له في الأيام الأخيرة، توقعت الأمر، وكنت دائماً ادعي
معرفتي به أكثرمن الاخرين...
طالعت معظم المرثيات
التي قيلت فيه، ولكنها للأسف لم تكن بمستوى
الفاجعة، ربما اتُهم بالمغالاة في حزني عليه، أو بالإفراط في تعظيم هذا
الرجل، لن أدافع في هذا المقام، ولكن ساترك الحكم والفصل للزمن،
ولذاكرة التاريخ...
وأنا الذي كتبت فيه مقالة منذ زمن كانت واحدة من
كثير مما كتب عنه ، ولكن مقالتي هذه كانت مميزه من حيث أن احد المفكرين
المعروفين قال لي مرة عندما اجتمعت به صدفةً في إحدى الندوات ،انه
يتمنى أن يجد صديقاً محباً مثلي ليكتب عنه بهذه العواطف الجياشة، وان
صديقي هذا ليستحق بشرف لقب (آلهة الورق) – وكان هذا عنوان مقالتي – ثم
كان أن درج هذا اللقب ليكنى به الفقيد.أما من أين أنا اقتبست هذا
العنوان للمقالة فذلك من كون صديقي إذا هم بالكتابة حمل القلم وجلس في
مكان هادئ نصف مظلم ، وانكب على أوراق بيضاء فارغة، ليستفيق بعد فترة ،
ويعود من عالمه اللاهوتي الخاص ، ثم يضع بين يديك...كلمات ليست ككل
الكلمات و أحرف ليست ككل الأحرف، أنها نصوص من حكمة خاصة...لعلها
بمجموعها وكثرتها إنما تشكل دستوراً جديداً لحياة جديدة، حياة لم
نعهدها، أو حتى لم نفكر بها...نسيج متجانس من حكمة جديدة كل الجدة
مصنوع في مخيلة شخص خبر الحياة بطريقة لم يخبر بها إلا القلة أو لنقل
الصفوة ، اعذروني لو وصفتهم بظل الآلهة الأخيرة على الأرض- ولكن الظل
غير الممسوخ لهذه الآلهة- تعرفت على إحدى هذه الظلال وهو( آلهة الورق)
في مقصورة قطار في رحلة بين كالمار و ستوكهولم...جلسنا في مقعدين
متقابلين، لم يطل بنا الزمن حتى بدأنا نتجاذب أطراف الحديث، كان يقرا
رواية ألمانية، وكنت أقرا مجلة نيوزويك الأمريكية وقد كان مستهجناً
اهتمامي بالمواضيع السياسية بالرغم من صغر سني ، وعندما دخلنا بنقاش
عابر حول موضوع الصحافة والرواية... أبدا لي إعجابه ببعض أفكاري، ولكني
لم أكن اعرف وقتها اسمه الكامل، و خطر لي أن اسأله ذلك في محطة في
منتصف الطريق ، فوجئت عندما عرفت أن جليسي في المقصورة، كان ذلك الرجل
العظيم الذي طالما تمنيت مقابلته – كما يتمنى كثر غيري ذلك- تجمعني به
صدفة غريبة في قطار في مكان بعيد. هذه الصدفة لم تكن اجتماعاً عابراً
فحسب بل دفعتني لا دخل دوامة هذا الرجل الغريب، ولأضيع في متاهات غيرت
حياتي ، ورسمتها على شكل لم أفكر به أو أتخيله يوماً، ولكنني لن أعلن
ندمي يوماً على ما فعلته طواعية وبملء إرادتي و اندفاعي...عبرت له عن
شديد إعجابي وعظيم احترامي لأفكاره التي كنت اقرأها في كتبه ومقالاته
وحتى في كتب تلامذة له فهو مدرسة بحق...ولشخصه الذي كنت اسمع عنه أو
أشاهده في التلفاز.ولم يكن ما شدني إليه شهرته الذائعة- فانا لا أحب
ماركيز ولن اقرأ زوربا- ولا مراكز هامة شغلها ومازال في المجتمع، بل
شدني ما كان فيه من حكمة الشيوخ اللاطوبوية
والمتفردة غير المملة ،و شدني ما فيه من شباب متوقد واعٍ غير متصابٍ،
وروح صافية مرحة، وشده إلي تفرس في تميزٍ كان يتوقعه لي، المهم أنني
دخلت بيته، ودخلت أسرته، ودخلت قلبه...كان متزوجاً من امرأة ألمانية
جميلة المنظر وجميلة الروح و المعشر، وله منها ولد وحيد صغير كتلة
عبقرية صغيرة تمشي على الأرض، حرص على تعليمه في أفضل المدارس
النموذجية، وكنت أتولى جانبا من تدريسه في أوقات الفراغ، لقد أحببت ذلك
الطفل كثيراً وتعلقت به كما تعلقت بهذه الأسرة، وكذلك فعل هو، لقد
منحني أبوه ثقة كبيرة، حتى أنني كنت أتدبر أمور أسرته في أثناء سفره
المتكرر، رغم وجود الخدم والحرس والكثير من المقربين، لكنني أصبحت
الأقرب، وكنت احرص دائماً لأكون أهلا لهذه الثقة،كان أكثر ما يزعجه أن
مسؤولياته بدأت تزيد وانه لم يعد يجد متسعاً من الوقت للكتابة، فقد بدا
إنتاجه يقتصر على مقالات بلغات متعددة تنشرها صحف يومية أو دوريات
عالمية،وكان يقول لي بين الحين و الآخر: انه سيأتي اليوم الذي يتقاعد
فيه من كل شيء ويتفرغ لمعشوقته الوحيدة آلا وهي الكتابة عندها كنت أقول
له أن من يملك هذا الإرث الثقافي العظيم لا يخشى من النضوب أو
الاندثار.أصبحت بقربي منه صديقه الأول حتى انه كان يبوح لي بأسراره،
رغم فارق السن والمستوى الثقافي، وقد حصدت من ذلك دروسا كثيرة عظيمة،
لا تحّصل من أي مدرسة كانت،ولكنني حصدت أيضا سخطا وحسداً عظيماً ، فتحت
علي أبواب جهنم فيما بعد...
المهم أتذكر انه كان على الدوام يكرر أن ثروته
الوحيدة هي ابنه الذي سيحارب به الدنيا إذا اضطر الأمر، ولم يكن يدري
المسكين أن سلاحه هذا سيسلب منه يوماً لم يكن ببعيد...وكانت هذه بداية
الجزء الأول من الكابوس...
لعل اللحظات الصعبة في حياة الإنسان تترك أثرا
في نفسه لا يمحى وان غاب هذا الأثر فانه سيتبدى بشكل ما في زمن ما من
مسيرة حياته...استشعرت مرارة غريبة في فمي وكانت المرة الأولى التي
اسمع بها نبض قلبي وأحس بالعرق البارد يتقاطر من فوق جبيني كالمطر و
ذلك عندما سمعت بالخبر الصاعق بوفاة ذلك الطفل العزيز(ابن آلهة
الورق)اثر حادث سيارة أمام مدرسته...لم استطع بعدها أن أتذكر ذلك
المزيج الغريب من الأفكار والصور التي كانت تتزاحم في ذهني، وذلك الكم
الهائل من المشاعر الذي هاج به خاطري...آلمني المصاب كثيراً...حزنت على
ذلك الطفل البريء المبدع الصغير، لقد عرفته جيداً علمته و لعبت معه
وتعلمت منه، صادقته وتعلق بي.... حزنت على تلك الأم الرءوم التي تركت
بلادها وأهلها، ونذرت نفسها لزوجٍ لاتراه إلا في المناسبات لشدة
انشغاله، ولطفل رائع كان يملأ عليها دنياها وقد فقدته الآن...وتألمت
لرجل بلغ من المجد أدراج عليا، وطافت أفكاره العالم حاملة معانٍ سامية
للإنسانية، وكان كل همه أن يقدم شيئاً نافعاً مختلفاً للبشرية..وها هو
الآن يقف هنا بعد أن أثقلت كاهله الهموم..ينزف من طعنة القدر بابنه
الوحيد،مشروع حلمه،أمل حياته،وخلاصة مشواره، يقف منتصب القامة كالعادة
والى جانبه رتل طويل من شخصيات معروفة ومرموقة، وأمامهم جموع غفيرة من
البشر لم يمنعهم المطر الغزير والجو العاصف من القدوم- ولكل منهم مقصده
في هذا المجيء- أسرعت أليه لأعزيه مددت يدي وصافحته فصافحني غير آبه بي،
ورمقني بنظرة عابرة فلم انبس ببنت شفة ولا فعل، عرفت انه في عالم آخر
بعيد،دخلت إلى الغرفة الثانية لأعزي زوجته، وعندما رأتني من بعيد هرعت
نحوي فضممتها على صدري وكان دمعها الحار يبلل قميصي نصف المبتل وقد
أحسست بهذا الدمع يخترق جوفي ليمزق أحشائي،كان صوت النساء المنتحبات
يملا المكان، أما هي فكانت تبكي بصمت، وحدثتني بجمل ألمانية فهمت منها
أنها تكره هذا القدر الأحمق الذي سلبها كل شيء، طبعاً لم اعرف بما ذا
أجيبها فسكت وربت على كتفها وهممت بالذهاب فترجتني أن أطيل البقاء أطول
مدة ممكنة، ناديت بعض من معارفي وأوصيتهن بها، ووعدتها بالعودة قريباً،
لم استطع أن انظر إلى عينيها، ثم رحلت.
وصلت إلى المنزل حزمت أمتعتي بسرعة وقررت السفر
–على الرغم من أنني اعرف انه كان أنذل موقف اقفه في حياتي- ولكنني مجبر
، يجب أن ابتعد أطول مسافة ممكنة، وأطول مدة ممكنة، لم أكن خبيراً بمثل
هذه المواقف الصعبة وكنت أظن أن رؤيتي ستذكرهم دائماً بولدهم
المفقود،والاهم أنني اعتقد أن الكلام لا يفيد في مثل هذه الظروف وليس
ثمة ما يقال.ثم انه سيكون هناك الكثير ممن سيقف معهم ويساندهم فبالفعل
بالإضافة إلى المتملقين هناك الكثير من المحبين لهذه الأسرة،بكل هذا
بررت لنفسي هروبي وأنا انظر من نافذة الطائرة لتلك المدينة الغريبة
التي اتركها ورائي...
إما أن الوقت قد كان يمر بسرعة، أو أنني لم
استطع تنظيف مخيلتي من تلك الصور و الذكريات،فتحت صندوق البريد الخاص
بي كعادتي عند العودة من السفر ، فكان مليئاً بالرسائل وكانت خمسة منها
من صديقي وزوجته وكذلك بريدي الالكتروني، وآلة الرد في هاتف المنزل
وأيضا المكتب. سمعت وقرأت ما جاءني منهم، كانوا يسالون عني مستغربين
غيابي الطويل، ومن ثم قلقين علي و على صحتي بعد فترة، راجين أن أراسلهم
و أوافيهم ليروني في أسرع وقت ممكن حال عودتي بعد أن علموا أنني مسافر...كانت
هناك رسالتان مازلت احتفظ بهما كتبها كل منهما على حدا يخبرني عن حزنه
العميق و مشاعره المجروحة، وانه يضطر أن يخفي ذلك عن الآخر، وان يفتعل
التصبر، خوفاً على الآخر...ولقد أثرت بي جملة في رسالة له كتبها في آخر
الرسالة يقول:بني كنت أتمنى أن تقف إلى جانبي في هذا الموقف- رغم قسوته
عليك- لا لشيء سوى لتتعلم كيف يقف الرجال في هذه المواقف...
كان الشيء الوحيد الذي بت متأكدا منه أن المرحلة
القادمة ستكون مختلفة تماماً...صرت اقضي معظم أوقاتي عندهم ، وكان قد
استقال من كل مناصبه واعتزل العالم ، وبدا يطيل الجلوس أمام النافذة،
وكنت أقول له أن للرجل العظيم قلبان قلبا يتألم وقلب يتأمل فكان يبتسم
ويهز برأسه دون أن يتكلم، وبعد محاولات جاهدة مني قرر العودة إلى
الكتابة فبات يقفل غرفته عليه معظم الليل والنهار، مستغرقا في الكتابة
والقراءة، لقد قل عدد زواره ، وحتى الهواتف لم تعد ترن بكثرة وبإلحاح
كعادتها ، ولكن تحولاً خطيراً جعلنا نستدعي له الطبيب فقد بدا يتخلى عن
الكلام ويجد صعوبة في النطق...لقد كان تطور الأحداث سريعاً ولم اغب عنه
ابدآ إلا في ذلك اليوم الذي شعرت فيه بدنو نهاية القصة، وكان فعلاً ما
توقعت، فقد فهمت من صياح زوجته على الهاتف انه كان ملقى على الأرض لا
يتحرك عندما دخلت عليه المكتب بكاس من اللبن...
لم اكتب عنه بعد وفاته ولن ارثيه أبدا كما توقع
ويتوقع البعض...قررت ذلك في طريق عودتي من المطار بعد أن أوصلت زوجته
وودعتها عائدة إلى أهلها بعد أن خسرت كل شيء ،تحمل ذكريات حزينة وقلب
مجروح مدمى، وعدتها أن أزورها كلما سنحت لي الفرصة وأنا اعرف في قرارة
نفسي أنني لن افعل وستكون هذه آخر مرة أراها فيها، أما بالنسبة له فقد
خرجت الصحف في اليوم التالي بخبر انتحاره و بالظروف الغامضة المحيطة
بالقصة، وبالجنازة الاحتفالية الضخمة التي أقيمت له، وقد اتصلت بي أكثر
من صحيفة تسألني عن رثائي للفقيد، ولكن كيف ذلك ، وماذا سأكتب في شخص
هو من علمني الكتابة، وماذا سأقول في فقدان من علمني القول، فلا بد
للسان أن يعجز، وللكلمات أن تخجل من عظمة المصاب ، وكيف لي أن اصف
الفاجعة إذا كان المفجوع فيه اكبر من الفاجعة وأعظم من الوصف...ماذا
سيقول الكلام في صانع الكلام...
لم أسافر هذه المرة إلى أي مكان فلم يعد لي مكان
التجئ إليه من نفسي، ولم يعد هناك ما اهرب منه فتلك النظرات التي كانت
ترتعش منها أنفاسي قد رحلت بعيداً ...بعيداً...
قررت بعد فترة أن أوفي آخر التزاماتي تجاه هذا
الشخص فحملت آخر ما كتبه من مقالات في أيامه الأخيرة و مررت بها على
بعض الصحف، فكان ردهم على غير ما توقعت فقد رفضوا أن ينشروا أيا منها،
فهم لا ينشرون لأشخاص أصابهم الجنون في آخر أيامهم، على الرغم من أن
كثيرا من هذه الصحف كانت منذ سنوات قليلة تتنافس على نشر أي مقالة أو
خبر يتعلق به، بل أن بعضها ذاع صيته بسبب مقالة أو تصريح لصديقنا هذا –
الذي ينعتونه بالمجنون الآن- كانت قد حظيت به ولكن ربما أنهم على حق
فلكل دولة زمان و رجال .
مرت سنوات الآن على نهاية ذلك الكابوس، ومنذ
أسبوع كنت اشرب القهوة مع احد أصدقائي وكان هو كاتب و صاحب دار نشر،
فقلت له أنني اعمل منذ سنة على تجميع عدد من مقالات المرحوم واعدها
لأضمنها في كتاب،فأشار لي بقصد النصيحة وبدافع الصحبة أن أتخلى عن
الأمر ، وان اخرج من دوامة هذا الرجل فيكفيني ما ضاع من عمري و لالتفت
لأعمالي ولنفسي. ثم أن (آلهة الورق) خاصتي قد كانت آلهة من ورق...والناس
يحبون أن يقرؤوا للأبطال و عن الأبطال فالناس يرفضون الهزيمة...
أضحكني مقال صاحبي هذا،
لكنني أفكر الآن جدياً بالسفر إلى مكان آخر لأنشر الكتاب بلغة
أخرى... |