يعقد مسلمو أمريكا أمال عديدة على شهر رمضان
المبارك للقيام بوظيفتين أساسيتين يحتاج لهما مسلمو أمريكا بوضوح خلال
الفترة الراهنة الصعبة.
الوظيفة الأولى داخلية ترتبط بنشر فكر إسلامي
أمريكي جديد أنضجته تجربة ما بعد أحداث سبتمبر 2001 يمكن تسميته بفكر
الثبات والمصابرة، أما الحاجة الثانية فهي اغتنام ما يوفره الشهر
الكريم من فرص أمام مسلمي أمريكا لتوعية أبناء الأديان الأخرى بالإسلام
وبقضايا المسلمين.
تعويلنا على شهر رمضان المبارك للقيام
بالوظيفتين الهامتين السابقتين يعود لأسباب عديدة على رأسها طبيعة
الشهر المبارك كأكبر فرصة روحية ومعنوية واجتماعية يوفرها الإسلام
للمؤمنين به لتجميعهم وتعبئتهم دينيا ودنيويا، فتجمع المسلمين
الاجتماعي والديني في مئات المساجد الأمريكية على مدى ثلاثين يوم وليلة
كاملة يعد فرصة طبيعية سنوية لا مثيل لها لتوعية المسلمين بقضاياهم
وتعبئتهم حولها.
حياة المسلمين في أمريكا كأقلية تعيش في محيط
سكاني وثقافي وقاري هائل وفي مجتمع معاصر سريع تضغط فيه متطلبات الحياة
المادية على أوقات أبناءه بشكل مستمر يزيد من أهمية شهر رمضان المبارك
وما يوفره من فرص للتعبئة الدينية والدنيوية يحتاجها المسلمون ويعولون
عليها كثيرا.
أضف إلى ذلك طبيعة الدور الكبير الذي يلعبه
الفكر الإسلامي في تنمية وصعود الأقلية المسلمة الأمريكية بالمجتمع
الأمريكي في الوقت الراهن، كمصدر أساسي للهوية، وللمؤسسات المسلمة (66
% من المراكز والمؤسسات المسلمة في أمريكا ذات طبيعة دينية واضحة
كالمساجد والمدارس والجامعات الإسلامية)، وكمصدر أساسي للتنظيم السياسي
والإعلامي ولتشجيع الحوار مع أبناء الأديان الأخرى (66 % من المساجد في
المتوسط لديها أنشطة في المجالات السابقة، كما تلعب المؤسسات المسلمة
الأمريكية السياسية والجماهيرية دورا أساسيا في تعبئة قوى المسلمين
الأمريكيين على كافة الأصعدة).
بالنسبة للوظيفة الأولى والتي أسميناها بنشر فكر
المصابرة والثبات فترتبط بأفكار معينة انتشرت بشكل واسع وتلقائي في
الأوساط المسلمة الأمريكية خلال العامين السابقين تركز بشكل عام على
إعداد المسلمين فكريا ومعنويا لسير طريق طويل وشاق لإثبات وجودهم في
الولايات المتحدة وللحصول على حقوقهم كاملة أسوة بالأقليات الدينية
والعرقية الأخرى.
وسبب انتشار الفكر الجديد هو أن الجيل الحالي من
مسلمي أمريكا لم يتعرض لفترة ضغوط سياسية وإعلامية واجتماعية طويلة
وقاسية مثل ما تعرض المسلمون له منذ أحداث سبتمبر 2001، الأمر الذي
أوجد حاجة عامة للبحث عن فكر جديد قادر على استيعاب الأزمة الطويلة
والمستمرة وعلى إعداد المسلمين للتعامل معها بثبات، وقد وجد المسلمون
الأمريكيون جذورا لهذا الفكر في تجربتين أساسيين، أولهما تجربة ثبات
المسلمين الأوائل في بداية عصر الدعوة الإسلامية على دينهم وحقوقهم
وهويتهم، وثانيهما تجربة كفاح الأفارقة الأمريكيين للحصول على حقوقهم
وحرياتهم المدنية والتخلص من نير العبودية والتمييز العنصري في
الولايات المتحدة، وجدير بالذكر هنا أن الأفارقة الأمريكيين يشكلون ثلث
مسلمي أمريكا على الأقل وجزءا هاما من قياداتهم الدينية والجماهيرية.
شرح معالم فكر الثبات والمصابرة قد يطول، ولكنه
يدور باختصار حول فكرة المحنة والاختبار كجزء لا يتجزأ من حياة
المؤمنين، وحول حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المحن
العديدة التي واجهها في بداية الدعوة الإسلامية، وحول خبرة الأقليات
الأمريكية الإثنية المختلفة في الثبات على حقوقها وهويتها والدفاع عن
حرياتها التي يكفلها الدستور الأمريكي وعدم التراجع أمام الضغوط التي
واجهتها، كما يتميز الفكر الجديد بإيجابيته وفاعليته وسعيه إلى تغيير
الواقع السلبي إلى آخر إيجابي وعدم الاستسلام للضغوط الظالمة أو
الذوبان في بوتقتها.
ويركز الفكر الجديد في أدواته على توعية
المسلمين بأساليب التفاعل الإعلامي والسياسي والديني الإيجابي مع الشعب
الأمريكي، وعلى النظر إلى المحنة الحالية على أنها جزء لا يتجزأ من
قدرهم في الولايات المتحدة واختبار سوف يؤجرون على مواجهته بشجاعة،
ويطالب المسلمين الأمريكيين بتخطي المحنة والانفتاح على الأخر
والاجتهاد في عرض الإسلام وقضاياه على الآخرين، واستنباط القوة ليس فقط
من الظروف المحيطة بهم وإنما من الإيمان بالله وبقدرته على تغيير
الواقع في صالح المؤمنين المثابتين والمصابرين.
وقد انتشر الفكر الجديد بشكل خاص في الشهور
الأخيرة، وقد يعود ذلك إلى تبلور مزيد من معالم المحنة في أذهان
المسلمين الأمريكيين وقياداتهم، أو إلى طول المحنة ذاتها وانتشار
الشعور بأنها سوف تستمر لفترة أطول، أو إلى نهاية فترة تصعيد الحرب في
أفغانستان والعراق التي شغلت الرأي العام المسلم الأمريكي نسبيا عن
شأنه الداخلي.
عموما يأتي شهر رمضان وفكر الثبات والمصابرة يمر
بمراحل بداياته وانتشاره الأساسية، وقد يستغل المسلمون الأمريكيون
وقادتهم الشهر الكريم لنشر الفكر الجديد وتعبئة المسلمين عن طريقه لكي
يساعدهم بدوره على تخطي المحنة الحالية.
الوظيفة الثانية قديمة مكملة للوظيفة السابقة
يقوم بها المسلمون في أمريكا بشكل طبيعي وناجح منذ سنوات وقد لا يعي
بأبعادها الكثيرون، وهي النشاط في عرض الإسلام وقضاياه على الرأي العام
الأمريكي خلال الشهر الكريم، والذي يمتلك بريقه الخاص في مجتمع معاصر
كالمجتمع الأمريكي يعاني من طغيان جوانب الحياة المادية على جوانبها
المعنوية والروحانية، ويمثل شهر رمضان لكثير من الأمريكيين مصدر إعجاب
خاص لدروسه الروحانية العديدة كقدرته على تغيير نظام حياة المؤمنين به
بشكل كامل تقريبا لمدة شهر كامل ومواجهة عجلة الحياة المادية التي يكاد
يستحيل تحديها بالولايات المتحدة، هذا إضافة إلى حثه على التحكم في
النفس والبحث عن معاني روحانية أسمى من المادة وكونه فرصة لاختلاء
الإنسان مع ربه للعبادة وللتقرب من مجتمعة بالإعمال الاجتماعية
والخيرية المفيدة.
جاذبية شهر رمضان المبارك انعكست بشكل واضح على
اهتمام الشعب الأمريكي به على مستويات عدة إذ يعتبر المناسبة الإسلامية
الأشهر في الولايات المتحدة، فالإعلام الأمريكي ينشر كل عام مئات القصص
الإيجابية التي تتناول مختلف جوانب حياة المسلمين المادية والروحانية
خلال الشهر المبارك، كما تبدي المؤسسات المدنية الأمريكية المختلفة
كالمتاجر والمكتبات والمدارس مزيدا من الاهتمام بشهر رمضان ومعانية
ومظاهر احتفال المسلمين به، حتى على المستوى السياسي اعتادت الحكومة
الأمريكية على الاحتفال بشهر رمضان المبارك بطرق مختلفة وعلى مستويات
عديدة في السنوات الأخيرة.
هذه النجاحات لم تكن للتحقق لولا نشاط المسلمين
الأمريكيين أنفسهم لعرض رمضان ومعانيه على أبناء الأديان الأخرى، والذي
يتم من خلال أكثر من طريقه أهمها تشجيع المراكز والمؤسسات الإسلامية
على النشاط للتواصل مع الإعلام الأمريكي المتشوق وعرض القصص الرمضانية
عليه، وفتح المساجد لأبوابها خلال الشهر المبارك لأبناء الأديان الأخرى
لزيارة المساجد والتعرف على الإسلام وهي أنشطة أصبحت تقاليد سنوية
محترمة لدى العديد من المراكز والمساجد الإسلامية الأمريكية، أضف إلى
ذلك حالة النشاط المعنوي والروحانيات التي تعتمر بها قلوب المؤمنين
خلال الشهر المبارك والتي تشجعهم على الاتصال بمعارفهم وزملائهم
وجيرانهم وتوعيتهم بالإسلام وقضاياه.
ويتميز رمضان الحالي بخاصية هامة إضافية وهو أنه
يأتي لأول مرة منذ أحداث سبتمبر في فترة لا تطغى فيها أخبار الحروب (كما
كان في أفغانستان والعراق) على قضايا الإسلام في وسائل الإعلام
الأمريكية، كما أنه يقترن مع انتشار فكر الثبات والمصابرة الذي أشرنا
إليه في موضع سابق من المقال.
وهذا يجعلنا نؤكد على أن رمضان الحالي يمثل فرصة
هامة لتعبئة المسلمين في أمريكا لمواجهة التحيز ضدهم ولتوعية الآخرين
بحقيقة دينهم وقضاياهم.
وفي النهاية نحب أن نؤكد على حقيقة كلية هامة
ترتبط بأسلوب تطور حياة المسلمين وخبرتهم في الولايات المتحدة، وهي كون
هذا التطور يحدث بشكل طبيعي تلقائي معبرا عن حاجات المسلمين أنفسهم
وقدراتهم في بيئة جديدة يتمتعون فيها بقدر كبير من حرية العبادة
والحياة والتفكير.
ومن شأن هذا التطور الطبيعي – بإذن الله – إن
يكتب له التوفيق والنجاح لأنه يعبر عن تغيير حقيقي في فكر وحياة ستة
ملايين مسلم بالولايات المتحدة الأمريكية. |