عن اللطيف الخبير في كتابه الكريم:
(ولا تفسدو في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين..).
البيئة الطبيعية تشمل كل ما يحيط بالإنسان سواء
كان جماداً أو نباتاً أو حيواناً من بحار وجبال وهضاب وسهول في أحوالها
المختلفة من حرارة وضغط ورياح وأمطار وغير ذلك، وهذه البيئة قرر الله
سبحانه وتعالى لها أحكامها وأحكم صنعها كسائر ما خلق وأوجب على الخلق
حفظها وتوازنها وذلك ببقاء عناصر ومكونات البيئة الطبيعية على حالها
كما خلقها الله سبحانه وتعالى دون تغير جوهري فيها، فإذا حدث نقص في
جانب أو زيادة في جانب آخر أضطرب التوازن ومن مصاديق عدم التوازن هو
التلوث الذي يسببه الإنسان مما يوجد إخلالاً بالتوازن ويضر كل شيء،
الحيوان والإنسان والنبات.
والتلوث على قسمين:
1- التلوث المادي: فهو التلوث الذي يصيب مكونات
المادة الطبيعية لأنه مع تطور التكنولوجيا المستمر مصحوباً بنمو أسي
للشعوب، ظهرت منذ أواسط القرن العشرين مشكلة التلوث، التي تنجم عن
استغلال طائش ومبالغ للمصادر الطبيعية.
ونظراً لتباينها وكميتها لم تعد النفايات
الصناعية المنتجة معزولة بطريقة طبيعية، وكذلك تراكم هذه النفايات غير
المؤهلة في الأماكن الطبيعية تترجم بخلل جغرافي حيوي كيميائي الذي يؤمن
توازن كل الحياة الأرضية، وأهم مواطن التلوث ثلاثة: الهواء والماء
والتربة.
فقتلى الحر أوروبياً وانبعاث الفيروسات عالمياً
مؤشران لعلاقة مضطربة بين الإنسان والبيئة
مع عشرة آلاف قتيل في فرنسا لموجة الحر التي
اجتاحت أوروبا في آب (أغسطس) الماضي، وتسجيل ألمانيا وأسبانيا
والبرتغال وغيرها أعداداً كبيرة من ضحايا القيظ، عادت البيئة مجدداً
إلى الصدارة في النقاش العام. وللهم البيئي وجهه الآخر المتصل بانبعاث
الأوبئة الفيروسية, وخصوصاً ظهور مزيد من الفيروسات المؤذية الجديدة.
في النقاش عن ارتفاع ضحايا القيظ أوروبياً، ثمة
من تذكَّر بسرعة أن الصيف الفائت شهد غرق الدول الأوروبية عينها بموجة
من فيضانات كبرى، إضافة إلى ما بات معروفاً من تقارير متواترة عن
ارتفاع حرارة الأرض بفعل التلوث الصناعي كسبب أساسي لتطرف المناخ
وتقلباته القوية. وخلص هؤلاء إلى التشديد على أهمية العمل المُنَظَّم
على خفض التلوث كأساس للخروج من المأزق الراهن. وتتفق هذه الوجهة مع ما
تقول به الأمم المتحدة، وكذلك جموع من الخبراء الدوليين في البيئة.
ويمكن القول أن وجهة النظر التي ترى في أن الإنسان يتحمل مسؤولية كبيرة
عما يصيب بيئة الكرة الأرضية، تمثل رأياً تميل إليه أكثرية المهتمين
بالشأن البيئي.
كلينتون صَالَحَ العالم
درجت أمريكا، منذ عهد الرئيس (جورج بوش الأب)
على التمسك بوجهة نظر مغايرة لأسباب كثيرة، ليس اقلها أن الولايات
المتحدة هي الملوث الأكبر للبيئة على وجه الأرض. ويؤدي تسليم أمريكا
بوجهة نظر الأغلبية إلى تحمليها مسؤوليات وتبعات عن أفعالها. ولهذا
التسليم انعكاساته على العلاقات التجارية وشروط التبادل في السوق
الدولية والمساعدات إلى الدول النامية وما إلى ذلك. وخطى الرئيس السابق
بيل كلينتون خطوة كبرى في اتجاه صوغ "مصالحة" بين بلاده وباقي دول
العالم، في توقيعه على ميثاق "كيوتو" لخفض انبعاث عوادم الصناعة
وغازاتها المرتبطة بحرارة الأرض. وبمعنى آخر، فان اميركا كلينتون سلمت
بوجهة النظر القائلة بالربط بين النشاط الصناعي الذي لا يراعي البيئة
وبين الضرر الحاصل لمناخ الأرض. وفي المقابل، فإنه نجح في خفض مسؤولية
بلاده إلى أدنى حد ممكن، وخصوصاً بالنسبة إلى شركات صناعتي النفط
والسيارات. إنها تسوية بدت عادلة. ومع مجيء إدارة الرئيس جورج بوش (الابن)،
انهارت تلك التسوية. وفي خطوة غير مسبوقة في التاريخ الحديث للاتفاقيات
الدولية، سحب الرئيس بوش موافقة كلينتون على ميثاق "كيوتو". دخلت بيئة
الأرض إلى وضع من عدم الاتفاق والقلقلة والجمود. ولم تنجح "قمة الأرض"
في جوهانسبورغ (2002) في توفير أي بديل ملائم.
البيئة ترفض أصولييها
وفي ظلال هذا الصراع الضاري، تبرز وجهات نظر عدة.
يرى البعض إن الإفراط في تحميل النشاط الصناعي مسؤولية اهتزاز التوازن
البيئي يحمل شبهة "الأصولية" البيئية. المعنى المقصود هو عدم وضع
البيئة في كف والتقدم الصناعي والتكنولوجي في الكفة المقابلة، ثم القول
أما هذا أو هذا. لعل هذا الحذر ما يبرره. من يستطيع القول أن على البشر
الا يبتكروا ويتطوروا ويتقدموا في الصناعة والعمران والتكنولوجيا
والعـلوم؟ وفي المقابل، من قال ان حماة البيئة، او بالأحرى التيار
الأغلب بينهم، هم من دعاة "الأصولية" البيئية؟ في صفوف حماة البيئة
هنالك اطياف عدة. ثمة فعلياً من يتطرف في الحماس إلى كل ماهو "طبيعي"،
فتصبح كل آلة تصدر دخاناً عدواً! ليس هذا هو المعنى الذي تقصده غالبية
المدافعين عن البيئة. بالعكس تماماً. يضع الدفاع عن البيئة النبرة على
ضرورة الربط بين النشاط الصناعي والبيئة. وهذا عنوان عريض تدخل تحته
اشياء عدة، مثل ان تكون الصناعة في البلدان المتقدمة اقل تلويثاً،
وايجاد توازن بين شروط البيئة والتقدم الصناعي في البلدان النامية،
والبحث عن وقود اقل تلوثاً مثل الغاز وخلايا الوقود، وزيادة تمويل
مشاريع الطاقة البديلة مثل طاقة الشمس والرياح والبيولوجيا والهيدروجين
وما إلى ذلك. وعلى عكس "الأصولية" البيئية، فان ما يسود في البيئة هو
الحث على مزيد من التقدم العلمي والتكنولوجي في مجالي الطاقة والبيئة
وما يرتبط معهما من انشطة.
الفيروسات وجه آخر
في العام الحالي، اهتز العالم امام ضربة فيروس "سارس".
واعتبر احدث القادمين إلى قائمة الاوبئة الفيروسية المنبعثة والجديدة.
وتضم هذه القائمة فيروسات شهيرة مثل الايدز وجنون البقر والحمى
القلاعية وفيروس وادي الصدع ووادي غرب النيل وايبولا وفيروس القردة
وغيرها. ويشدد الاختصاصي بيتر داسزاك على ان "كل وباء منبعث هو نتيجة،
بدرجة او باخرى، عن الاهتزاز في العلاقة بين الانسان والبيئة". يعمل
داسزاك في كونسورتيوم للتعاون بين علماء من جامعات هارفارد وتافت وجونز
هوبكنز، وكلها في اميركا. ويلفت إلى دراسة حديثة اجرتها جامعة ادنبرة
الاسكتلندية التي رصدت وجود 1400جرثومة تسبب امراضاً في الانسان. وتثبت
الدراسة ان 61 في المئة منها جاء من اصل حيواني. وتبرهن الدراسة ايضاً
ان 75 بالمئة من "الاوبئة المنبعثة" Remerging Infections أي تلك التي
عادت لتضرب مجدداً بعد عهود من الانحسار، ابتدأت في عالم الحيوان. ما
الذي اتى بها إلى البشر؟ هنا يلعب العامل البيئي، بالمعنى الواسع الذي
يضم ايضاً الانسان، دوراً مهماً. وينبه اختصاصي الاوبئة بيار رولين، من
مراكز ترصد الأمراض في اتلانتا الأميركية، الى ان عوامل خروج الجراثيم
إلى الانسان تشمل تَأثِّر الموطن الاصلي للحيوان بالمتغيرات في الزراعة
ومشاريع التنمــية، اضــافة الى أثر التصحر، وزيادة التجارة العالمية
بالحيوانات غير المألوفة، وتزايد حركة انتقال البشر والبضائع بأثر من
العولمة وما إلى ذلك.
احياناً، يظهر العامل البيئي بطريقة اكثر وضوحاً.
من المعلوم ان البعوض ينقل امراضاً مثل الملاريا وفيروس وادي غرب النيل.
ويرتفع معدل تكاثر البعوض مع الرطوبة والدفء. وأدى الارتفاع في حرارة
الارض إلى تكاثر البعوض في امكنة غير مألوفة تاريخياً. وصاحب ذلك ظهور
اوبئة يحملها البعوض في اماكن جديدة. ويفسر ذلك مثلاً، ظهور الملاريا
في الاماكن المرتفعة من جبال كليمنجارو، التي كانت اكثر برودة قبل بضع
عقود من الزمن. وينطبق التفسير نفسه على الانتشار المستمر لفيروس وادي
غرب النيل في الولايات المتحدة وكندا، وهي امكنة لم تكن لتعرفه من قبل.
2- التلوث المعنوي: وهي التي لا تشاهد ولا تحس
بسائر الحواس لكنها موجودة ولها آثار خارجية، كالتلوث الحراري والمسمعي
والجاذبي.
ولعل الأهم هو الابتعاد عن سنن الله تعالى،
والإعراض عن ذكره ومعصيته كما في قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما
كانوا يكسبون..)
حيث كل من القول والعلم والنية إذا كانت حسنة
فإنها تؤثر تأثيراً معنوياً في تطهير البيئة وتنظيفها وفي التعمير
والبناء سواء أحسه الإنسان بإحدى الحواس أو لم يحسها، كما لها
تأثيراتها بالنسبة إلى الآخرة.
وفي الوقت الذي يلقي فيه بعض الفرنسيين اللوم
على الحكومة بسبب الفشل في التصدي بسرعة كافية لأزمة غمرت المستشفيات
والمشارح بالجثث بحلول منتصف أغسطس يشعر آخرون بالذنب ويعرفون أن
كثيرين هربوا في العطلات تاركين أقاربهم من كبار السن دون عون. وذلك
بسبب تلوث أفكارهم المادية التي لا روح فيها ولا عطف ولا حنان فلم
يعودوا يحسبون للمعنويات أي حساب وغافلين عن المنظفات المعنوية فعن أبي
جعفر (عليه السلام) أنه قال: صلة الأرحام تزكي الأعمال وتدفع البلوى
وتنمي الأموال وتنسيء له في عمره وتوسع في رزقه وتحبب في أهل بيته
فليتق الله وليصل رحمه..)
فالتلوث بمقدروه أن يسلب من الإنسان لحظات
السعادة التي يمكن أن يعيشها داخل الطبيعة وأصبح بمقدروه أن يفتك
بالبشرية أكثر مما فتكت بها الحروب على طول التاريخ وهذا ما يؤدي إلى
عالمية مشكلتها لذا يجب على الجميع حكومات وشعوباً أن يقفوا في قبال
هذا الخطر الذي لا يهدد حياتنا فحسب بل ويهدد مستقبل البشرية وسائر
الكائنات الحية. وذلك بالبحث الجاد عن الحلول الواعية والجذرية للمشكلة
والتعاون الحقيقي لأجل ذلك فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الأثم والعدوان. |