ما ان اعلن الاتحاد الاوروبي امس موافقة ايران
على وقف تخصيب اليورانيوم وقبول التفتيش العشوائي لمنشآتها النووية،
حتى سارعت طهران ـ فورا ـ لتوضيح ان موقفها هذا «مؤقت»! فهل عدنا الى
نقطة البداية؟ قبل شهر فقط، بدا ان ايران والولايات المتحدة تسيران على
الطريق الى حوار غير معلن من شأنه نزع فتيل التوتر الذي ساد علاقاتهما
لأكثر من عقدين. لكن الأمر يختلف كثيرا الآن اذ ان الطرفين يعدان الى
قمة جديدة من العداء. وبعين اميركية، فإن ايران تسعى لامتلاك ترسانة
نووية توقظ مساعي «تصدير الثورة الاسلامية» من سباتها. وتقول واشنطن ان
طهران بدأت فعلا انتاجها النووي وربما صار لها عشر قنابل بحلول عام
2005. اما العين الايرانية فترى تدخلا اميركيا في سياستها الدفاعية.
وهي ـ بلا شك ـ السياسة التي تضع القدرة النووية في صدارة كل وسائل
الردع.
وحتى اسابيع قليلة مضت، كان الرأي العام الدولي
متعاطفا مع ايران، وكان ينظر الى واشنطن بعين الريبة قائلا ان موقفها
استعدائي. لكن سلسلة من الأحداث غيرت هذا التوجه، اهمها نشر صور
بالأقمار الصناعية ( التقطت في مارس (اذار) الماضي) توضح بجلاء موقعين
سريين يقال ان طهران تطور فيهما قنبلتها الذرية.
احد هذين الموقعين هو «ننتز»، القريب من الصحراء
الوسطى ويضم مجمعا متطورا ينتج اجهزة الطرد المركزي العالي السرعة،
الضرورية لتخصيب اليورانيوم. ويذكر ان 25 كيلوغراما من هذا الاخير،
اضافة الى ألف على الأقل من اجهزة الطرد المركزي، تلزم لانتاج قنبلة في
حجم تلك التي اسقطت على هيروشيما عام 1945. ويقدر ان مجمع «ننتز» سيكون
قادرا على انتاج 5 آلاف من تلك الأجهزة لدى اكتماله.
* حلم استراتيجي مزدوج
* ربما كان الاكثر اثارة للاهتمام ان طهران
انعشت، في ما يبدو، حلمها الاستراتيجي المزدوج في السبعينات ويتلخص في
الا يقتصر برنامجها النووي على تخصيب اليورانيوم وإنما يتعداه الى
انتاج البلوتونيوم. ولتحقيق هذا، تحتاج ايران الى القدرة على انتاج
الماء الثقيل. وما تظهره صور الأقمار الصناعية هو انها شيدت بالفعل
مصنعا كبيرا لهذا الغرض في اراك، الى الغرب من طهران. ويذكر ان القنبلة
التي اسقطها الاميركيون على نجازاكي صنعت من البلوتونيوم.
ويمثل كلا المجمعين في «ننتز» و«اراك» حلقة
عالية في سلسلة التكنولوجيا النووية الايرانية. والحلقة الدنيا في هذه
السلسلة، بالطبع، تتمثل في اليورانيوم الخام الذي عثرت طهران على كميات
هائلة منه في سرتشمة، قرب كرمان، وايضا في مجس في صحراء بلوخستان.
وتبعا لبعض التقديرات فإن لايران واحدا من اكبر مستودعات اليورانيوم
الخام في العالم وانه سيكفي احتياجاتها النووية لفترة لا تقل عن 200
عام.
اما الحلقة الوسطى فهي محطات توليد الكهرباء
وينتج عنها الوقود الناضب، وهو الخام الذي ينتج عنه اليورانيوم المخصب.
وفي ايران تتمثل تلك الحلقة الوسطى في محطة بوشهر المتوقع ان يبدأ
العمل العام المقبل منتجة ألف ميغاواط من الكهرباء و25 كيلوغراما سنويا
من الوقود الناضب، اي ما يكفي لصنع قنبلة نووية بحجم قنبلة هيروشيما.
* سؤالان مهمان بلا إجابة
* الحلقة العليا في تلك السلسلة، بالطبع، هي
المفاعل الذي تنتج فيه القنبلة، وليس واضحا ما ان كانت ايران قد بنته
بالفعل. وثمة من يعتقد انها لن تقدم على تشييده الا بعد ان تكون قد
جمعت ما يكفي من اليورانيوم المخصب والبلوتونيوم لانتاج عدد كبير من
الرؤوس الحربية. ويقول بعض الخبراء ان الضوء الأخضر لذلك سيعطى بعد
عامين فقط بينما يذهب البعض الآخر الى سبعة اعوام.
ولطالما سمحت ايران، التي وقعت على اتفاقية منع
الانتشار النووي في السبعينات، لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية
بدخول اراضيها (ما عدا فترة قصيرة في الثمانينات عندما اتهم الخميني
الوكالة بأنها اداة تجسس لصالح الولايات المتحدة). على ان مصداقية
طهران اهتزت كثيرا الصيف الماضي عندما عثر المفتشون على آثار
لليورانيوم المخصب في احد المواقع التي زاروها. وقدم الايرانيون
تفسيرات متناقضة لوجوده، كما انهم عجزوا عن تقديم الاجابة عن السؤال
الباحث عن المبرر لحاجة البلاد اليه.
وساءت الأمور لدى اكتشاف المفتشين مجمعي «ننتز»
و«اراك» اللذين فرضت طهران جدارا من السرية حولهما. ومجددا برز السؤال
المنطقي: فيم السرية اذا كانت البلاد لا تنوي انتاج قنابل نووية؟
واستنادا الى كل ذلك امهل محمد البرادعي، مدير الوكالة الدولية ايران
حتى نهاية الشهر الحالي للإجابة عن السؤالين. ووقتها فإما وصل الى صيغة
تفاهم مع طهران او اضطر لرفع تقرير الى مجلس الأمن يعلن فيه انتهاكها
اتفاقية منع الانتشار النووي.
يذكر ان مناشدة الوكالة ايران التعاون تبعتها
رسالة ـ وقعها كل من الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الوزراء البريطاني
توني بلير والمستشار الالماني غيرهارد شرودر ـ تدعو طهران لفعل الشيء
نفسه وايضا توقيع بروتوكول اضافي (بدأ العمل به عام 1991) يسمح للوكالة
بزيارات فجائية لأي موقع مشتبه فيه. وتدخل الاتحاد الأوروبي ايضا ليعد
ايران بساعدات مالية وتكنولوجية في مساعيها لتوليد الكهرباء مقابل وقف
فوري لكل مساعيها النووية العسكرية. وفي حال رفض هذا العرض فستواجه
الحكومة الايرانية عقوبات اقتصادية وفنية ودبلوماسية. والمفارقة هنا هي
ان واشنطن اختارت مسلكا اكثر نعومة مع طهران. فقد اعلنت ادارة الرئيس
جورج بوش انها ستكتفي بأن توقع ايران على البروتوكول الاضافي.
* إما هذا أو ذاك
* كل ذلك يجبر طهران على الاختيار. فإما ان توقع
على البرتوكول الاضافي معلنة في الوقت نفسه برنامجا لتخصيب اليورانيوم
تحت سمع وبصر الوكالة الدولية للطاقة الذرية (هذه الأخيرة لا تحظر ذلك
طالما كانت قادرة على التفتيش غير المعاق الذي يضمن لها ان البرنامج لن
يستخدم لانتاج السلاح). أما الخيار الثاني فهو ان تنسحب ايران من
اتفاقية منع الانتشار النووي وان تمضي قدما في ما تريد. لكن ما لن يتاح
لها هو ان تفعل ذلك وان تبقى، في الوقت نفسه، طرفا في الاتفاقية.
وبناء على ذلك تجد الحكومة الايرانية نفسها امام
اتخاذ اهم قرار لها على مدى اكثر من عقدين. فمن جهة، ثمة تأييد كاسح
لأن تكون للبلاد قوة رادعة بسبب وجودها في منطقة خطرة تضم خمسا على
الأقل من القوى النووية. ويقول مؤيدو هذا التوجه انه ما من سبب يمنح
باكستان (الأفقر كثيرا) واسرائيل (الأصغر كثيرا) القدرة النووية وفي
الوقت نفسه يحرم ايران منها.
وفي الجهة المقابلة، يعلم كثيرون من صناع القرار
في طهران ان مساعيها النووية ستؤدي على الأرجح الى عزلتها ومعاناتها من
العقوبات بما يضعف الاقتصاد المنهك اصلا. اضف الى ذلك ان واشنطن ستستغل
الفرصة لممارسة مختلف انواع الضغوط العسكرية والسياسية التي يكمن ان
تقود في نهاية المطاف الى سقوط الصرح الذي وضع اساسه الخميني.
وهناك ايضا الخوف من ان تقصف الولايات المتحدة ـ
او اسرائيل ـ أية منشآت نووية يمكن ان تقيمها ايران مثل محطة توليد
الكهرباء في بوشهر التي يشارف البناء فيها على الاكتمال. وطهران تعلم
انها لن تكون قادرة على الرد الا عبر تنظيماتها اللبنانية والفلسطينية
الراديكالية، الأمر الذي سيرفع النقاب عن نظام هش ضعيف، وهو ما سيعزز
ساعد الذين يسعون لإطاحته في الداخل.
وثمة تقارير ايضا تفيد ان عملا مستترا يمكن ان
يوظف لنسف المشروع النووي الايرني. وتبعا لهذه فإن واشنطن جندت عددا من
عناصر «مجاهدين خلق» في العراق وحصلت على وعد من زعيم التنظيم مسعود
رجوي بشن هجمات تخريبية داخل ايران اذا ومتى كان ذلك ضروريا. خلاصة
القول اذن ان المشروع النووي الذي تسعى اليه حكومة طهران من اجل
حمايتها بدأ يتحول الى اكبر تهديد لوجود الجمهورية الاسلامية منذ عام
1980.
المصدر: وكالات، شبكة النبأ |