حين بدأت الشاشة الصغيرة تحتل مكان الآلة
الكاتبة الصغيرة الكهربائية في الثمانينات، شعر الكثيرون في أرجاء
مختلفة من المعمورة بنشوة لا حدود لها، لأنّ هذا الجهاز السحري
يوفر الوقت والطاقة ويساعد الكاتب على إنجاز أعماله في فترة زمنية
قياسية، حتى إن البعض راودته الأوهام بأن هذا الجهاز السحري الذكي
سوف يساعده على التفكير والأداء، وسوف يمكنه من وصول آفاق لم يكن
ليحلم بها من قبل.
وفي الوقت الذي لا ينكر أحد أهمية دخول الحاسوب إلى عالم الكتابة
والاقتصاد والمال، فإن الساحة الفكرية والمعلوماتية تشهد اليوم شبه
ردّة هادئة للعودة إلى التركيز على الإنسان وأهميته في الأداء
المعلوماتي والفني، إذ مهما كان علم الحاسوب متقدماً لا يمكن له أن
يحقق الأغراض المتوخاة منه من دون الاستثمار الدؤوب له من قبل
الإنسان المؤهل والكفؤ.
وفي الوقت الذي أرى أن الاستثمار العربي في التقنيات العالية ما
زال يحبو، فإن اعتماد الاعلام العربي بشكل شبه كامل ومطلق على ما
يوضع بين يديه من قبل الوكالات ومصادر الأخبار في العالم، يكاد
يجعل من هذا الإعلام ساحة لترجمة ما أجاد به الآخرون، وترديداً
ببغائياً للعناوين الأساسية والقضايا المتداولة دولياً، من دون أن
يكون لهذا الإعلام منشأ إخباري يطالع العالم كل يوم بقضاياه،
ويتناول هذه القضايا من زوايا تعبّر عن طموحات الإنسان العربي
ورؤيته وقلقه وأحلامه في المستقبل.
والمضحك المبكي في الأمر أن ردود الأفعال على قضايا مصيرية في هذه
الأمة أصبحت ترد إلينا من خارج حدود الأمة، لا بل أحياناً تعتمد
على مبادرات قام بها آخرون على الجانب الآخر من الصراع ولأسباب
خاصة بهم، فتتخذ عناوين رئيسية على صحف عربية، كان الأحرى بها أن
تتناول الموضوع بهذه الطريقة وبهذه الروح قبل سنوات، وقبل أن يقرر
شخص أو مجموعة أشخاص اتخاذ موقف سهل نقله عن وكالة أنباء أو وسيلة
إعلامية أخرى، ليتصدر إعلامنا الذي يعالج جميع قضايانا من خلال نقل
تقارير الآخرين عما يحدث لنا، ومن ثم عرض ردود أفعالهم علينا كي
نختار منها ما يناسبنا، لافتقارنا المطلق لردود الأفعال حتى بصدد
القضايا المصيرية لنا.
وسوف آخذ على سبيل المثال لا الحصر بعض ما شهدته الساحة الفلسطينية
في السنوات الأخيرة باعتباره أنموذجاً لاستهداف هذه الأمة حضارة
وهوية وشعباً. لقد طالت وسائل الإعلام الصهيونية من حماس والجهاد،
وقرنت اسمهيما واسم الإسلام بالإرهاب، وكل ما يفعله الإعلام العربي
هو أن ينقل لقارئه ما جاءت به الوكالات من خلال نقل وتصوير وقطع
ولصق على الشاشة، لا يستغرق من الوقت سوى بضع ثوان. ولكن ومنذ أشهر
ظهرت مقالة في «النيويورك تايمز»، تتحدث عن الخدمات الاجتماعية
التي تقوم بها حماس في الأراضي المحتلة من تمويل للمدارس والمشافي،
فنقل الاعلام العربي ذلك على استحياء من دون أن يدخل في مناظرة
فكرية عن هدف اتهام مثل هذه المنظمات بالإرهاب. وبعد ذلك أقام بعض
اليهود دعوى على شارون ورئيس أركانه للجرائم التي يرتكبانها يومياً
بحق الفلسطينيين، وكانت هذه هي المناسبة التي يتحدث بها الاعلام
العربي عن جرائم هؤلاء.
أما حين امتنع خمسة وعشرون طياراً إسرائيلياً عن قصف المناطق
الفلسطينية المحتلة وامتنعوا عن الامتثال لأوامر شارون في تنفيذ
أوامر بالقتل، فقد وجد الإعلام العربي مناسبة للحديث عن هؤلاء من
دون أن يتوجه برؤية جديدة تتساءل أصلاً عن صمت العالم عن هذا
الأسلوب الوحشي والإجرامي الذي يمارسه شارون منذ سنوات ضد شعب آمن
يُسلب حقه وتحتل أرضه والعالم صامت، ولم تتحول هذه المبادرة إلى
صرخة إعلامية دولية في وجه الطغيان، ولم تكرس الفضائيات العربية
الوقت لها لتتساءل أين الديمقراطية وحقوق الانسان، حيث تمّ
الاستغناء عن خدمات من لا ينصاع إلى أوامر القتل والاجرام والارهاب.
وحين تزوج جنديان أمريكيان امرأتين عراقيتين تعرضا للعقاب، واتخذت
بحقهما إجراءات قاسية، والسؤال هو: ما هو الهدف من ذلك؟ أهو احتجاج
على مساواة انسانية بين المحتل وضحية الاحتلال؟ أم هو تعبير عن
حقوق إنسان ترسم وفق الإرادة السياسية والعسكرية لقوى احتلال منظمة
تمكنت من تطويع الإعلام الحديث ليعبر فقط عما تجود عليه به قيادة
هذه القوات من وجهات نظر وتحاليل ورؤى معرفية وسياسية مستقبلية.
والأمثلة أكثر من أن تحصى، إذ أن استعراض الصحف العربية اليومية
يترك المرء بشعور ثقيل أنه استعرض ما يقال عنه وما يُكتب عنه وما
يريد له الآخرون أن يكون، ويخلص بشعور من الغضب لأنه لم يجد ذاته
ولم يسمع صوت قضيته ولم يرَ ما يعبر عن دواخله وعن رؤيته ووجهة
نظره. لا بل والأدهى من ذلك هو أنه يقرأ حتى في زوايا الرأي أحياناً،
ترويجاً لعناوين خطّها الآخرون لتقويض الهوية والانقضاض على
الحضارة والتاريخ، وإقناع أبناء لغة الضاد بأنهم لا يستحقون مكاناً
تحت الشمس وأن احتلال الأرض هو نتيجة طبيعية لفشلهم في الارتقاء
بأنظمتهم إلى المستوى العالمي المطلوب.
لقد انقسم اليوم رواد الفكر والرأي إلى مجموعة كسولة تقتفي أثر
الأخبار العالمية، وتقتبس مما صمّمه لنا أعداؤنا والطامعون فينا
ومجموعة أخرى راهنت ربما نتيجة اليأس على أن القادمين الجدد إلى
منطقتنا قد يوفرون خياراً أفضل، وقد يغيّرون ما نفد صبرهم في
محاولة تغييره، بينما خفت ضوء حاملي الشعلة الحقيقية وراء ستارة
سوداء قاتمة ناجمة عن معاناة طويلة ويأس وإحباط وافتقار كامل
لآليات عمل مشجعة قد تشير، على الأقل، إلى الخطوة الأولى في
الاتجاه الصحيح. إنني أرى أننا غارقون جميعاً في سيل من الفكر الذي
لا يمثل فكرنا ولا يحمل مصلحتنا ولا يعد بمستقبل أو حتى باستمرار
الحال، رغم مساوئه الجمة التي ندركها جميعاً، ولكنه ينذر بأيام
أصعب، وبأخطار قد لا ندرك أبعادها اليوم، وبمستقبل قد يجعل الماضي
يبدو لنا جميعاً وكأنه الفردوس المفقود. إنني أرى أمة تسير هائمة
في بحر عاتي الأمواج من دون منارة ترشد السفن المبحرة إلى برّ
الأمان، ومن دون مرجعية إعلامية فكرية أو استراتيجيات واضحة تدرك
بداية السطر ونهاية الصفحة، وتمثل التبعية الإعلامية التي نعاني
منها اليوم إحدى نتائج هذه الحالة، وإحدى أخطر أدوات استمرارها
أيضاً. ولا بدّ من وقفة جريئة وكسر هذه الحلقة المفرغة والاعتراف
بحجم الخطر وتغيير الوجهة تماماً إلى وجهة يمثل فيها العمل
الإعلامي اليومي مسؤولية وطنية يمارسها كل محرر وكاتب وناقد بشعور
عال من المسؤولية، كي يمثل هذا الإعلام مصدر خبر حقيقي لقضايا هذه
الأمة، ويتوقف عن كونه متلقياً غير مكترث ينقل لقراء الضاد ما يخطط
لهم الآخرون، وما يفكرون به عن قضاياهم وما يتخذونه من مواقف معهم
أو ضدهم. لا بدّ من إعادة حضور قضايانا في عصر السرعة والمعلوماتية،
ولا بدّ من إعادة النظر بهدف وطرق استخدام تكنولوجيا المعلومات في
الإعلام العربي.