الإنسان كائن مركب روح وعقل وضمير وعواطف وجسم،
ولا يمكن استقامته إلا بالاهتمام بالتركيبة الكاملة له دون تقديم جانب
على آخر، وإلا فالفشل نُصب عيوننا، كما هو الحال في المدينة الغربية
التي آثرت الجانب المادي في الإنسان على الجوانب الأخرى لم تخلف إلا
الأزمات فجُلّ ما فعلته المدنية الغربية حتى اليوم ـ هو أنه وسعت نطاق
المحسوسات، وبذلك أكثرت من شهوات الجسد وحاجاته إلى حد أن الحصول عليها
أصبح مقتلة للروح والجسد معاً.
فهي ما أكثرت خيرات الأرض حتى أكثرت البطون
الفارغة منها بإكثار البطون المتخمة بها.
وهي ما أطالت متوسط العمر سنة حتى أطالت شقاؤه
سنين. ولا قربت المسافات بين تخوم الأمم فرسخاً حتى أبعدتها بين قلوبها
فراسخ. ولا نشرت العلم حتى نشرت الجهل مطوراً أكثر.
ولا قصرت ساعات العمل حتى مددت ساعات الطيش
والرذيلة والفحشاء.
فلا عجب من الأزمات واحدة تلو الأخرى اقتصادية
وسياسية واجتماعية ونفسية وأخرى وأخرى..
فالناس عندما رأوا نتائج المادية البحتة من
التفكك الأسري والتدهور الأخلاقي والخواء الروحي فلا تعامل إلا
بالقانون يتم تجاهل أهم قاض يحتكم إليه الإنسان في دنياه بعد الله (عزوجل)
ألا وهو الضمير. وكيف أن غياب الضمير الحي وسيطرة النزعة المادية أحالا
الإنسان الغربي بعامة ـ إلى عقل فقط دون روح: عقل ينتج ويبدع، وآخر
يدمّر ويسفح أضعاف ما بثني.
عندها يحاولون التمسك بأية فكرة أو دعوة توصل
إلى الروح والعواطف ـ وما إقبال الناس خصوصاً الغربيون ومَن هم في
ركبهم على روايات (هاري بوتر) الحاكية عن عالم السحر والسحرة والجن
والشياطين... وما إقبالهم إلا تنفيس عن أرواحهم المتعبة وإشباع
لرغباتهم الروحية والعاطفية.
والفن في الغرب الروح فيه مطية للمادة فالكتاب
لا يتورعون عن الأضرار والمفاسد للأطفال أو المجتمع بأكمله إذا ما درّ
عليهم الربح الوفير فلا يهمهم سوى المادة.
ففي الوقت الذي تتجه معظم القصص والروايات
المكتوبة للأطفال إلى الخيال العلمي، ومحاولة التنبؤ بم سيجلبه العلم
لنا من مبتكرات أو اختراعات واكتشافات يستخدمها الإنسان ـ مستقبلاً ـ
ليحقق عن طريقها أحلامه وطموحاته التي لا تتوقف عن حد، وفي الوقت الذي
يتجه فيه أبناؤنا وشبابنا بكامل طاقاتهم إلى محاولة الاستفادة القصوى
مما أبدعه العقل البشري علمياً وتكنولوجياً، وخاصةً من خلال جهاز
الكمبيوتر وشبكة الانترنت.
في هذا الوقت، تسير الكاتبة الإنجليزية ج. ل.
رولينج في اتحاد مضاد تماماً، لتعود بنا ـ من خلال أجزاء رائعتها (هاري
بوتر) ـ إلى عالم السحر والسحرة، والجن، والشياطين، والتعاويذ، والعظام
البشرية، أو الهياكل العظمية، وأظافر الإنسان، ومخالب الحيوان، والمسخ،
والدماء، والموسيقى السحرية، والثعابين، ولغة الثعابين (التي يعرفها
هاري بوتر بالوراثة).
والأطعمة المتعفنة أو الفاسدة، والتركيبات
السحرية للأعشاب والنباتات والحشرات، والفراشات الملونة، والوطاويط،
والقطط، والشموع الكئيبة، والمخلوقات الغربية الأخرى، مثل طائر العنقاء
(الذي يتجدد كلما احترق) وما في الطبيعة عموما ًمن أشياء لا يزال لها
مفعول السحر في النفوس، بل الأجساد البشرية، وغير البشرية، بل مشاعر
الموتى وأحاسيسهم (مثل ميرتيل الفتاة الميتة التي تسكن في حمامات
الطالبات غير الصالحة للاستخدام، والتي تقول: الآن يأتي الناس ليقتحموا
موتي)... الخ.
ومن هنا يأتي التساؤل كما سبق من خلال موقع (ميدل
إيست أونلاين) الذي أورد الخبر، هل ملّ القارئ المعاصر من عالم الخيال
العلمي، وأراد العودة إلى الخيال الأسطوري، أو الخيال السحري، وإلى
القوى الخفية داخله، التي نجحت رولينج في تجسيدها فنياً من خلال (هاري
بوتر)؟ والتي تؤمن ـ كما جاء على لسان الآنسة جرانت ـ بأن الأساطير
تعتمد دائماً على أصل من الحقيقة، وأن حب الفضول عند الإنسان يدفعه
دائماً إلى البحث عن المجهول والمثير والغامض من الأمور؟.
أم استنفد أدب الخيال العلمي أغراضه، وأصبح
مكروراً ومعاداً، وشعرت رولينج بذلك، فقررت اختيار بديل آخر هو الخيال
الأسطوري من خلال السحر والسحرة، والذي هو على النقيض من أدب الخيال
العلمي؟ ومن خلال بناء روائي كلاسيكي، لا مجال فيه للمغامرة الفنية، أو
التمرد على الشكل الكلاسي القديم؟.
وإذا كان أدب الخيال العلمي يتجه دائماً إلى
المستقبل، فإن أدب السحر أو الخيال السحري والأسطوري دائماً ما يتجه
إلى الوراء أو إلى الماضي. ومن خلال (هاري بوتر) نجد أن الكاتبة ـ في
سبيل حل بعض شفرات روايتها، وإضافة نوع من الإثارة والغموض والتشويق ـ
تعود إلى تاريخ إنشاء مدرسة هجوورتس لتعليم فنون السحر التي بنيت منذ
ألف عام، وإلى بعض الكتب التي كتبت في العصور الوسطى، وإلى حجرة
الأسرار التي لم تفتح منذ خمسين عاماً.
إن هذا النجاح المدوي ـ عالمياً ـ لسلسلة روايات
(هاري بوتر) ـ خاصة بعد أنعالج الفن السينمائي الجزء الأول (حجر
الفيلسوف) ـ لابد أن يطرح أسئلة كثيرة على الأدباء الذين يكتبون خيالاً
علمياًن وعلى القراء أيضاً.
فانتظار الملايين من القراء في العالم لأجزاء
جديدة من (هاري بوتر)، وقلقهم على تأخر الكاتبة في طرح أجزاء جديدة، بل
البدء في تشككهم حول نبع خيالها، وهل جف أم لا يزال يعطي؟
وأسئلة القراء الدائمة حول مصير الطفل (هاري
بوتر) في الأجزاء القادمة من الرواية، وغيره من عناصر التفاعل بين
القراء والعمل والمؤلفة، يدل على أن هذه السلسلة من الروايات تشبع
حاجات نفسية وعقلية وروحية، بل ربما قوى خفية أخرى لديهم، لم تنجح
روايات الخيال العلمي في إشباعها.
تماماً مثلما تنجح بعض الأفلام الرومانسية في
حياتنا الآن، في إشباع جوانب إنسانية ووجدانية لدى الإنسان المعاصر،
ولعلنا نضرب لذلك بفيلمي (قصة حب) و(تيتانيك).
يرى الكاتب سمير اليوسف في مقاله (ظاهرة هاري
بوتر) أن هاري بوتر محظوظ بالفعل! ولعل هذا هو سر الاحتفاء الهائل
بسلسلة كتبه، كقصص وكظاهرة ثقافية ومشروع تجاري وهذه، ومن دون شك، قصة
نجاح تجارين خرافية، ولا تقل خرافية عما يدور في فصص هاري بوتر من
حوادث.
فمشروع كتاب متعدد الأجزاء كهذا كان من الوارد
أن ينتهي في سلة المهملات، شأن الكثير من الكتب التي تصل يومياً إلى
مكاتب دور النشر، غير أن الحظ حالفه، وفي غضون ستة أعوام بلغت مبيعات
ما در منه 200 مليون نسخة، وبما يترجم في لغة عالم السوق والتجارة، إلى
مئات الملايين من الجنيهات الاسترلينية.
أما عن أدب الخيال العلمي ـ الذي تأتي رولينج
لتحطم قوة تأثيره الحالية ـ فتعرفه الباحثة الروسية د. فالنتينا
ايفاشيفا ـ في كتابها (الثورة التكنولوجية والأدب) ـ بأنه: (صورة من
الأدب الامتاعي بغض النظر عن درجة المعرفة العلمية التي قد يكون الخيال
العلمي قائماً عليها). وتضيف (أن الغالبة الساحقة من كتب الخيال العلمي
تتناول التنبؤات العلمية والمجتمعات المثالية فيَّ في صور خيالية).
وبذلك يرتبط الخيال العلمي ارتباطاً وثيقاً بالتطور العلمي والتكنولوجي
المطرد.
لم تحاول رولينج السير في هذا الاتجاه، ولم تلجأ
على الإطلاق إلى التكنولوجيا وأسرارها العلمية، ولكنها لجأت ـ على سبيل
المثال، في الجزء الثاني (حجرة الأسرار) (التي ترجمتها إلى العربية
رجاء عبد الله، وصدرت مؤخراً عن دار نهضة مصر بالقاهرة) ـ إلى الجني
دوبي الذي استطاع هاري بوتر أن يحرره من سيطرة الشرير مالفوي، ولعل هذا
يذكرنا بعلاء الدين والمصباح السحري، وإلى العباءة التي تخفي من يضعها
على جسمه، ولعل هذا يذكرنا بطاقية الإخفاء.
كما لجأت إلى السيارة الطائرة التي تعمل
بالبودرة السحرية أو بالبودرة الطائرة، وهنا نتذكر قصة البساط السحري
في ألف ليلة وليلة، وهي أفعال كلها ضد المنطق وضد العلم والتكنولوجيا.
إنها أعمال أشبه بالتي نجدها في عالم الخرافات
والأساطير القديمة، وفي عالم ألف ليلة وليلة على وجه التحديد، مما لا
يجدي معها مسألة عقلنتها أو تحليلها تحليلاً علمياً منطقياً.
كيف نفسر ـ علمياً ـ على سبيل المثال قصة سقوط
الطبق عندما ينظر هاري بوتر إلى السيدة ويزلي، أو ابنتها جيني (أخت
صديقة رون)، التي ينقذها هاري في نهاية (حجرة الأسرار) من الموت المحقق
على أدي ت. م. ريدل ـ صاحب المفكرة السوداء ـ والذي مات من قبل، مثلما
ماتت ميرتيل، ولكن دورهما في الحياة الروائية لم ينته بعد.
وكيف نفسر ـ علمياً ـ تحول النار إلى نسيم حار،
بعدما نثر هاري قبضة من البودرة بالمدفأة، ألا يذكرنا هذا بقصة أبي
الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) ـ عندما ألقاه قومه في النار، فكانت
برداً وسلاماً بأمر الله.
إنها أفعال قد تفسر أو تخضع ـ في الدين ـ
للمشيئة الإلهية، وفي ـ (هاري بوتر) ـ لفعل السحر والسحرة والقوى
الخفية في الإنسان، وللمنطق الروائي لدى رولينج، الذي لا يعد منطقاً
على الإطلاق، من الوجهة العلمية أو التكولوجية.
إن السحر حقيقة لا مراء فيها، ورد ذكره في
الديانات السماوية، وفي الكتب المقدسة، وفي القرآن الكريم، على الرغم
من رفض جميع الأديان السماوية له.
يقول شحاتة محمد شحاتة في كتابه (السحر الأسود):
(السحر علم حقيقي، بدليل ما ورد في القرآن الكريم في سورة البقرة:
الآية 103: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان
ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل
هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر
فيتعلمون منهما ما يفرقونه به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد
إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم).
ويشير شحاتة إلى أن الشياطين كانت في عهد سليمان
تتلو على الناس السحر، وإلى أن اصل السحر يبتدئ منذ عهد الملكين هاروت
وماروت بأرض بابل، أو على الأقل أنهما كانا قد بلغا بالسحر منتهاه،
فلزمت الإشارة إليهما في الآية الكريمة.
وفي إشارة أخرى من الكاتب، يقول إن العلماء
اجمعوا على أن السحر إنما بدأ عند الماجي (آشور وبابل) وإنه انتقل من
هنالك إلى شتى أرجاء الأرض.
ويعتقد البعض أن السحر أبو العلوم جميعاً، أو
العلم الصحيح الوحيد، ويعتقد فريق آخر أن السحر مجرد ترهات وخزعبلات.
وليس هناك شك في أن نجاح سلسلة روايات (هاري
بوتر) على هذا النحو الذي نراه الآن يؤكد وجهة نظر شحاته محمد شحاته
التي تقول: (إن قصص السحر والسحرة، والشياطين والمردة والجن كانت من
أكثر القصص ذيوعاً.
وقصة هاروت وماروت وسحر بابل، وموسى وفرعون
وسحرته، وسيمون الساحر، ولوسيفر، وبان، وأهريمان، وخاتم سليمان،
والمربع السحري، وهرمز، وكتاب أخنوخ، وعشرات الآلاف غيرها من القصص
والروايات التي تتعلق بالسحر والسحرة والقوى الروحية الغامضة كانت كلها،
ولا تزال، تجارة رابحة للمؤلفين والكتاب).
هنا نصل إلى مكمن ذيوع ونجاح (هاري بوتر)،
ومؤلفه ج. ك. رولينج، التي أرادت أن تحفر اسمها في سجل الأدباء والكتاب
العالميين، أمثال زميلاتها السابقات عليها:
أجاثا كريستي، وسيمون دي بوفوار، وفرجينيا وولف،
وغيرهن، فاختطت طريقاً غير مألوف في نهاية القرن العشرين، وبداية
الألفية الثالثة، وإن كانت كتب التاريخ القديم، وكتب الأساطير، لا تخلو
منه، هو طريق الكتابة عن عالم السحر والسحرة، والسحر الأبيض مقابل
السحر الأسود (سحر الشياطين)، ليكون كل هذا تحرراً من قبضة العلم
والتكنولوجيا التي ربما ستجرف الإنسان بعيداً عن إنسانيته، وعن القوى
الخفية الكامنة فيه، والتي لم يكتشف معظمها حتى الآن. |