اشعر ، وكان العرب والمسلمين قلقون على هوية
العراق الجديد ، ربما بسبب التفسير الخاطئ لبعض تصريحات العراقيين
وكتاباتهم ، أو لعدم استيعابهم حقيقة ما يشهده العراق من متغيرات
وتطورات ومواقف ، والتي تميزت بالسرعة الخاطفة التي قد لا تمنح المتابع
الفرصة للحاق بها الواحدة تلو الأخرى ، أو جراء سياسات الإعلام العربي
المغرض الذي يصر على رؤية الحدث العراقي بعين واحدة ، فيضخم قضايا ويغض
الطرف عن أخرى ، أو يسلط الضوء على أحداث ويتجاهل غيرها ، مستهدفا
التشويه والتعمية والتشويش ، بالضبط كما كان يفعل فترة نظام صدام حسين
البائد ، إذ ظل وقتها يبرر للديكتاتورية والنظام الشمولي جرائمه ،
ويبحث عن الحجج والأعذار لحروبه العبثية وسياساته المتهورة
واللاعقلانية التي دمرت العراق كليا ورمت به تحت سلطة الاحتلال ، حتى
إذا سقط النظام وانهارت بنيته البوليسية ومؤسساته الإرهابية بطرفة عين
، انكشف كل شئ على حقيقته وفوجئ الرأي العام العربي والإسلامي على وجه
الخصوص بمدى حجم الكذب والتزوير الذي كان يمارسه هذا الإعلام المضلل
وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن وبالذات خلال العقد الأخير من
القرن الماضي .
ومن اجل توضيح بعض الحقائق وإماطة اللثام عن
جملة القضايا الأساسية التي يعيشها العراق والعراقيون منذ سقوط النظام
البائد ، تطمينا للعرب والمسلمين وتصحيحا لرؤيتهم المشوشة ، اكتب
رسالتي هذه وابعثها لهم ، راجيا أن تجد الآذان الصاغية والعقل المنفتح
والعين البصيرة والقلب السليم القادر على الاستيعاب من كل أشقاء العراق
وإخوانه بعيدا عن التعصب الأعمى والتعامي المقصود والكراهية المقيتة
والأحكام المسبقة المدمرة والتعاطف الأعمى مع النظام المعزول والتشبث
بالشعارات الرنانة الفارغة التي ما قتلت ذبابة .
مما يهمس به البعض ، قولهم أن العراق تنازل عن
هويته العربية وتخلى عن التزاماته الإسلامية ، فلم يعد يهمه العودة إلى
محيطه العربي وعمقه الإسلامي ، فالعراق للعراقيين ، ولا شان لهم
بالمشتركات الاستراتيجية مع الآخرين .
هذا الكلام بالتأكيد لا أساس له من الصحة وهو
يفتقر إلى الدقة والصدقية وابعد ما يكون عن الواقع ، فلا زال العراق
يحرص على أن يكون عضوا فاعلا ونشيطا في محيطه العربي أولا ، ولذلك
رأينا كيف حرص العراقيون على أن لا يتركوا مقعد بلادهم فارغا في جامعة
الدول العربية ، فوقفوا بوجه التحديات ولم يثنهم التيار الذي نشط ضد
إرادتهم ليحرمهم من حقهم الطبيعي ، هذا ، بالرغم من أن الجامعة لم تعد
تعني شيئا لا لهم ولا لغيرهم أو تنفع في شئ أو يرتجى منها شيئا ،
ولكنهم أصروا على انتزاع حق التمثيل فقط ليغلقوا الباب أمام المتصيدين
بالماء العكر ، وحتى لا يقول المغرضون بان العراقيين يفكرون جديا
بالانفصال عن محيطهم العربي ولذلك فهم غير مكترثين بمقعدهم في الجامعة
، أملئ أم بقي شاغرا ، فكلا الأمرين عندهم سواء .
كذلك يحاول العراقيون أن يرموا بأنفسهم على
العرب بمناسبة وبغير مناسبة ، من خلال زياراتهم المكوكية وجولاتهم
المتكررة للعديد من العواصم العربية ، لدرجة أنهم باتوا يشعرون بالحرج
، وهم يرون زهد العرب فيهم وشدة رغبتهم بالعرب .
ولكن مع كل ذلك سيظل العراقيون يحاولون ويحاولون
إيجاد الفرص وخلقها وانتهازها واصطيادها لشرح وجهة نظرهم لأشقائهم
العرب في محاولة منهم لإيجاد مساحات الفهم المشترك والتفاهم المتبادل
لظروفهم الاستثنائية ، وهم بذلك يلقون الحجة تلو الحجة على الشعوب
العربية مع ما لهم عليها من حجج بالغة كثيرة.
نرجو أن يفهم العرب رسالة العراقيين ، ويتعاملوا
معها بشكل ايجابي ،ويتلقوها برحابة صدر وعقلية متفتحة.
بشان محيطهم الإسلامي ، أطمئنكم ، فلا زال
العراقيون على دين محمد ـ ص ـ يوحدون الله ويصلون للكعبة المشرفة قبلة
المسلمين ويصومون شهر رمضان الكريم ويحجون بيت الله الحرام ، وأبشركم ،
فلازال العراق هو مصدر الوعي الإسلامي الأول والحقيقي لكل المسلمين ،
لما فيه من خيرة العلماء والفقهاء والمراجع والمفكرين والاستراتيجيين
الإسلاميين المتنورين ، وبما يزخر من مؤسسات دينية علمية عريقة ، همهم
الإسلام الذي يتسع العالم ، وتفكيرهم يتخطى حدود العراق الجغرافية ،
وان العراقيين من أكثر شعوب العالم فهما ووعيا والتزاما بالإسلام
وتعاليمه وقيمه وأخلاقه وعباداته وأوامره ونواهيه ، حتى لقد فوجئ
الزوار الإيرانيون الذين يعبرون الحدود لزيارة العتبات المقدسة في مدن
النجف الاشرف وكربلاء المقدسة والكاظمية المقدسة وسامراء المقدسة ،
بهذا الشئ وقالوا بأنهم فوجئوا بالحالة الإسلامية في العراق بدءا من
الحجاب مرورا بالأخلاق الإسلامية وليس انتهاءا بالالتزام الديني ،
والتي لم يجدوا مثلها حتى في بلادهم ـ دولة ولاية الفقيه ـ على حد
تعبيرهم ، هذا بالرغم من سياسة القتل والبطش التي مارسها النظام البائد
طوال عقود من الزمن بهدف تدمير الإسلام وقتل تعاليمه في نفوس العراقيين
ووعيهم ، إلا أن الإسلام ظل هو الدين بالنسبة للعراقيين وهو القيم وهو
الثقافة وهو التاريخ وهو كل شئ بالنسبة لهم .
حتى الحزب الشيوعي العراقي أعلن أخيرا بأنه
يحترم الدين ويقدس قيمه وأخلاقياته وتعاليمه وأوامره ونواهيه ، فلم يعد
الدين برأيه أفيون الشعوب ، كما ظل يعتقد بذلك على مدى أكثر من نصف قرن
من الزمن ، ولذلك لم يعد فقهاء العراق ومراجعه ينظرون إلى الشيوعية
بأنها كفر والحاد .
كما لم يعد يصف التحرك الإسلامي في أدبياته
بالرجعية كما دأب على ذلك في الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن
الماضي ، ولذلك تحالف مع التيار الإسلامي وشاركه مقاعد مجلس الحكم
الانتقالي .
ثم ، لا اعتقد أن منصفا لم يسمع أو يقرا عن
السجال المحتدم هذه الأيام في العراق بشان موقع الدين ومؤسساته في
الدستور العراقي الجديد ، وفي عموم حياة العراقيين ، كما رأينا جميعا
كيف يحترم السياسيون المرجعيات الدينية التي لا يعلو أي صوت فوق صوتها
الحكيم والمتزن ، ولذلك لم يشأ أو يفكر احد بتجاوزها عند مناقشة أية
قضية تخص الشأن العام ، خاصة في قضية هامة واستراتيجية كقضية تدوين
الدستور الجديد الذي هو عصب الحياة وخارطة الطريق للعراق الجديد ،
فرأيناهم بين غاد ورائح لبيوت المرجعيات يسالون ويستفسرون ويحاورون
ويستمعون إلى نصائحها ووجهات نظرها .
ألا يعني كل ذلك ، أن العراقيين لا زالوا
متمسكين بدينهم وأصولهم بالرغم من كل الظروف القاسية والقاهرة التي
مروا ويمرون بها ؟
وعندما نسمع أو نقرا أحيانا مواقف متشنجة من
عراقيين إزاء العرب والمسلمين والتي تعبر عن نفاذ صبرهم ، يلزم
المنصفين أن يبرروا لهم ، ويقدروا معاناتهم ، فلو كان غير العراقيين
مكانهم وتعرضوا من ذوي القربى لكل هذا الظلم والتجاهل لمعاناتهم ،
لاتخذوا نفس الموقف ، بل لكفروا بكل ما يمت إلى العرب والعروبة بصلة من
قريب أو بعيد ، ولكفروا بدينهم ، وكلنا سمع وقرا التصريحات الأخيرة
للعبقري ـ الإفريقي ـ الجديد المسمى قذافي ، الذي دعا شعبه المغلوب على
أمره إلى الكفر بالعروبة والانعتاق من محيطه العربي والارتماء في الحظن
الإفريقي الأسود ، لأنه تضرر من العرب أكثر مما انتفع منهم ، وكان
الانتماء القومي مصالح فقط اولباس يرتديه المرء متى يشاء وينزعه أو
يستبدله متى أراد ذلك أو هوى .
جربوا أن تبرروا للشعب العراقي مرة ، وستربحون ،
كما حاولتم أن تبرروا للنظام البائد مليون مرة وأخيرا .. فشلتم وخسرتم
الصفقة والتجارة وكل رهاناتكم .
امنحوا العراقيين فرصة التقاط الأنفاس ، لينهضوا
من تحت ركام وأنقاض النظام الشمولي الإرهابي البائد الذي لم يخلف لهم
سوى المقابر الجماعية وضحايا حملات الأنفال والأسلحة الكيماوية في
حلبجة وحروبه العبثية وسياساته المتهورة الرعناء ، وبنى تحتية مدمرة
واقتصاد منهار وديون رهيبة وحدود مستباحة .
لا تصدقوا إن قيل لكم بان العراقيين راضون
بالاحتلال ، أو أنهم يقبلون التدجين حتى يندمجوا معه أخيرا ، أبدا ،
فالعراق يستعصي على الاحتلال ، والعراقيون لا يقبلون بالقهر والظلم تحت
سلطة المحتل مهما كلف الثمن ، وإنما هم يسكتون اليوم على الظرف
الاستثنائي الطارئ ويؤجلون المعركة ضد الاحتلال ، لأنه أنقذهم من كابوس
ثقيل ظل جاثما على صدورهم ممسك بأنفاسهم طيلة خمسة وثلاثين سنة عجاف ،
حاولوا استصراخ ضمائر العرب والمسلمين لإنقاذهم ولكن ـ أسمعت لو ناديت
حيا ، ولكن لا حياة لمن تنادي ـ .
إنهم يتعاملون معه كأمر واقع كان السبب في إسقاط
النظام البائد بعد أن يئسوا وقتها من إمكانية أن يمد العرب والمسلمون
يد المساعدة لهم للتخلص منه فظل الجميع يتفرج على التراجيديا العراقية
عقود طويلة .
نتفهم حرصكم وقلقكم على العراق وهويته، ونفهم
سبب عدم فهمكم لمعاناة العراقيين وانشغالكم عنها اغلب الوقت ، لأنكم
جميعا ابتليتم بما يشبهها وان كان بدرجة أدنى بكثير وبنسبة اقل بكثير ،
ـ ديكتاتوريات ، أنظمة شمولية ، اقتصاد منهار ، جهل ، أمية ، تخلف ،
حرمان ، سحق منظم للحقوق المدنية والكرامة الإنسانية ـ ولكن مع ذلك
ندعوكم لان توسعوا أفق تفكيركم قليلا لتفهموا وتستوعبوا ماذا يجري في
العراق .
تحلوا بالإنصاف لان ـ من لا إنصاف له لا دين له
ـ كما ورد في الحديث الشريف ، فستجدون بان العراق اليوم اقرب إلى هويته
العربية والإسلامية من أي يوم آخر مضى ، فلقد عادت إليه نسائم الحرية ،
وبالحرية يصون الشعب هويته ، كما عادت إليه كرامته ، وبالكرامة يحافظ
المرء على دينه ، كما عاد إلى مفاصله دور العلماء والفقهاء والمثقفين
والإعلاميين المتنورين والقادة الوطنيين ، فكم من عالم وفقيه ومجاهد
وقائد وكاتب ومفكر عاد إلى العراق بعد عقود الهجرة والتغرب والمطاردة ،
ليساهم في إعادة بناء وطنه الذي دمرته الديكتاتورية البغيضة .؟
انتظروا قليلا واصبروا عليهم ففي التأني السلامة
وفي العجلة الندامة ، ونحن لا نريدكم أن تندموا أبدا ، فلا تتسرعوا في
إصدار الأحكام واتخاذ القرارات فتظلموا أنفسكم وشعبا كاملا فتندمون
وعندها ـ ولات حين مندمـ .
إن العراقيين يريدون التخلص من الاحتلال اليوم
اليوم وليس غدا ، فلماذا لا تمكنونهم وتساعدونهم على تحقيق هذا المطلب
من خلال الدعوة لوقف عمليات التخريب والإرهاب مثلا أو على الأقل
إدانتها ، أو من خلال التعاون معهم وتقديم يد العون إليهم .
إن العراقي بطبعه يستعصي على التدجين والتغرب
وتغيير الهوية ، فهو لا يشبه اللبناني مثلا أو الصومالي أو الإيراني أو
غيرهم من أقران ، وبمرور سريع على حال العراقيين في بلاد المهجر يتضح
صدق هذا الادعاء بشكل لا يقبل الجدل ، فبالرغم من مرور نصف قرن على
وجود بعض العراقيين في بلاد المهجر من اللذين اضطرتهم الظروف الأمنية
والسياسية إلى ترك بلادهم ومسقط رأسهم ، إلا أنهم لا زالوا يعيشون
كعراقيين سواء في أميركا أو كندا أو استراليا أو أوربا أو أي مكان آخر
، لم تغيرهم الطبيعة ولم تلو عنادهم الظروف ولم تكسر تحديهم ماديات
الحضارة الغربية ، انه يظل عراقي الطباع في النجف والبصرة والموصل
واربيل وكربلاء وبابل ، كما انه يظل عراقي الطباع في أي مكان في العالم
مهما تقادم الزمن على غربته .
انه يحافظ على دينه وصدقه وكرمه وغيرته وعنفوانه
ورفضه للظلم والعدوان والقهر بالقوة ، أينما حل به الزمان والمكان .
لذلك أقول بالفم المليان وبضرس قاطع ، اطمئنوا ،
فستبقى هوية العراق عربية إسلامية لا تغيرها التحديات أبدا أبدا أبدا .
[email protected] |